تفصیل الشریعة فی شرح تحریرالوسیلة: الاجارة الاجتهاد و التقليد

اشارة

سرشناسه : فاضل لنکرانی، محمد، 1310 - 1386.

عنوان قراردادی : تحریر الوسیله . برگزیده. شرح

عنوان و نام پديدآور : تفصیل الشریعة فی شرح تحریرالوسیلة: الاجارة/ تالیف محمد الفاضل اللنکرانی ؛ تحقیق مرکز فقه الائمةالاطهار.

مشخصات نشر : قم: مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)، 1392.

مشخصات ظاهری : 688 ص.

شابک : 978-964-7709-09-5

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

يادداشت : کتابنامه: ص. [669]- 676؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368 . تحریر الوسیله -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- رساله عملیه

موضوع : اجاره (فقه)

شناسه افزوده : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368 . تحریر الوسیله. برگزیده. شرح

شناسه افزوده : مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)

رده بندی کنگره : BP183/9/خ8ت30237212 1392

رده بندی دیویی : 297/3422

شماره کتابشناسی ملی : 3392331

المقدّمة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّٰه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على أشرف بريّته و أفضل أنبيائه محمّد و على عترته و أهل بيته، و سيّما وليّ أمره و خاتم أصفيائه الحجّة بن الحسن المهدي روحي و أرواح العالمين له الفداء، و لعنة اللّٰه على أعدائهم و مخالفيهم، الذين يريدون ليطفئوا نور اللّٰه بأفواههم و يأبى اللّٰه إلّا أن يُتمّ نوره و لو كره المشركون.

و بعد فممّا منّ اللّٰه سبحانه تعالى على عبده الضعيف الذليل محمّد الموحدي الشهير بالفاضل ابن العلّامة الفقيه الفقيد آية اللّٰه المرحوم الشيخ فاضل اللنكراني قدّس سرّه الشريف، و حشره مع من يحبّه و يتولّاه من النبيّ و الأئمّة الطاهرين صلوات اللّٰه و سلامه عليه و عليهم أجمعين أن وفقه لشرح كتاب «تحرير الوسيلة» للأُستاذ الأكبر زعيم الأمّة الإسلامية، و قائد الثورة الدينية

الإيرانية، محيي الشريعة، و مؤيّد الدين، سيّد الفقهاء و المجتهدين، آية اللّٰه العظمى الحاج السيد روح اللّٰه الإمام الخميني، أدام اللّٰه ظلاله الوارفة على رءوس الأمّة الإسلامية، و متّعهم ببقاء وجوده الشريف.

و لو أُريد الوقوف على شرح حاله و خصوصيّاته و كيفيّة قيامه في مقابل الاستعمار الذي أحاط بكلّ شي ء و كلّ شأن و كلّ فرد من الشعب الإيراني، و مقابلته معه بحيث

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، المقدمة، ص: 4

ساقه إلى الزوال و قطع أُصوله و فروعه لاحتاج إلى تصنيف كتب متعدّدة ضخمة مشتملة على ما لم يكن معهوداً في التاريخ، و لا موجوداً في الكتب و لا مسموعاً من الألسن، كيف و قد قطع الطاغوت الحاكم على إيران بأصله و فرعه مع كونه مستظهراً بالقدرة الحاكمة على أكثر بلاد العالم؛ و هي قدرة عظيمة جدّاً، و كان ذلك في أقلّ من عشرين سنة مع طول تاريخ الاستعمار، و عمدته ترجع إلى ما يقرب من الستين، و قد حكم فيها الملعونان «رضا خان و ابنه». و كان الثاني أسوأ من الأوّل و الأوّل أسوأ من الثاني، ففي هذه المدّة الصعبة قد قطعت فروع الدين واحد بعد آخر بحيث كاد أن تقطع بتمامها، و الأُصول مشرفة على الزوال و الانقطاع، و لو كانت الحكومة بهذه الكيفيّة مستمرّة إلى اثنتين أو ثلاث سنوات لم يبق من الإسلام حتى اسمه، و لا من القرآن حتى رسمه.

كيف لا و قد بدّل التاريخ الهجري الإسلامي الذي هو من أعظم شعائر الإسلام و مظاهر المسلمين إلى تاريخ الكفر و الزندقة، و أمر بقتل المتظاهرين من الشعب المسلم من الروحانيين و غيرهم، و جرحهم و

إيذائهم و حبسهم و إقصائهم من بلادهم إلى بلاد بعيدة غير قابلة للإقامة و السكونة، و في اليوم الخامس و العشرين من شهر شوال المكرّم سنة 1382 المصادف لوفاة الإمام السادس جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السّلام)، حينما كانت المدرسة الفيضية المعروفة بقم، التي هي مركز العلم و معهد نشر المعارف الجعفرية و المآثر و العلوم النبوية مجتمعة فيها الطبقات المختلفة لإقامة العزاء على صاحب المذهب، فإذاً تهاجم عليهم المأمورون من قبله و معهم أنواع السلاح، فكم من مقتول و مضروب و مجروح، و قد أحرقوا العمائم و الألبسة المقدّسة و كتب التفاسير و الروايات و الفقه و غيرها، بل و المصاحف على ما هو المشهور.

و لم يتجاوز عن شي ء ممّا يوجب ضعف الدين و تزلزل عقيدة المسلمين، بل هيّأ جميع الوسائل المنتجة لذلك، و أسّس أُصول التعليم و التربية التي هي الأساس لتمدّن كلّ قوم على مبنى الاستعمار، و الانحراف عن الدين و العقيدة الإسلامية، بحيث قلّما يتّفق أن يتديّن من كان تعليمه و تربيته على منواله و أساسه.

و في هذا الحال كان سعيه على تضعيف الروحانيين، و الفصل بينهم و بين الناس

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، المقدمة، ص: 5

بتحقيرهم و التبليغ عليهم، و إراءتهم على خلاف ما هم عليه من ترويج الشريعة و تبليغ الحقيقة، و إرشاد الناس إلى كمالهم في الدنيا و الآخرة، مدّعياً للارتجاع فيهم و مضادّتهم للتمدّن و الرقي و الكمال و السعادة.

و بالنتيجة كان مطيعاً لدستور المستعمرين، و مجرياً لأوامرهم و أنظارهم من دون تخلّف و عصيان، و ذلك لأجل توقّف حكومته عليه و اشتراط بقائه به.

و لكن مع ذلك تفضّل اللّٰه

سبحانه على الشعب بأن أيقظهم عن نومة الغفلة و عدم الالتفات التي كانوا فيها عشرات السنين، و ذلك ببركة الروحانية و إرشاداتهم في طول سنين متعدّدة بطرق مختلفة من مكتوب و بيان و غيرهما.

و كانت القيادة و الزعامة في ذلك للإمام الخميني أدام اللّٰه ظلّه و أبقاه للإسلام و المسلمين، فقد أظهر علمه بعد ظهور البدع، و تحمّل لأجله مشاقّاً كثيرة من حبس و إقصاء من «قم» إلى «تركيا» ثمّ إلى «العراق» «1». ثمّ إخراجه منه و سفره إلى «باريس» و إقامته

______________________________

(1) و في أواخر إقامته في العراق ابتلي ببلاء عظيم تحمّلها حقّ التحمّل، و صبر عليها حقّ الصبر؛ و هي وفاة قرّة عينه و نور بصره و ثمرة فؤاده، العالم المجاهد، و الفاضل الكامل، الجامع للمعقول و المنقول، صاحب التآليف القيّمة و التصانيف الثمينة، صديقنا الأكبر آية اللّٰه الحاج السيد مصطفى الخميني قدّس سرّه الشريف، و حشره مع أجداده الطاهرين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين و لم تُعلم علّة وفاته مع كونه صحيحاً سالماً عن كلّ مرض، و قد لاقاه في ليلة وفاته جمع من أصدقائه معترفين بسلامته و عدم إحساسه للمرض بوجه. و المشهور أنّ العلّة هي دسيسة الحكومة الإيرانية الجائرة، و أمره بعض عمّاله و أياديه بذلك، و يؤيّده أنّه قد لاقاه في أواسط الليلة المذكورة بعض من لم يعرف إلى الآن، و الحق سيظهر يوم القيامة و المحاكمة فيه أيضاً.

و كان المرحوم في رأس أصدقائي من أول اشتغالي بتحصيل العلوم الدينية، و قد باحثت معه كتباً كثيرة من السطح و مباحث متعدّدة من الكتب الفقهية من الخارج، و لعمري أنّه كان في قوّة الذكاء و شدّة الاستعداد قليل النظير، و في

التأليف و الكتابة شديد التحمّل، طيّب اللّٰه ثراه و أعطى الصبر الجميل و الأجر الجزيل للمصابين به، سيّما والده الإمام أبقاه اللّٰه للمسلمين و الإسلام بحقّ النبيّ و الأئمّة الكرام عليه و عليهم الصلاة و السلام.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، المقدمة، ص: 6

فيه مدّة، و لكنّه في جميع تلك المدّة التي تزيد على خمس عشرة سنة، خصوصاً في أيّام إقامته بباريس أيقظ الأُمّة و أرشد الشعب، و كشف عن جنايات الحكومة و القدرة الحاكمة، و هداهم إلى طريق المبارزة و القيام في مقابلها، الذي هو الجهاد من المسلم في مقابل الكفر و الزندقة.

و نتيجة تلك الإرشادات تنبّه الأمّة و خروجهم عن الغفلة، و توجّههم إلى ما يجري عليه حال المملكة من إحاطة الاستعمار على جميع شئونها و جوانبها، و نهب المخازن و المعادن و المنابع بأجمعها، و في المقابل فقر الأمّة من جميع الجهات السياسيّة و الاقتصادية و الدينيّة و غيرها.

و بعد يقظتهم و قيامهم في مقابل الحكومة، و المظاهرات المتعدّدة المتعاقبة الموجبة للضحايا المتكثّرة، و استشهاد الذين يبلغ عددهم عشرات الآلاف، انهدم نظام الحكومة و انفصمت أركان السلطنة، بحيث اضطرّ من تقمّصها إلى الخروج من المملكة خروجاً لا رجوع بعده أبداً، و بذلك اختتم دوران الاختناق و الاستعمار، و لكنّه مع ذلك كانت بقاياه مانعة عن تشكيل الحكومة الجمهورية الإسلامية، و ذلك لأجل منعه عن رجوع الإمام إلى الوطن و إقامته مع الشعب، و لكن الممانعة قد ارتفعت بقيام الأمّة و مظاهراتهم، و لو تأخّر رجوعه عن الزمان الذي رجع فيه لخيف على المملكة.

و بعد رجوعه و استقبال عدد كثير خارج عن حدّ العدّ و الإحصاء عنه أمر

بتشكيل الحكومة المذكورة، و أمر بمتابعة الناس و إطاعتهم عنها، و بيّن أنّ الإطاعة عنها كالإطاعة عن مالك الأشتر حين ولّاه الإمام علي (عليه السّلام) على مصر.

و الأمّة بعد ذلك قد رأوا أنفسهم في مسير الدين الحنيف، و مجرى الشريعة المطهّرة، و محلّاً لهداية الكتاب العزيز، و إن وقعت بعده أيضاً حوادث ناشئة من عروق الاستعمار و بقاياه، و لكن تلك الحوادث لم تتمكّن من تغيير مسير الأمّة، و لم توجب خللًا في طريق الحقّ الذي وجدته بعد قرون متعدّدة، سيّما في القرن الأخير الذي بلغ

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، المقدمة، ص: 7

فيه الاستعمار المرتبة الكاملة و الاستثمار حدّا ليس فوقه حدّ، فنحمد اللّٰه تعالى على هذه النعمة الجارية على الأمّة ببركة الإمام، و نسأل منه إتمامها باستقرار الحكومة الإسلامية بجميع جوانبها و شئونها، و قطع بقايا الاستعمار و عروقه، و أن تتّصل هذه الحكومة بالحكومة المهدوية المنتظرة المسيطرة على جميع أقطار العالم إن شاء اللّٰه تعالى.

و أمّا ما يتعلّق بهذا الكتاب متناً و شرحاً فقد ألّف الإمام الماتن دام ظلّه المتن، كما أفاده في مقدّمته في مملكة تركيا حين ما أُقصي من إيران إليها، و إن وقع تكميله في النجف الأشرف بعد انتقاله منها إليه.

و أمّا الشرح، فقد شرعت فيه في بلدة «يزد» المعروفة بدار العبادة و الإيمان حين ما كنت مقيماً فيها بالإقامة الإجبارية من ناحية الحكومة الجائرة «1»، بعد ما أقمت في «بندرلنگه» من سواحل الجنوب ما يقرب من أربعة أشهر في أواسط الصيف، الذي تكون شدّة حرارة الهواء فيها منضمّة إلى شدّة الرطوبة غير قابلة للتحمّل، و لأجله قد خفت على نفسي مكرّراً، و

بعد الانتقال إلى البلدة المذكورة و الإقامة فيها شرعت في شرح الكتاب، و اشتغلت به جميع مدّة إقامتي فيها التي هي أكثر من سنتان و نصف، و وفّقت في تلك المدّة لتأليف مجلّدات متعدّدة منه، تعرّضت في آخر كلّ مجلد له، و استمرّ ذلك بعد تمامية مدّة الإقامة و الرجوع إلى بلدة قم، إلى أن بلغ إلى الآن اثنى عشر مجلّداً، نسأل اللّٰه تبارك و تعالى التوفيق للإتمام و لعلّه يبلغ أربعين مجلّداً بحقّ النبيّ الصادق للشرع و الأئمّة الكرام عليه و عليهم السلام و سمّيته ب «تفصيل الشريعة» في شرح «تحرير الوسيلة».

و قد بذلت الجهد في تبيين المطالب بعبارات قريبة إلى الطباع، و كلمات مقبولة عند السماع من دون إيجاز مخلّ و لا إطناب مملّ، و أسأل من القرّاء أن ينظروا

______________________________

(1) لأجل المبارزة معه تبعاً و اقتداءً بالإمام.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، المقدمة، ص: 8

بعين الإغماض. و أبتهل إلى اللّٰه أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، و أن يثبّتني حين تزلّ الأقدام على الصراط المستقيم، و أن يجعله تذكرة لي و تبصرة لغيري إنّه خير مسئول و مجيب.

قم الحوزة العلمية: محمّد الفاضل شوّال المكرّم 1399 القمرية

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 1

[وجوب التقليد أو الاجتهاد أو الاحتياط لغير المجتهد]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

المقدمة

اعلم أنّه يجب على كلّ مكلّف غير بالغ مرتبة الاجتهاد في غير الضروريّات من عباداته و معاملاته و لو في المستحبّات و المباحات أن يكون إمّا مقلّداً أو محتاطاً بشرط أن يعرف موارد الاحتياط، و لا يعرف ذلك إلّا القليل، فعمل العامي غير العارف بمواضع الاحتياط من غير تقليد باطل بتفصيل يأتي (1).

______________________________

(1) في هذا المقام

جهات من الكلام:

الجهة الأولى: في بيان المراد من هذا الوجوب، لا ينبغي الإشكال في أنّ المراد منه هو الوجوب العقلي الذي مرجعه إلى إدراك العقل و حكمه بأنّه بعد الالتفات إلى أصل التشريع، و حصول العلم إجمالًا بثبوت أحكام إلزامية كثيرة في الشريعة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 2

..........

______________________________

المقدّسة، و لزوم رعايتها و التعرّض لامتثالها؛ لعدم كون الناس مهملين في أُمورهم، مفوّضين إلى اختيارهم، مضافاً إلى التوعيد الثابت من الشرع قطعاً على ترك التعرّض للامتثال و عدم المبالاة برعاية الأحكام، يلزم لأجل التخلّص عن ترتّب العقوبة و حصول الأمن من العذاب أن يمشي طريقاً يؤمّنه من ذلك.

فمرجع حكم العقل إلى صحّة عقوبة المولى لتارك هذا الطريق، و إلزامه إيّاه بالتخلّص عنها لو كان بصدد الفرار عن العقوبة و التخلّص منها، و عليه فليس الثابت في هذا المقام إلّا إدراك العقل لذلك كسائر الأحكام العقلية، و إلّا فمن الواضح أنّه ليس له حكم إلزامي مولويّ أصلًا، كما أنّه من الواضح أنّه ليس في المقام حكم وجوبي شرعيّ، و إن كان في إمكانه كلام يأتي.

ثمّ إنّه يقع الكلام بعد ذلك في أنّ الحكم العقلي المذكور و هو إدراكه لما أفاده في المتن ممّا مرجعه إلى لزوم اختيار أحد الطرق الثلاثة؛ من الاجتهاد و التقليد و الاحتياط في غير الضروريّات من العبادات و المعاملات، و لو في المستحبّات و المباحات هل هو على نحو الوجوب التخييري؛ بأن كان حاكماً ابتداءً بلزوم التوسّل إلى أحد الأُمور الثلاثة بنحو التخيير، أو أنّ ما أدرك العقل لزوم مشيه من الطريق هو الأمر الجامع بين هذه الأمور؟

لا ينبغي الإشكال في أنّ العقل لا يحكم ابتداء

بالتخيير بين الأُمور المختلفة، بل إلزامه بأحد هذه الأمور إنّما هو لأجل وجود جامع بينها يكون ذلك الجامع مؤثراً في حصول الأمن و تحقّق التخلّص. نعم، الحكم بالتخيير إنّما هو في النظر الثاني، و لحاظ المحقّقات كما فيما يشابه المقام من الأحكام العقلية.

و الظاهر أنّ العقلاء أيضاً لا يتجاوزون عن حدود هذا الحكم العقلي فيما يتعلّق بأُمورهم في الدنيا، فإنّهم في تلك الأُمور أيضاً إمّا أن يختاروا طريقاً علميّاً موصلًا إلى ما هو المهم لهم، و إمّا أن يرجعوا إلى العالم الخبير بذلك الطريق و يقتفوا أثره، و إمّا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 3

..........

______________________________

أن يختاروا الاحتياط بمشي جميع الطرق المحتملة و رعاية تمام الجوانب.

ثمّ إنّه هل يمكن أن يكون وجوب هذه الأُمور الثلاثة وجوباً شرعيّاً أم لا؟ قد يُقال بعدم الإمكان كما في شرح بعض السادة الأعلام على كتاب «العروة الوثقى» على ما في تقريراته. و ملخّص ما أفاده في هذا المقام أنّ الوجوب الشرعي إن كان المراد به هو الوجوب النفسي، فتارة يكون هذا الوجوب بلحاظ وجوب تعلّم الأحكام نفسياً، و أُخرى بلحاظ المصالح الواقعية الباعثة على جعل الأحكام.

فعلى الأوّل لا يتصوّر ذلك في الاحتياط؛ لأنّه عنوان لنفس العمل، بل في التقليد بناءً على المختار فيه من أنّه العمل عن استناد.

و على الثاني لا يتصوّر في الاجتهاد لأنّه طريق لمعرفة الأحكام، و لا يتمّ في الاحتياط لعدم الدليل على وجوبه شرعاً.

و إن كان المراد به هو الوجوب الطريقي أعني الإيجاب بداعي التنجيز أو التعذير فإن أُريد به وجوب تعلّم الأحكام فهو لا يتصوّر في الاحتياط بل في التقليد على المختار، و إن أُريد به الوجوب بلحاظ

التحفّظ على الملاكات الواقعية فلا يصحّ في شي ء من الأُمور الثلاثة؛ لعدم كونها طريقاً إلى الواقع، و إنّما الطرق هي الأمارات و الأُصول بالإضافة إلى المجتهد، و فتوى المجتهد بالنسبة إلى المقلِّد.

و إن كان المراد به هو الوجوب الغيري فلا يتصوّر له معنى في المقام؛ لأنّ شيئاً من الأُمور الثلاثة لا يكون مقدّمة وجودية لواجب نفسي حتى يتّصف بالوجوب الغيري من قبله «1». انتهى.

و يرد عليه مضافاً إلى أنّه لا يلزم في الواجبات الشرعية أن يكون الأمر الذي بلحاظه تعلّق الوجوب بها معلوماً لنا حتى يتردّد في المقام في أنّ الوجوب المتعلّق بأحد هذه الأمور الثلاثة على سبيل التخيير لا محالة، بناءً على كونه شرعياً كما هو المفروض هل هو بلحاظ كذا أو كذا؟ بل البحث إنّما هو في إمكان ذلك شرعاً

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 12 17.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 4

..........

______________________________

و استحالته، و نحن لا نرى وجهاً لعدم الإمكان، فإنّه لو دلّ دليل شرعي كآية أو رواية مثلًا على وجوبها كذلك فأيّ مانع يمنع عنه و يوجب التصرّف في دلالته أو سنده مثلًا. أنّه ناشئ من عدم حمل العبارة على ما هو مقصود الماتن (قدّس سرّه)، فإنّ الظاهر أنّ متعلّق الوجوب في جميع الأُمور الثلاثة إنّما هو العمل؛ يعني أنّ المكلّف يجب عليه في مقام العمل إمّا أن يعمل على طبق اجتهاده أو تقليده، أو يراعي الاحتياط في هذا المقام، و عليه فالتفكيك بين هذه الأُمور من جهة كون الاحتياط عنواناً لنفس العمل و كذا التقليد على مختاره، و الاجتهاد طريق لمعرفة الأحكام و لا يكون عنواناً لنفس العمل ممّا لا

وجه له من جهة ما هو المقصود من العبارة، بل لا محيص عن الحمل على العمل.

ضرورة أنّ العقل الحاكم بالوجوب لا يحكم بكفاية الاجتهاد بمجرّده؛ لعدم تأثيره كذلك في امتثال التكاليف المعلومة بالإجمال، بل المؤثّر إنّما هو العمل على طبق الاجتهاد، فلا مناص من حمل العبارة على العمل، و إن كان الجمود على الظاهر يأباه كما هو ظاهر.

ثمّ التمسّك في مقام الاستدلال على إثبات الاستحالة و عدم الإمكان بعدم وجوب الاحتياط شرعاً فيه ما لا يخفى من الغرابة، كما أنّ دعوى استلزام الوجوب الشرعي للتسلسل نظراً إلى أنّه على تقدير كون الوجوب شرعيّاً لا بدّ و أن يكون المكلّف في هذا التكليف أيضاً غير خال عن أحد الحالات الثلاثة، بخلاف ما إذا كان الوجوب عقلياً واضحة الدفع، ضرورة أنّ اللابدّية المذكورة لا توجب الانتهاء إلى التسلسل، فأيّ مانع من أن تجري هذه الحالات الثلاثة في هذا التكليف أيضاً، كما هو ظاهر.

و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّه لا مانع من تعلّق الوجوب الشرعي بهذه الأُمور الثلاثة. نعم، لا ينبغي الإشكال في أنّه على تقدير الوقوع يكون كسائر الأحكام الشرعيّة، فلا بدّ من أن يكون الوصول إليه إمّا بطريق الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 5

..........

______________________________

الجهة الثانية: أنّه بناءً على كون المراد بالوجوب هو الوجوب العقلي الذي مرجعه كما عرفت «1» إلى إدراك العقل لزوم طيّ أحد هذه الطرق في مقام التخلّص عن عقوبة المولى و الفرار عنها كما هو الظاهر؛ لعدم الدليل شرعاً على ذلك، أو لاستحالة الوجوب الشرعي على الخلاف المتقدّم هل هنا طريق رابع، أو أنّ الطرق منحصرة بهذه الأمور الثلاثة؟ لا ينبغي

الإشكال في عدم الانحصار. ضرورة أنّ المكلّف لو حصل له العلم بالتكليف و بخصوصيّاته من أيّ طريق حصل يكون حجّة عليه، و يلزم عقلًا متابعته و اقتفاء أثره، و لأجل ذلك لا يكون المعصوم (عليه السّلام) خارجاً عن هذا الحكم العقلي، و إلّا فعلى ما هو ظاهر العبارة يكون خروج المعصوم (عليه السّلام) ممّا لا ينبغي الارتياب فيه.

و بالجملة: فمع حصول العلم الوجداني الذي هو أقوى الطرق لا وجه للزوم سلوك طريق آخر. نعم، هنا كلام في أنّ حجيّة العلم هل يمكن أن تنالها يد الجعل إثباتاً أو نفياً أم لا؟ و التحقيق في محلّه. كما أنّه وقع الكلام أيضاً في إمكان عدم اجتزاء الشارع بالعلم الحاصل من طريق خاص كالجفر و الرمل و أمثالهما و عدمه، و التحقيق أيضاً في محلّه.

هذا، و يمكن أن يقال بثبوت طريق خامس؛ و هو الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في بعض الموارد؛ و هو ما لا يكون للمكلّف أيّة حجّة و لا يمكن له الاحتياط، فتدبّر.

الجهة الثالثة: هل هذه الأُمور الثلاثة التي يتطرّق بها في مقام التخلّص عن تبعة مخالفة تكليف المولى طولية مترتّبة، أو أنّه في رتبة واحدة؟ ربّما يُقال بتقدّم الأخير أعني الاحتياط على الأوّلين، نظراً إلى أنّ الاحتياط طريق عقليّ يترتّب عليه الأثر المترقّب قطعاً، و أمّا عدلاه فيحتاج إلى الجعل الشرعي و حكم الشارع بحجيّة منشأ الاستنباط و كونه معتبراً عنده كما في الاجتهاد، و التقليد يتفرّع عليه، ضرورة أنّ المقلَّد بالفتح لا يكون عالماً بالأحكام الإلهية

______________________________

(1) في ص 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 6

..........

______________________________

بالعلم الوجداني إلّا نادراً، و عليه فمرتبة الاحتياط متقدّمة عليهما.

كما أنّه ربّما يقال بتقدّم

مرتبة الأوّلين على الاحتياط، نظراً إلى أنّ جواز الاحتياط حيث يكون محلّ الخلاف فلا بدّ من أن يكون المكلّف مجتهداً فيه أو مقلّداً، ففي الحقيقة الواجب على المكلّف إمّا الاجتهاد و إمّا التقليد، و على التقديرين فإن أدّى نظره أو نظر مقلّده إلى جواز الاحتياط يجوز و إلّا فلا.

و الظاهر فساد كلا القولين:

أمّا الأوّل: فلأنّ الاحتياج إلى حكم الشارع في باب الاجتهاد إنّما هو لتحقّق موضوع الاجتهاد و صغراه، و أمّا الاكتفاء في مقام الامتثال بموافقة الطريق الذي حكم الشارع بجواز التطرّق به، و عدم المنع من انسلاكه فهو حكم عقلي يترتّب على الحجيّة الشرعيّة، و الكلام إنّما هو في هذا الحكم لا في تحقّق الموضوع، و كذلك التقليد المتفرّع على هذا النحو من الاجتهاد، فإنّ الاجتزاء به من باب رجوع الجاهل في كلّ فنّ و صنعة إلى العالم به لا يكاد يكون الحاكم به إلّا العقل، كما هو غير خفي.

و أمّا الثاني: فقد ذكر المحقّق الأصفهاني (قدّس سرّه) في رسالة الاجتهاد و التقليد أنّ كون المسألة خلافية نظرية لا يقتضي جريان التقليد فيه، قال: أ لا ترى أنّ أصل التقليد خلافيّ جوازاً و منعاً، و مع ذلك لا يقتضي أن يكون تقليدياً، و كذلك تقليد الأعلم خلافيّ و مع ذلك ليس بتقليدي، إلى غير ذلك من النظريات و الخلافيات، بل كونه تقليدياً يتبع أن يكون على طبق المورد حكم مماثل يمكن أن يكون العامي متعبّداً به و منشأً لحركته على طبقه، فلو لم يكن هناك حكم مماثل أو كان و لكن لم يمكن منشئيّته لحركة العامي للزوم المحال، فلا محالة لا يكون تقليدياً.

ثمّ قال ما ملخّصه: إنّ للاحتياط حيثيّتان:

إحداهما: الحيثيّة العارضة للاحتياط بعنوانه من

وجوب شرعي حقيقي أو طريقي، أو حرمة نفسية بملاحظة انطباق عنوان مبغوض عليه.

ثانيتهما: الحيثية المخرجة للاحتياط عن كونه احتياطاً؛ لأنّ الشارع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 7

..........

______________________________

لو تصرّف في مورده بنفي أو إثبات تعيّن أحد الطرفين شرعاً، فلا مورد للاحتياط عقلًا.

أمّا بلحاظ الحيثيّة الأُولى فالمسألة تقليديّة بلحاظ العارض لا المعروض، فترتّب الأثر المترقّب من العمل الاحتياطي غير منوط بالتقليد، و إن كان كونه فاعلًا للواجب أو تاركاً للحرام قابلًا للاستناد إلى فتوى المجتهد.

و أمّا بلحاظ الحيثيّة الثانية فالمسألة تقليدية من حيث نفس عنوان الاحتياط؛ لعدم تمكّن العامي من استنباط تمحّض المورد للاحتياط إلّا بالرجوع إلى المجتهد، و لذا ذكرنا أنّ إجراء الأُصول العقلية منوط بنظر المجتهد.

ثمّ قال: و التحقيق إنّ حرمة الاحتياط نفسيّاً و عدمها ليست مهمّة في مقام حصر طريق الامتثال في الاجتهاد و التقليد و عدمه، بل المهم ترتّب الأثر المترقّب من المعاملة و العبادة على الاحتياط، و حيث إنّ فرض الاحتياط حقيقة هو فرض ترتّب أثر الواقع فلا محالة يؤول البحث إلى البحث عن تحقّق العبادة، كالمعاملة بالاحتياط و عدمه لأجل خصوصيّة مأخوذة في العبادة بحيث لا تتحقّق إلّا بالامتثال التفصيلي عن اجتهاد أو تقليد، كقصد الوجه على القول بأنّه كذلك، فهو في الحقيقة بحث عن قبول العبادة للاحتياط و عن التمكّن منه في العبادة، و كونه كذلك لا يعلم إلّا بالاجتهاد و التقليد.

فمعنى التقليد حينئذٍ التعبّد بعدم اعتبار تلك الخصوصيّة شرعاً، و لازمه إمكان الاحتياط لا التعبد بإمكانه و لا التعبّد بجوازه شرعاً في قبال حرمته نفساً، كما أنّ معنى التقليد في مقام إجراء قاعدة الاحتياط اللازم بحكم العقل هو التعبّد بعدم الحكم شرعاً

نفياً أو إثباتاً، بحيث لا يكون مجرى للقاعدة الملزمة بالاحتياط عقلًا لا التعبّد به شرعاً «1».

و ما أفاده (قدّس سرّه) و إن لم يكن بخال عن مناقشة بل مناقشات من حيث عدم نهوض دليل على ما جعله ضابطاً لكون المسألة تقليدية من لزوم

______________________________

(1) بحوث في الأُصول، الاجتهاد و التقليد: 181 182.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 8

..........

______________________________

ثبوت حكم مماثل على طبق المورد يمكن أن يكون العامي متعبّداً به و منشأً لحركته على طبقه.

و من جهة تخصيصه الوجه في تعلّق الحرمة النفسية العارضة للاحتياط بعنوانه بانطباق عنوان مبغوض عليه بعد احتمال كون الوجه مبغوضيته بعنوانه، كما لا يخفى.

و من جهة جعل الحيثيّة المخرجة للاحتياط عن كونه احتياطاً حيثيّة ثانية للاحتياط مع عدم معقولية ذلك، ضرورة أنّ الحيثيّة المعدمة للشي ء لا تكون حيثيّة لنفس ذلك الشي ء، مضافاً إلى أنّ تصرّف الشارع في مورد الاحتياط بنفي أو إثبات إن كان معلوماً بالعلم الوجداني فهو يوجب خروج الاحتياط عن كونه كذلك. و أمّا إن لم يكن كذلك بل كان التصرّف مقتضى الأمارة المعتبرة أو الأصل الشرعي فهو لا ينافي الاحتياط بوجه، و لا يوجب انهدام هذا العنوان أصلًا، و من بعض الجهات الآخر إلّا أنّ مرجعه إلى أنّ الاحتياط المبحوث عنه في المقام ليس هو عنوان الاحتياط الذي وقع الاختلاف في جوازه و حرمته، بل المهمّ هو عدم انحصار طريق الامتثال بالاجتهاد و التقليد، و كفاية الاحتياط في ترتّب الأثر المقصود من العبادة و المعاملة، و من الواضح عدم وقوع الاختلاف في هذه الجهة بل لا يعقل الخلاف فيه، و الإشكال على تقديره إنّما هو في إمكان الاحتياط في العبادة مطلقاً أو

في بعض الموارد، و هو يرجع إلى منع الصغرى و عدم إمكانها لا إلى المناقشة في الكبرى.

و بالجملة: فالاحتياط المبحوث عنه الذي هو أحد طرق الإجزاء عقلًا ليس هو عنوانه، بل ما يصدر من المكلّف في الخارج بهذا العنوان، و يترتّب عليه تحقّق المأمور به قطعاً، و هذا لا تعقل المناقشة في الاجتزاء به، و الخلاف إمّا في جواز أصل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 9

..........

______________________________

العنوان، و إمّا في إمكانه مطلقاً، أو في العبادة، أو في خصوص بعض مواردها، و عليه فلا معنى للحكم بجريان التقليد أو الاجتهاد فيه مع انحفاظ الموضوع و إمكانه.

ثمّ إنّه على تقدير تسليم جريان الاجتهاد و التقليد في الاحتياط و افتقاره إلى أحدهما نقول: إنّ ذلك لا يوجب تأخر رتبته عنهما في مقام الامتثال، فإنّ المجتهد بعد ما أدّى نظره إلى الجواز يكون مخيّراً عقلًا بين مراجعة الأدلّة و استنباط حكم المسألة منها، و بين أن يحتاط بإتيان كلا المحتملين مثلًا لأجل حصول العلم بإتيان الواقع.

هذا كلّه فيما يتعلق بتقدّم رتبة الاجتهاد و التقليد على الاحتياط و تأخّرها عنه أو تساويهما، و كون الأُمور الثلاثة التي يتطرّق بها في رتبة واحدة.

في تقدّم الاجتهاد على التقليد و عدمه هل رتبة التقليد متأخّرة عن الاجتهاد، أو أنّ رتبته متقدّمة عليه، أو أنّهما في رتبة واحدة و لا تقدّم لإحدى الرتبتين على الأُخرى؟

و التحقيق أنّ الكلام يقع تارة فيما هو مقتضى حكم العقل، و أُخرى فيما هو مقتضى الأدلّة الشرعية.

أمّا من جهة حكم العقل فالظاهر أنّه لا مجال للإشكال في تساوي الحالتين و عدم ثبوت مزية في البين و عدم اختلاف الرتبتين، ضرورة أنّ العقل لا

يحكم إلّا بلزوم تحصيل العلم لأجل العمل أو الرجوع إلى العالم الخبير لأجله أيضاً؛ من دون ترجيح لأحدهما على الآخر.

و أمّا من جهة الأدلّة الشرعية، فتفصيل الكلام فيها يتوقّف على ملاحظة هذين

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 10

..........

______________________________

الموضوعين، و معناهما و ملاحظة الآثار و الأحكام المترتّبة عليهما.

فنقول: أمّا التقليد، فسيجي ء البحث عن حقيقته عند تعرّض سيّدنا العلّامة الأستاذ الماتن له «1». و أمّا الاجتهاد فالمحكي عن الحاجبي «2» و العلّامة «3» في تعريفه أنّه استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي، و عن غيرهما «4» أنّه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي عن الأصل، فعلًا أو قوّة قريبة من الفعل.

و يرد على التعريف الأوّل وجوه من الإيراد عمدتها أنّ مجرّد الظن بالحكم الشرعي من أيّ طريق حصل و من أيّ سبب تحقّق لم يقم على اعتباره دليل، بل قام الدليل على عدمه في بعض الموارد، كالظنّ الحاصل من القياس و الاستحسان، مضافاً إلى أنّ الأمارة المعتبرة الشرعية ربّما لا تفيد الظن الشخصي؛ لعدم مدخليّته في اعتباره؛ لكون الملاك فيه هو إفادته للظن نوعاً.

و ما أفاده المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) «5» و تبعه بعض الأعلام في شرح العروة على ما في تقريرات بحثه من أنّه لو أبدل الظن بالحكم بالحجّة على الحكم الشرعي لسلم من الإشكال «6»، فيه: أنّه و إن كان يسلم من بعض الإشكالات إلّا أنّ بعضها باق على حاله، ضرورة أنّ المقلِّد لو استفرغ وسعه في تحصيل فتوى مجتهده، التي هي حجّة على الحكم الشرعي يصدق عليه أنّه استفرغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم مع أنّه لا يكون مجتهداً.

فالأولى الإعراض عن هذا التعريف

الذي صار سبباً لطعن الأخباريين على الأُصوليين منّا، و اعتراضهم عليهم بأنّهم يعتمدون في الاجتهاد على مجرّد الظن بالحكم من أيّ سبب حصل، سواء قام الدليل على اعتباره أو على عدم اعتباره، أو لم يقم دليل على شي ء من الأمرين، و إلّا فالاجتهاد بمعناه الحقيقي الذي يرجع إلى القدرة على أخذ الحكم من المدارك المعتبرة، و الأدلّة القابلة للاستناد من الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل لا مجال للإشكال فيه و لا محيص عن الالتزام به.

______________________________

(1) في ص 53.

(2) مختصر المنتهي: 2/ 289، شرح مختصر الأُصول: 460، على ما في هامش كفاية الأُصول: 528.

(3) مبادئ الوصول إلى علم الأُصول: 240.

(4) زبدة الأُصول، المنهج الرابع في الاجتهاد و التقليد: 115.

(5) كفاية الأُصول: 529.

(6) التنقية (الاجتهاد و التقليد): 22.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 11

..........

______________________________

و من هذه الجهة يمكن أن يقال: إنّ النزاع بينهما لا يتجاوز عن النزاع اللفظي و لا يكون نزاعاً معنوياً، لأنّه لا محيص عن الالتزام بالاجتهاد بمعناه الذي يقول به المجتهدون كما مر.

نعم، قد أورد على هذا المعنى بأنّ تفسير الاجتهاد بالملكة الكذائية ينطبق على صاحبها الذي لم يستنبط شيئاً من الأحكام الشرعية، و لم يتحقّق منه استنباط عملًا أيضاً؛ لعدم الملازمة بين ثبوت الملكة و الاستنباط الفعلي بوجه، مع أنّه لم يرد هذا العنوان في شي ء من الأدلّة موضوعاً لحكم من الأحكام و أثر من الآثار، بل العناوين المأخوذة فيها ترجع إلى الفقيه، و العارف بالحلال و الحرام، و الناظر فيهما، و الراوي لأحاديثهم، و شبه ذلك من العناوين التي لا تنطبق على الشخص بمجرّد وجود الملكة فيها، من دون استنباط لظهورها في الفعلية منها،

كما لا يخفى.

هذا ما يتعلّق بموضوع الاجتهاد و معناه، و أمّا حكمه فتارة يلاحظ بالإضافة إلى عمل المجتهد نفسه، و أنّ تحصيل الملكة بلحاظ الأعمال الشخصية المبتلى بها لصاحبها حكمه ما ذا؟ و أُخرى بلحاظ رجوع الغير العامي إليه، و أنّ تحصيلها من جهة تقليد العوام عنه حكمه ما ذا؟ و على الأوّل تارة يلاحظ من جهة العقل و أنّ اللزوم العقلي متحقّق أم لا؟ و أُخرى من جهة الشرع و مقتضى الأدلّة الشرعية الواردة في هذه الجهة.

فنقول: إمّا العقل، فقد عرفت أنّه يحكم لأجل الفرار عن تبعة مخالفة تكاليف المولى المنجّزة بسبب العلم الإجمالي بثبوتها بلزوم تحصيل المؤمِّن من العقاب. غاية الأمر أنّ طرق تحقّق هذا المعنى مختلفة كثرة و قلّة حسب اختلاف الموارد و الحالات و الأشخاص، فإذا انسدّ باب بعض تلك الطرق يبقى سائر الأبواب، و مع انسداد الجميع إلّا الواحد يتعيّن ذلك الطريق الواحد.

فإذا كان هناك من الأحياء من يكون صالحاً للرجوع إليه و تقليده لا مجال لتعيّن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 12

..........

______________________________

الاجتهاد و لزوم تحصيل الملكة عليه، و مع عدمه و الفرض أنّه لا يجوز تقليد الميت ابتداءً؛ لقيام الإجماع عليه كما سيجي ء البحث و التكلّم فيه «1» إن شاء اللّٰه تعالى يتعيّن عليه الاجتهاد إذا لم يتمكّن من الاحتياط و إحراز الواقع من هذا الطريق، كما أنّه مع عدم التمكّن من الاحتياط يتخيّر بين الاجتهاد و التقليد؛ لعدم ثبوت حكم العقل بلزوم التعلّم، بل غرضه التعرّض لامتثال التكاليف المعلومة بالإجمال و رعاية موافقتها، سواء كان المكلّف عالماً بها تفصيلًا أو جاهلًا مراجعاً إلى العالم.

فانقدح من ذلك أنّ تعيّن الاجتهاد و لزومه

عقلًا إنّما هو فيما إذا انسدّ عليه باب التقليد و الاحتياط، و من الواضح أنّ اللزوم في هذا المورد ليس لزوماً نفسياً، بل طريقي مرجعه إلى تنجّز التكاليف المعلومة و استحقاق العقوبة على مخالفتها، هذا ما هو مقتضى حكم العقل.

و أمّا اللزوم الشرعي، فيدلّ على أصله ما دلّ على وجوب التعلّم من الأخبار التي سيجي ء نقلها و التكلّم فيها إن شاء اللّٰه تعالى، و على كونه طريقياً لا نفسياً و لا مقدمياً التأمّل في تلك الأخبار و استظهار الطريقية منها، و على عدم كونه عينياً وضوح استلزام تعيّن الاجتهاد و تحصيل ملكة الاستنباط على كلّ مكلّف للعسر و الحرج و اختلال النظام، سيّما في هذه الأعصار التي كثرت مقدّمات الاجتهاد، و كذا الموانع عن تحقّقها، مضافاً إلى أدلّة التقليد الدالّة على جواز رجوع العامي إلى المجتهد، و المستلزمة لعدم وجوب تحصيل الملكة على كلّ أحد. هذا بالإضافة إلى عمل نفسه.

و أمّا بالإضافة إلى رجوع الغير العامي إليه فاللزوم العقلي منتفٍ قطعاً؛ لعدم حكمه بذلك أصلًا بعد ما كان الملاك في حكمه هو تخلّص المكلّف بنفسه من تبعة مخالفة تكاليف المولى، و ليس هنا ملاك آخر مقتضٍ للزوم العقلي.

و أمّا اللزوم الشرعي، فقد يقال بثبوته على وجه النفسي الكفائي التعييني،

______________________________

(1) في ص 166.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 13

..........

______________________________

نظراً إلى لزوم حفظ الدين و إبقائه و التحرّز عن اضمحلاله و اندراسه، ضرورة أنّ وجوب ذلك غير قابل للإنكار، و من المعلوم بعد عدم جواز تقليد الميت ابتداءً، و عدم جواز رجوع العامي إلى الأموات أنّ الاجتهاد و تحصيل ملكة الاستنباط لأجل الوصول إلى القوانين الدينيّة و الأحكام الشرعية من الطرق

الموجبة لبقاء الدين و التحفّظ عن اضمحلاله و انهدامه، بداهة أنّه مع عدم وجود من يرجع إليه العامي و المفروض عدم جواز الرجوع إلى الأموات ينسدّ باب الاطّلاع على الأحكام الشرعية و تطبيق العمل عليها، فاللازم لأجل هذا الغرض المهمّ أن يتصدّى بعض من المكلّفين للوصول إلى هذا المقام و البلوغ إلى هذه المرتبة.

و مقتضى ما ذكر عدم كفاية مجرّد الوصول و تحصيل الملكة، بل اللازم بعده استنباط الفعلي و استخراج الأحكام من مداركها و تبليغها إلى المكلّفين ليعملوا على طبقها.

هذا، و لكنّ الدليل المذكور لا يجدي لإثبات الوجوب النفسي؛ لأنّ الواجب النفسي حينئذٍ هو التحفّظ على الدين و إبقائه، و الاجتهاد مقدّمة له، فلا مجال لدعوى النفسية من هذا الطريق بوجه. نعم، لو استند في ذلك إلى آية النفر «1» المعروفة لكان لذلك وجه.

و يؤيّده ما ورد في تفسيرها من بعض الروايات، كرواية عبد المؤمن الأنصاري قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): إنّ قوماً يروون أنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) قال: اختلاف أُمّتي رحمة، فقال: صدقوا، فقلت: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ فقال: ليس حيث تذهب و ذهبوا، إنّما أراد قول اللّٰه عزّ و جلّ فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «2» فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) فيتعلّموا، ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين اللّٰه، إنّما الدين واحد، إنّما الدين واحد «3».

______________________________

(1) سورة التوبة: 9/ 122.

(2) سورة التوبة: 9/ 122.

(3) معاني الأخبار: 157 ح 1، علل الشرائع: 85 ح 4، الوسائل: 27/

140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 14

..........

______________________________

و يؤيّده أيضاً قول الرضا (عليه السّلام) في حديث على ما رواه الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان-: إنّما أمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى اللّٰه عزّ و جلّ و طلب الزيادة، و الخروج من كلّ ما اقترف العبد إلى أن قال: مع ما فيه من التفقّه و نقل أخبار الأئمّة (عليهم السّلام) إلى كلّ صقع و ناحية، كما قال اللّٰه عزّ و جلّ- فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ «1».

و بهاتين الروايتين يدفع التوهّم الذي يمكن أن يتخيّل من عدم دلالة الآية الكريمة على شمول الحكم لكلّ عصر و زمان، كما هو غير خفيّ.

فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ المكلّف لا يجب عليه تحصيل ملكة الاجتهاد مع وجود المجتهد؛ لقيام السيرة و عدم ثبوت الردع، فهو مخيّر بين التقليد و الرجوع إلى الخبرة، و بين تحصيل ملكة الاجتهاد و صيرورته خبيراً، و لا مزية لأحد الأمرين و لا مرجّح في البين.

في جواز التقليد للمجتهد و عدمه هل يجوز للمجتهد الواجد لملكة الاستنباط أن يرجع إلى مجتهد آخر فيما لم يجتهد فيه و لم يستنبط حكمه من الأدلّة فعلًا أم لا؟ تفصيل القول فيه أنّه تارة يلاحظ ذلك بالنظر إلى حكم العقل، و أُخرى بالنظر إلى السيرة التي هي العمدة في باب التقليد، و ثالثة بالنظر إلى الأدلّة السمعية و الآيات و الروايات الواردة في هذا الباب.

أمّا بالنظر إلى حكم العقل فالظاهر أنّه لا يحكم بالجواز، حيث لا يحصل له اليقين بفراغ الذمّة مع الاستناد إلى فتوى الغير فيما إذا

تمكّن من الاستناد إلى الحجّة و استنباط

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام): 2/ 119، علل الشرائع: 273 ح 9، الوسائل: 27/ 96، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 8 ح 65.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 15

..........

______________________________

الحكم من الأدلّة، و مع الشك في حصول البراءة يلزمه العقل بالاستنباط الفعلي و الاستناد إلى الحجّة، خصوصاً مع ملاحظة أنّه لم ينقل القول بالجواز عن أحد من علمائنا الإمامية رضوان اللّٰه تعالى عليهم أجمعين كما عن الشيخ (قدّس سرّه) في «رسالة الاجتهاد و التقليد» «1». نعم، قد نسب الجواز إلى السيد صاحب المناهل (قدّس سرّه) «2».

و لعلّ دعوى الجواز مستندة إلى أنّه كما كان المكلّف مخيّراً عقلًا في ابتداء الأمر بين تحصيل ملكة الاجتهاد، و بين الرجوع إلى العالم الخبير، و لم يكن تقدّم لأحد الأمرين على الآخر، كذلك هذا التخيير العقلي ثابت بحاله مع تحصيل الملكة و عدم تحقّق الاستنباط الفعلي؛ لأنّه بمجرّد حصول القدرة و تحقّق الملكة لا يصدق عليه عنوان العالم الخبير، فلا مانع من الرجوع إلى الغير الذي تصدّى للاستنباط و استخرج الحكم من المدارك، فإنّه أيضاً من رجوع الجاهل إلى العالم، فلا فرق بين الصورتين.

و أمّا بالنظر إلى السيرة، فمن الواضح عدم ثبوت السيرة على رجوع من له الملكة إلى المستنبط الفعلي، سواء كان المراد بالسيرة هي سيرة المتشرّعة الثابتة في باب التقليد، أم كان المراد بها هي السيرة العقلائية الثابتة في جميع موارد رجوع الجاهل في كلّ فنّ و صنعة إلى العالم به و المطّلع عليها.

أمّا على الأوّل فواضح لعدم ثبوت سيرة المتشرّعة في باب التقليد على رجوع الواجد للملكة إلى المستنبط الفعلي، و لا

أقلّ من الشك في الثبوت و عدمه، و هو يكفي في عدم الجواز.

و أمّا على الثاني الذي هو العمدة في باب التقليد؛ لأنّه من مصاديق رجوع الجاهل إلى العالم، و المتشرّعة قد استقرت سيرتهم على ذلك بما هم عقلاء، و كون الجهل بالحكم الشرعي أحد مصاديق الجهل. فمن الواضح كما يظهر بمراجعة العقلاء عدم ثبوت سيرتهم على الرجوع في مثل المقام، فهل يرجع الطبيب غير العارف بالدواء مع التمكّن من العلم به

______________________________

(1) رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 53.

(2) المناهل: كتاب القضاء، منهل جواز القضاء لغير المجتهد: 699.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 16

..........

______________________________

لو صرف ساعة من الزمان أو ساعتين مثلًا إلى غيره العارف؟! و هل يكون على تقدير الرجوع معذوراً عند العقلاء لو كان تشخيص الغير الذي رجع إليه مخالفاً للواقع، و لا أقلّ من الشك في ثبوت السيرة العقلائية في مثل المقام، و هو يكفي في عدم الجواز كما عرفت.

و أمّا الأدلّة السمعية، فالمحكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) في رسالة الاجتهاد و التقليد دعوى انصرافها عمّن له ملكة الاجتهاد «1»، بل المحقّق الأصفهاني (قدّس سرّه) بعد حكمه في رسالة الاجتهاد و التقليد بأنّ الواجد لا بدّ له من المراجعة إلى الأدلّة السمعية حتى يظهر له الجواز و العدم و لا يجديه استنباط الغير، حكم بأنّه لا معنى لإطلاق تلك الأدلّة بالنسبة إلى المتمكّن من الاستنباط؛ لأنّ أدلّة الأحكام الشرعية شاملة لمثل هذا الشخص، فالأحكام الواقعية منجّزة في حقّه من طريق الأمارات المعتبرة لتمكّنه من الاستفادة منها، و معه كيف يسعه الرجوع إلى غيره و العمل بفتياه، و هذا بخلاف العامي المحض العاجز عن

الاستنباط، فإنّ تلك الأدلّة لا تشمله لفرض عجزه عن فهم مداليلها «2».

و أورد عليه بعض الأعلام في شرح العروة بأنّ تنجّز الأحكام الواقعية من طريق الأمارات لا ينافي حجيّة فتوى المجتهد حتى بالإضافة إلى من له ملكة الاستنباط، فيمكن أن يكون الاستناد إليها معذِّراً عن مخالفة الواقع إذا تحقّقت المخالفة، و هذا نظير تنجّز الأحكام الواقعية على العامي بعلمه الإجمالي، و مع ذلك فإنّ استناده إلى فتوى المجتهد يعذّره عن مخالفة الواقع «3».

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكر بين المجتهد المطلق و المتجزي، فإنّه لا يجوز له أيضاً فيما حصل له ملكة الاستنباط بالإضافة إليه الرجوع إلى الغير و العمل بفتياه، كما هو غير خفيّ.

الجهة الرابعة: يستفاد من عبارة المتن أنّ الضروريّات كوجوب الصلاة و الصوم

______________________________

(1) رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 57.

(2) بحوث في الأُصول، الاجتهاد و التقليد: 19 20.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 30 35، لكنّ الظاهر أنّ النسبة غير صحيحة، و أشار إلى ذلك أيضاً في مصباح الأُصول: 3/ 435 436.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 17

[في جواز العمل بالاحتياط]

اشارة

مسألة 1: يجوز العمل بالاحتياط و لو كان مستلزماً للتكرار على الأقوى (1)

______________________________

و نحوهما خارجة عن دائرة الأُمور الثلاثة التي يتطرّق بها و يحكم العقل باللزوم تخييراً بينها، و الوجه في ذلك أنّ الأحكام الضرورية معلومة للمكلّف، و من المعلوم أنّه مع حصول العلم للمكلّف بالواقع يكون هو بنفسه حجّة عليه و لا مجال للتعبّد بالأمارة بالإضافة إليه، سواء كانت موافقة لعلمه أو مخالفة له، و سواء كانت الأمارة فتوى الغير أو غيرها من الأمارات؛ لأنّ الحكم الظاهري إنّما يختصّ جعله بخصوص الجاهل

الذي لا علم له بالواقع، فلا مجال له بالإضافة إلى العالم مطلقاً، و لذا لو حصل للمكلّف العلم في غير الضروريّات أيضاً لا مجال له للتقليد أو الاجتهاد، و إن كان مخالفاً لفتوى المجتهد الذي يقلّده في سائر المسائل.

و قد انقدح من ذلك أنّ الضروريّات لا معنى لجريان التقليد فيها، فالتعبير بعدم الحاجة إلى التقليد فيها كما في «العروة» «1» المشعر بالجواز لا يخلو عن مسامحة، كما أنّ التعميم لليقينيات أيضاً يشعر بل يدلّ على أنّه يكون في الفقه أحكام خاصّة يقينيّة، كما أنّه يكون فيه أحكام مخصوصة ضرورية، مع أنّه ليس في الفقه أحكام معيّنة متّصفة بكونها يقينيّة.

و الظاهر أنّ غرضه (قدّس سرّه) أنّه متى حصل للمكلّف يقين بحكم من الأحكام من أي طريق حصل لا مجال له للتقليد في خصوص ذلك الحكم اليقيني و إن لم يكن ضروريّاً، فيرجع إلى ما ذكرنا.

(1) في شرح بعض الأعلام على مثل هذه المسألة من العروة ما ملخّصه: أنّ محلّ الكلام هنا هو الاحتياط غير المخلّ بالنظام؛ لأنّ الاحتياط المخلّ به غير مشروع في نفسه، سواء تمكّن المكلّف من الاجتهاد و التقليد أم لم يتمكّن منهما. نعم، الاحتياط المستلزم للوقوع في الحرج داخل في محلّ البحث؛ لأنّ نفي الحرج إنّما يدلّ على نفي الوجوب و هو لا ينافي الجواز، كما أنّ محلّ الكلام هو خصوص الواجبات

______________________________

(1) العروة الوثقى: 1/ 4، مسألة 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 18

..........

______________________________

العبادية؛ لعدم المانع في غيرها و إن استلزم التكرار.

و ما عن الشيخ (رحمه اللّٰه) من النقاش في الاحتياط في باب العقود و الإيقاعات نظراً إلى أنّ الجزم ينافي الترديد «1»، مندفع بأنّ التردّد

فيما هو الممضى من السبب شرعاً غير التردّد في الإنشاء، و الاعتبار الذي هو أمر نفساني قائم بالمعتبر، و الذي يضر بصحّة العقد أو الإيقاع هو الثاني دون الأوّل «2».

أقول: قد عرفت «3» أنّ البحث في الاحتياط تارة في جوازه بعنوانه الذي هو كسائر العناوين المتعلّقة لواحد من الأحكام الخمسة، و أُخرى في الاجتزاء بما يتحقّق به الاحتياط في مقام الامتثال أو الموافقة أو ترتّب الأثر المقصود، و عرفت أيضاً أنّ المهمّ في المقام هي الجهة الثانية «4».

و من الواضح أنّه لا فرق من هذه الجهة بين كون الاحتياط مخلّاً بالنظام أو مستلزماً للوقوع في الحرج أم لا، ضرورة أنّه بسبب تحقّق هذا العنوان الملازم للعلم بتحقّق المأمور به في الخارج بجميع ما اعتبر فيه من الأجزاء و الشرائط، أو بتحقّق ما هو السبب المؤثّر في حصول الأثر المترقّب لا مجال لاحتمال عدم الإجزاء و عدم تأثيره في الأثر المقصود، سواء كان مخلّاً بالنظام أو موجباً للوقوع في الحرج أم لا، فإنّ اتّصافه بوصف الإخلال به أو استلزامه للوقوع فيه لا يضرّ بترتّب الأثر المترقّب بداهة، فالتفصيل من هذه الجهة، و جعل هاتين الصورتين أو خصوص الصورة الأُولى خارجة عن محلّ النزاع لا وجه له أصلًا.

ثمّ إنّه على التقدير الأوّل الذي يكون النزاع في جواز الاحتياط بعنوانه يكون المحرّم على تقديره هو عنوان الإخلال، و لا تتعدّى الحرمة عنه إلى عنوان الاحتياط لما حقّقناه في محلّه من أنّ الحرمة المتعلّقة بعنوان من العناوين لا يعقل أن يسري منه إلى غيره ممّا يتّحد معه وجوداً، فحرمة الإخلال لا توجب حرمة الاحتياط بوجه.

______________________________

(1) انظر رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 48 53 و فرائد الأُصول: 2/

515 519، و المكاسب: 3/ 173.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 67 68.

(3) في ص 14 16.

(4) في ص 14 16.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 19

..........

______________________________

ثمّ إنّ ما أفاده في وجه دخول صورة الاستلزام للحرج في محلّ البحث يمكن أن يخدش فيه بأنّ دليل نفي الحرج و إن كان ظاهره نفي الوجوب و هو لا ينافي الجواز، إلّا أنّه ربّما يحتمل فيه أن يكون الغرض منه النفي على سبيل العزيمة لا الرخصة، كما ربّما يستفاد من بعض الروايات «1» من وجوب قبول المنّة من اللّٰه سبحانه و تعالى.

و يؤيّده قوله تعالى يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ «2» الظاهر في تعلّق الإرادة الإلٰهية باليسر، و هو لا يجتمع مع الإيقاع في الحرج، و التحقيق في محله.

ثمّ إنّ تخصيص محلّ الكلام بخصوص الواجبات العبادية و إخراج باب العقود و الإيقاعات عن حريم النزاع مع وجود النقاش من مثل الشيخ الأعظم عليه الرحمة و الرضوان ممّا لا وجه له، و دفع وجه النقاش بما هو التحقيق عنده لا يوجب الخروج عن محلّ النزاع، و إلّا يلزم خروج أكثر المسائل الخلافية عن كونها كذلك بسبب التحقيق المؤدّي إلى أحد الطرفين أو الأطراف.

و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّ المراد بالجواز في المتن هو الاجتزاء و الاكتفاء في مقام الإطاعة و الامتثال، أو تحقّق ما هو السبب المؤثّر لا الجواز العارض لنفس عنوان الاحتياط، و لكنّه ربّما يُقال: بأنّ المراد بالجواز في خصوص هذه المسألة هو الجواز العارض لنفس عنوان الاحتياط لا الاجتزاء في مقام الامتثال و شبهه، و ذلك لأنّه على التقدير الآخر يلزم التكرار بعد تصريح الماتن قبل ذلك بكون

الاحتياط أحد الأُمور الثلاثة التي يتطرّق بها، فالأولى حمل هذه العبارة على الجواز بالمعنى الأوّل لئلا يلزم التكرار.

و يندفع بأنّه يكفي في عدم لزوم التكرار التصريح بكون الجواز ثابتاً في الاحتياط و لو كان مستلزماً للتكرار، و في الحقيقة الغرض من هذه المسألة تعميم الجواز لصورة استلزام الاحتياط للتكرار مع حفظ كون المقصود من الجواز هو الاجتزاء و الاكتفاء لا الجواز العارض لنفس عنوان الاحتياط.

______________________________

(1) الوسائل: 1/ 154، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق ب 8 ح 11، و ص 163 ب 9 ح 14 و ص 464، أبواب الوضوء ب 39 ح 5. و ج 3/ 491، أبواب النجاسات ب 50 ح 3.

(2) سورة البقرة: 2/ 185.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 20

..........

______________________________

نعم، لا مجال لإنكار أنّ الاحتياط بعنوانه يكون معروضاً لحكم من الأحكام الخمسة التكليفيّة، و التحقيق إمكان اتّصافه بكلّ منها و جواز تصوّر المورد له، فالاحتياط الواجب إنّما هو في مثل الشبهة المحصورة الوجوبية أو التحريميّة، سواء قيل بقيام الدليل الشرعي على الوجوب، أو أنّ وجوبه الشرعي مستفاد من الملازمة بين الحكمين: حكم العقل و حكم الشرع.

و الاحتياط المحرّم إنّما هو فيما إذا أدّى إلى الوسواس و قلنا بتحريمه، نظراً إلى أنّه من الشيطان كما في بعض الروايات «1»، أو أدّى إلى الإخلال بالنظام بناءً على كونه من العناوين المحرّمة، كلّ ذلك بعد الفراغ عن كون استلزامه للمحرّم موجباً لقبح عنوانه ثمّ حرمته بقاعدة الملازمة، فتدبّر جيّداً.

و أمّا الاحتياط المستحبّ فموارده كثيرة؛ لأنّ العقل يحكم بحسنه في غير الموردين المتقدّمين إذا لم يجر فيه احتمال المبغوضية؛ لأجل احتمال كونه من العناوين المبغوضة أو انطباق عنوان مبغوض عليه،

و إلّا فمع هذا الاحتمال لا مجال للحكم بحسنه بتّاً، و من هنا يظهر النظر فيما تكرّر في الكلمات من التحريص على الإتيان بمحتمل الوجوب غير القائم على وجوبه دليل معتبر بعنوان الرجاء، نظراً إلى حسن الاحتياط و عدم اختصاص حسنه بحال دون حال، فإنّ ذلك إنّما يتمّ مع عدم وجود احتمال المبغوضية، و إلّا فالحكم بالحسن ممّا لا وجه له أصلًا.

و ممّا ذكرنا يظهر جواز فرض المورد لصورتي إباحة الاحتياط و كراهته، فإنّ منشأ الإباحة تارة عدم تعلّق الحكم لأجل عدم ثبوت الملاك، و أُخرى تعارض الملاكين، فتأمّل.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ الظاهر أنّه لم يقل أحد بالمنع من الاحتياط في جميع الموارد، و إن كان يمكن توجيهه بوجه غير وجيه.

و أمّا المنع عن الاحتياط في باب العقود و الإيقاعات فلم ينقل عن أحد أيضاً

______________________________

(1) الوسائل: 1/ 63، أبواب مقدّمات العبادات ب 10 ح 8، و ج: 8/ 227 228، كتاب الصلاة، أبواب الخلل ب 16 ح 1 و 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 21

..........

______________________________

إلّا ما حكي عن الشيخ (رحمه اللّٰه) من النقاش الذي عرفت «1».

و التحقيق في دفعه بعد عدم كون العقود و الإيقاعات أسباباً و مؤثرات حقيقة، ضرورة أنّ ما يترتّب عليها ليس إلّا الأُمور الاعتبارية التي يعتبرها العقلاء و الشارع، و هي بعيدة عن عالم التأثير و التأثّر بمراحل، فهذه أي العقود و الإيقاعات موضوعات للاعتبار و مقدّمات له أن يقال: إنّ الجزم المعتبر في المعاملة عبارة عن تعلّق القصد و الإرادة الجدّية بتحقّق مقتضاها عقيب الإنشاء، و هذا لا ينافي مع الترديد فيما هو الموضوع للاعتبار، فإنّ احتمال تحقّق الاعتبار عقيب

اللفظ المحتمل منشأ لتعلّق الإرادة الجديّة بالإنشاء بذلك اللفظ.

و بالجملة: الداعي و المحرّك له على الإنشاء بكلا اللفظين ليس إلّا تعلّق القصد الجدّي بتحقّق موضوع الاعتبار لدى العرف و الشرع، فهذا النقاش أيضاً ممنوع.

و أمّا الواجبات، فالتوصليّات منها أيضاً ممّا لم ينقل عن أحد المنع أو النقاش في جريان الاحتياط فيها، من دون فرق بين ما كان تحقّق عنوانه متوقّفاً على القصد إليه كأداء الدين مثلًا، و ما لم يكن كذلك كغسل الثوب. نعم، بناءً على المنع في العبادات لأجل الإخلال بقصد القربة يمكن أن يقال بالمنع منه هنا بالإضافة إلى ترتّب المثوبة، فإنّ قصد القربة و إن لم يكن معتبراً في سقوط الأمر و تحقّق الموافقة إلّا أنّه معتبر في ترتّب المثوبة، و عليه فالاحتياط فيها من هذه الجهة يمكن المنع عنه، بمعنى أنّ الأثر المترقّب و هو ترتّب المثوبة لا يترتّب على الاحتياط؛ لإخلاله بقصد القربة على ما هو المفروض.

و أمّا العبادات، فظاهر ما نسب إلى المشهور «2» من بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد و التقليد عدم الاجتزاء بالاحتياط مطلقاً، من دون فرق بين ما إذا كان مستلزماً للتكرار و ما إذا لم يكن، بل ظاهر ما حكي عن الرضي (قدّس سرّه) من دعوى الاتّفاق على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها «3»، و تقرير أخيه المرتضىٰ (قدّس سرّه) «4» له ذلك أيضاً

______________________________

(1) في ص 26.

(2) فرائد الأُصول: 2/ 506، مستمسك العروة: 1/ 6 7.

(3) حكاه عنه في مستمسك العروة: 1/ 7.

(4) رسائل الشريف المرتضى: 2/ 383 384، و الحاكي هو الشيخ في فرائد الأُصول: 1/ 71.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 22

..........

______________________________

مطلقاً، و لكن استظهر

الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) في رسالة القطع الاتّفاق على عدم الجواز في خصوص ما إذا استلزم التكرار «1»، و المحكي عن الحلي (قدّس سرّه) في مسألة الصلاة في الثوبين المشتبهين عدم الجواز حتى مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي، و أنّه يصلي عارياً في هذه الصورة «2»، و لكنّ الظاهر أنّه يقول بذلك في خصوص ما إذا كان التكرار في الواجب الضمني كمثال الثوبين، و أمّا إذا كان التكرار في الواجب الاستقلالي كما إذا تردّد أمر الصلاة بين القصر و الإتمام أو بين الظهر و الجمعة فالظاهر أنّه لا يقول بسقوط الصلاة رأساً مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي.

و كيف كان فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: فيما إذا لم يستلزم الاحتياط للتكرار كما في الأقل و الأكثر، سواء كان أمر الزائد دائراً بين الوجوب و الاستحباب و كان أصل المحبوبية معلوماً، أم كان دائراً بين الوجوب و اللغوية غير المخلّة بتحقّق العبادة.

و توهّم استلزام الاحتياط في العبادة للتكرار دائماً حتى في الأقلّ و الأكثر الارتباطيَّين، نظراً إلى ما ربّما يُستفاد من كلام المحقّق صاحب الحاشية (قدّس سرّه) من كون الأقلّ و الأكثر طبيعتين متغايرتين؛ لأنّ الأقلّ عبارة عن الأجزاء التي لوحظت بنحو الوحدة و كذا الأكثر، فهما متغايران «3».

مدفوع بوضوح كون الإتيان بالأكثر مجزياً على أيّ تقدير، خصوصاً إذا كان أمر الجزاء الزائد دائراً بين الوجوب و الاستحباب، إلّا أن يناقش فيه من جهات اخرى نتعرّض لدفعها إن شاء اللّٰه تعالى، و أمّا من هذه الجهة الراجعة إلى التغاير فلا مجال للمناقشة في أجزاء الأكثر.

و كيف كان، فما يمكن الاستناد إليه للمنع عن الاحتياط في هذا المقام أُمور:

أحدها: الشهرة المذكورة و الإجماع المنقول، و

سيجي ء الجواب عنه في المقام الآتي.

______________________________

(1) فرائد الأُصول: 1/ 71.

(2) السرائر: 1/ 185.

(3) راجع هداية المسترشدين: 449.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 23

..........

______________________________

ثانيها: الإخلال بقصد الوجه و التمييز، و الجواب المنع صغرى و كبرى كما سيأتي أيضاً.

ثالثها: حكم العقل بتأخّر رتبة الامتثال الاحتمالي عن الامتثال الجزمي، و لا أقلّ من عدم إدراكه تساوي الرتبتين، فيرجع إلى قاعدة الاشتغال، و الجواب ما يأتي في المقام الآتي أيضاً.

المقام الثاني: فيما إذا كان الاحتياط مستلزماً للتكرار، و الكلام فيه تارة مع التمكّن من الامتثال التفصيلي، و أُخرى مع عدمه.

أمّا الصورة الأُولى: فالنزاع في الجواز و عدمه إن كان مسبّباً عن النزاع في اعتبار قصد الوجه و التمييز و عدمه، بحيث كان القول بالجواز مستنداً إلى عدم اعتبارهما و بالعدم إلى الاعتبار، فهو في الحقيقة نزاع في المسألة الفقهية، و لا ينبغي التعرّض له في علم الأُصول؛ لأنّ دخالة قصد الوجه و التمييز في المأمور به و عدم حصوله بدونه، و بعبارة أُخرى تشخيص حدود المأمور به و الخصوصيّات المعتبرة فيه أمر ليس له ارتباط بالمسائل الأُصولية، كما هو أوضح من أن يخفى.

و أمّا إن كان النزاع في جواز الاجتزاء بالاحتياط مع التمكّن من الامتثال التفصيلي مع قطع النظر عن اعتبار الوجه و التمييز، بحيث لم يكن شي ء منهما معتبراً أو لم يكن الاحتياط موجباً للإخلال به، كما في خصوص قصد الوجه على ما هو التحقيق من عدم كون الاحتياط مانعاً عن رعايته و لو كان موجباً للتكرار، نظراً إلى أنّه يأتي بالصلاتين مثلًا لوجوب تلك الصلاة الواجبة واقعاً، أو يقصد تحصيل الصلاة الواجبة بما هي واجبة بفعل الصلاتين، فلا إخلال بقصد الوجه

بوجه؛ لما عرفت من إمكان قصده بكلا وجهيه غايةً و وصفاً، فهو الذي يكون نزاعاً في المسألة الأُصولية.

و حينئذٍ نقول: إنّ ما يمكن الاستناد إليه للقول بعدم الجواز أُمور:

أحدها: ما عرفت من الشهرة المذكورة و الإجماع المنقول، و قد حكي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 24

..........

______________________________

عن شيخنا الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) أنّه استظهر في رسالة الاجتهاد و التقليد عدم الخلاف في بطلان الاحتياط في العبادة إذا استلزم تكرار أفراد ماهيّة واحدة، بحيث كان التكرار في الواجب الضمني دون الاستقلالي، كما فيما إذا تردّد أمر القراءة بين الجهر و الإخفات، كما في قراءة صلاة الظهر من يوم الجمعة، حيث إنّ مقتضى بعض الروايات «1» وجوب الجهر بها «2».

و الجواب عنه أنّ الشهرة غير متحقّقة؛ لعدم تعرّض كثير من الأصحاب لهذه المسألة، و الإجماع المنقول لا يكون قابلًا للاستدلال مطلقاً على اختلاف بينهم في بعض موارده، و المقام خارج عنه خصوصاً في مثل ما نحن فيه ممّا لم يقع التعرّض له إلّا من بعض الأصحاب، مضافاً إلى احتمال أن يكون الوجه في المنع هو بعض الأُمور العقلية التي صارت موجبة لتخيّل المنع.

و مع هذا الاحتمال لا يبقى للتشبّث به مجال، و الإجماع الذي ادّعاه الرضي (قدّس سرّه) لا يكون ناظراً إلى المقام، بل إلى الاكتفاء بفعل صلاة لا يعلم أحكامها و اشتمالها على الخصوصيّات المعتبرة فيها، لا ما يعلم اشتمالها على جميع أجزائها و شرائطها. غاية الأمر أنّه لم يتميّز الواجب عن المستحبّ منها، بل هذا كما أفاده المحقّق الأصفهاني (قدّس سرّه) «3» نظير قولهم: عمل العامي بلا اجتهاد و لا تقليد باطل «4»، فإنّه لا يكون ناظراً إلى الاحتياط

بوجه، بل النظر إلى إتيان فعل لا يدرى موافقته للمأمور به لا اجتهاداً و لا تقليداً، فإنّ الفعل حينئذٍ لا يكون مطابقاً للمأمور به بحسب العادة إلّا بالاجتهاد أو التقليد، فلا يصحّ الاقتصار عليه، لا أنّه باطل بحسب الواقع و لو ظهر موافقته له أو للفتوى، كما لا يخفى.

ثانيها: ما أفاده المحقّق النائيني (قدّس سرّه) على ما في تقريراته، و ملخّصه: إنّ حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى بحيث يكون الداعي و المحرّك للمكلّف نحو العمل هو تعلّق الأمر به و البعث إليه، و هذا المعنى لا يتحقّق

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 6/ 160 162، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة ب 73.

(2) رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 50.

(3) بحوث في الأُصول، الاجتهاد و التقليد: 183.

(4) رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 49، فرائد الأصل: 2/ 506، مستمسك العروة: 1/ 6- 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 25

..........

______________________________

في الامتثال الإجمالي؛ لأنّ الدّاعي في كلّ واحد من الطرفين هو الاحتمال أي احتمال الأمر فالانبعاث إنّما يكون عن احتمال البعث، و هذه و إن كان قسماً من الإطاعة و نحواً من الامتثال إلّا أنّه لا مجال له مع التمكّن من الامتثال التفصيلي لتأخّره عنه رتبة، فالإنصاف أنّ دعوى القطع بتقدّم رتبة الامتثال التفصيلي على الإجمالي مع التمكّن عنه في الشبهات الموضوعية و الحكمية غير مجازفة «1».

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ الانبعاث لا يعقل أن يكون عن البعث بمجرّد وجوده الواقعي، و إلّا يلزم عدم تحقّق العصيان من أحد، من غير فرق بين العالم به و الجاهل، مع وضوح تحقّق المخالفة من كلا الفريقين، بل الباعث

هو العلم بالبعث لا بمجرّده أيضاً، بل بما يترتّب عليه من العواقب و التبعات؛ لأنّ العلم بالبعث أيضاً ربّما لا يوجب التحريك نحو العمل المبعوث إليه، بل دائماً إلّا ما شذّ و ندر لا يكون كذلك ما لم ينضمّ إليه سائر المقدّمات من ترتّب المثوبة أو العقوبة و اشتياق المكلّف إلى الوصول بالأُولى و التخلّص عن الثانية، و إلى منع اعتبار كون الانبعاث عن البحث على تقدير إمكانه و معقوليّته دخيلًا في تحقّق الطاعة و صدق الامتثال؛ لعدم قيام الدليل عليه.

و ما أفاده من حكم العقل بذلك ممنوع جدّاً؛ لأنّ العقل لا يدرك إلّا لزوم الإتيان بالمأمور به بجميع ما اعتبر فيه من القيود و الخصوصيّات، و المفروض تحقّقه في المقام؛ لأنّ الكلام بعد الفراغ عن عدم اعتبار قصد الوجه و شبهه أو عدم كون الاحتياط مستلزماً للإخلال به أنّه على تقدير تسليم مدخلية الانبعاث عن البعث في تحقّق الطاعة لا دليل على اعتبار عنوان الطاعة في سقوط الأمر و لو كان عباديا، بل الواجب مجرّد الإتيان بما تعلّق به الأمر بشراشر أجزائه و شرائطه، و لا وجه للحكم باعتبار تحقّق عنوان آخر بعد عدم نهوض دليل عقليّ أو نقليّ عليه، فالإنصاف أنّ ما أفاده من كون الدعوى المذكورة غير مجازفة مجرّد ادّعاء بلا بيّنة و برهان، كما هو غير خفيّ.

______________________________

(1) فوائد الأُصول: 3/ 73.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 26

..........

______________________________

مضافاً إلى أنّ الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة هو العقل، و من الواضح أنّ المكلّف المنبعث عن مجرّد احتمال البعث أقوى عنده في صدق الإطاعة و عنوان المطيع ممّن لا ينبعث إلّا بعد العلم بثبوت البعث، مع أنّ الانبعاث

في أطراف العلم الإجمالي إنّما هو عن العلم بالبعث، ضرورة أنّه لو لم يكن العلم به و لو إجمالًا متحقّقاً لم يتحقّق الانبعاث من كثير من الناس، الذين لا ينبعثون عن مجرّد احتمال البعث و لا يتحرّكون بحركة الاحتمال كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه ذكر في «المستمسك» في مقام الجواب عن هذا الوجه أنّ فعل كلّ واحد من الأطراف ناشئ عن داعي الأمر بفعل الواجب، و الاحتمال دخيل في داعويّة الأمر لا أنّه الداعي إليه، و إلّا كان اللازم في فرض العلم التفصيلي البناء على كون الفعل ناشئاً عن داعي العلم بالأمر لا عن داعي نفس الأمر، إذ الفرق بين المقامين غير ظاهر «1».

و يمكن الإيراد عليه بأنّه في صورة العلم بوجود البعث يكون الانبعاث مستنداً إلى نفس البعث؛ لأنّه قد نال الواقع و وصل إليه بالعرض، و هذا بخلاف صورة الاحتمال، فإنّ الانبعاث فيها لا محالة يكون مستنداً إلى الاحتمال الذي لا يكون له كاشفية بوجه، و هذا هو الفارق بينهما في صدق الإطاعة و الامتثال، فإنّ المحرّك و الداعي في الصورة الأُولى هو الواقع المنكشف، و في الصورة الثانية هو نفس الاحتمال، فالتحقيق في الجواب ما ذكرنا.

ثالثها: كون التكرار لعباً بأمر المولى و عبثاً محضاً، خصوصاً مع كون التمكّن من تحصيل العلم و الامتثال التفصيلي بسهولة، بحيث لا يحتاج إلى مئونة زائدة على مثل السؤال عن العالم الحاضر عنده، و كان التكرار الذي يحصل به الاحتياط متوقّفاً على تكرار العمل مائة أو أزيد مثلًا، فإنّه لا يرتاب في كون التكرار مع اجتماع هاتين الجهتين لعباً و عبثاً، و هو ينافي العبودية المطلوبة في باب العبادات، الذي هو محلّ الكلام و مورد النقض و الإبرام.

______________________________

(1)

مستمسك العروة: 1/ 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 27

..........

______________________________

و أجاب عن هذا الوجه المحقّق الأصفهاني (قدّس سرّه) في رسالته في الاجتهاد و التقليد بما حاصله: أنّ اللعب إمّا يكون ضائراً بداعي الأمر بحيث لا يصدر الفعل عن داعي الأمر، أو يضرّ به بحيث يكون تشريكاً في الداعي، أو يكون عنواناً للفعل فيكون الفعل معنوناً بعنوان قبيح، و الكلّ باطل.

أمّا صدور الفعل لا عن داعي الأمر فهو خلف؛ لأنّ المفروض أنّ المحرّك الأصلي نحو الصلاة الواجبة واقعاً هو الأمر بها.

و كذا لو كان تشريكاً في الداعي، مع أنّه لو كان تشريكاً بطلت العبادة و لو كان الدخيل داعياً عقلائيّاً.

و أمّا كونه عنواناً لفعل الصلاة فلا وجه له؛ لأنّ اللعب يحصل بالتكرير لا بالعمل المكرّر، و بعبارة أُخرى الإطاعة اليقينيّة تحصل بأحد نحوين: إمّا بالامتثال التفصيلي، و إمّا بإتيان صلاتين أو أكثر، و من هذه الحيثيّة الراجعة إلى تحصيل اليقين بإطاعة الأمر ليس شي ء منهما لغواً و عبثاً، لكن مع إمكان الأوّل و عدم ترتّب غرض عقلائيّ على النحو الثاني يكون لغواً من هذه الجهة لا من حيث المحصليّة لليقين، فالصلاة الواقعية الموجودة في ضمن الصلوات المتكرّرة لا توصف باللغوية و العبثية، بل المجموع بما هو مجموع، فلم يلزم وصف عنوانيّ قبيح في الصلاة المأتيّ بها موافقة لأمرها في ضمن المجموع «1».

أقول: لو سلّمنا كون اللعب ضائراً بداعي الأمر و منافياً للقربة المعتبرة في صحّة العبادة أو الإخلاص المعتبر فيها فهو غير ضائر بما هو محلّ الكلام في المسألة الأُصولية؛ لما عرفت من أنّ النزاع فيها إنّما هو في جواز الاجتزاء بالامتثال الإجمالي مع فرض كون المأتي به واجداً لجميع

ما اعتبر فيه من القيود و الخصوصيّات، ففرض كون اللعب منافياً لرعاية بعض تلك الخصوصيّات يوجب الخروج عمّا هو محلّ البحث.

______________________________

(1) بحوث في الأُصول، الاجتهاد و التقليد: 185 186.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 28

..........

______________________________

و أمّا دعوى كون اللعب عنواناً للفعل و يصير موجباً لتعنون الفعل بعنوان قبيح فقد عرفت في كلام المحقّق المذكور الجواب عنها بما يرجع حاصله إلى نفي استلزام اللعب؛ لصيرورة الفعل متّصفاً بعنوان قبيح؛ لأنّه يحصل بالتكرير لا بالعمل المكرّر.

و نحن نقول: إنّه لو سلمت هذه الدعوى أيضاً فتارة يراد منها أنّه يشترط في صحّة العبادة و ترتّب الغرض المطلوب عليها عدم انطباق عنوان مثل اللعب عليها، بحيث يكون الانطباق موجباً لعدم تحقّق العبادة واجدة لجميع الشرائط المعتبرة فيها؛ لأنّ من جملة الشرائط عدم انطباق مثل هذا العنوان، أو أنّ الانطباق من جملة الموانع فلا تكون العبادة خالية عن المانع، و أُخرى يراد منها أنّ الانطباق و إن لم يكن وجوده أو عدمه دخيلًا في العبادة شرطاً أو مانعاً، إلّا أنّه ينافي لأجل قبحه عند العقل مع مقام العبودية و تحقّق الامتثال في خصوص الأمر العبادي.

فعلى الأوّل فهو خارج عن النزاع في المسألة الأُصولية؛ لما عرفت من كون المفروض فيها صورة اشتمال العبادة على جميع الخصوصيّات المعتبرة فيها، و عدم كون الامتثال الإجمالي مانعاً عن رعايتها كذلك.

و على الثاني فهو غير معقول؛ لأنّه بعد فرض مطابقة المأتيّ به لِما هو المأمور به بحسب الواقع و عدم وجود خلل فيه أصلًا لا يعقل عدم الاجزاء، و لا وجه للحكم بعدم الاكتفاء به في مقام الامتثال، و المنافاة إن لم ترجع إلى الدخالة في العبادة لا يتصوّر

لها معنى أصلًا، كما هو أوضح من أن يخفى. فانقدح أنّ هذا الوجه أيضاً لم ينهض دليلًا على المنع في المسألة الأُصولية التي هي مسألة عقلية محضة، كما عرفت.

رابعها: ما ذكره الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) في رسالة الاشتغال من أنّه قد يقال بعدم جواز الاحتياط للزوم التشريع، و ذلك لأنّ قصد القربة المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعات في كلا المحتملين ليقطع بإحرازه في الواجب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 29

..........

______________________________

الواقعي، و من المعلوم أنّ الإتيان بكلّ من المحتملين بوصف أنّها عبادة مقرّبة موجب للتشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي فيكون محرّماً، فالاحتياط غير ممكن في العبادات، و إنّما يمكن في غيرها لعدم اعتبار قصد القربة فيها المستلزم لإتيان غير العبادة بوصف أنّها عبادة، كما عرفت «1».

و يرد عليه مضافاً إلى عدم استلزام الاحتياط للتشريع؛ لأنّ اعتبار قصد القربة في العبادة لا يقتضي لزوم رعايته في كلّ من المحتملين، بل اللازم الإتيان بما هو الواجب في الواقع بوصف أنّها عبادة مقرّبة، فيقصد في كلّ منهما حصول التقرّب به أو بصاحبه الذي يأتي به بعده أو أتى به قبله، و إلى أنّه على تقدير تسليم الاستلزام لا معنى لسراية الحكم عن عنوان التشريع على تقدير كونه من العناوين المعقولة الاختيارية على خلاف ما قرّرنا في محلّه، و تعلّق النهي التحريمي به إلى عنوان الاحتياط المستلزم له إنّ البحث ليس في الجواز و التحريم بل في الاكتفاء في مقام الامتثال بالإجمالي منه، و من المعلوم أنّ قصد التقرّب في غير العبادة لا يوجب بطلان العبادة المأتيّ بها مع جميع الخصوصيّات حتى القربة المعتبرة كما هو المفروض، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّ

هنا روايتين قد استدلّ بهما على بطلان الاحتياط في العبادة:

إحداهما: و هي التي حكي عن بعض المحقّقين «2» الاستدلال بها: صحيحة أبي أيّوب إبراهيم بن عثمان الخزاز، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث قال: إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض اللّٰه، فلا تؤدّوا بالتظنّي «3».

و الأُخرى: ما رواه الصدوق في محكي العيون بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السّلام) في حديث، أنّه كتب إلى المأمون: و صيام شهر رمضان يصام

______________________________

(1) فرائد الأُصول: 2/ 448.

(2) بعض المحقّقين.

(3) التهذيب: 4/ 160 ح 451، الوسائل: 10/ 256، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب 3 ح 16.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 30

..........

______________________________

للرؤية و يفطر للرؤية. و رواه في تحف العقول مرسلًا نحوه، و في الخصال بإسناده عن الأعمش، عن جعفر بن محمّد (عليهما السّلام) في حديث شرائع الدين مثله «1».

و الجواب عن الاستدلال بهما مضافاً إلى أنّ البحث كما عرفت إنّما هو في حكم العقل بجواز الاكتفاء بالاحتياط الذي هو عبارة عن الإتيان بالعبادة بجميع ما اعتبر فيها من الخصوصيّات لا في حكم الشرع بذلك؛ لعدم كون النزاع في الجواز و الحرمة كما مرّ مراراً، و إلى أنّ مرجع مفاد الروايتين إلى اعتبار أمر آخر في فرائض اللّٰه غير الأُمور المعروفة، و هو عدم جواز إتيانها مع التظنّي و عدم العلم، و مرجعه إلى اعتبار التمييز الذي عرفت أنّ الإخلال به في مورد الاحتياط لا يستلزم الحكم بعدم الاجتزاء به فيما هو محلّ البحث و النزاع أنّ الروايتين ليس مفادهما ما توهّمه المستدلّ، بل ظاهرهما عدم جواز الإتيان بفريضة من فرائض اللّٰه مع الشك و التظنّي

بعنوان أنّها تلك الفريضة، فلا يجوز الإتيان بالصوم في يوم الشك من شعبان بعنوان أنّه صوم شهر رمضان و الفريضة الإلهية في هذا الشهر.

و أمّا الإتيان به بعنوان الاحتياط و احتمال كونه من رمضان فلا دلالة في الروايتين على عدم جواز هذا النحو من الإتيان، فقوله (عليه السّلام): «لا تؤدّوا بالتظنّي» في الرواية الأُولى، و «يصام للرؤية» في الرواية الثانية معناه عدم جواز الأداء مع الشك بعنوان تلك الفريضة، و عدم جواز الصيام قبل الرؤية بعنوان أنّه من رمضان و فريضة من فرائض اللّٰه، فهما أجنبيّان عمّا نحن بصدده من جواز الإتيان بعنوان الاحتياط.

و قد أُورد على الاستدلال بالروايتين بوجوه أُخَر من الإيراد أيضاً، لكنّها غير مجدية أو خالية من الخدشة، فراجعها.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لم يقم دليل على تأخّر رتبة الامتثال الإجمالي

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام): 2/ 124 ح 1، تحف العقول: 419، الخصال: 606 ح 1، الوسائل: 10/ 259، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب 3 ح 26.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 31

..........

______________________________

عن التفصيلي، بل الظاهر حكم العقل بكونهما في رتبة واحدة.

في حكم صورة الشك نقول: إنّ الشك المتصوّر تارة في المسألة الفقهية، و أنّ قصد الوجه مثلًا مع فرض عدم إمكان رعايته في الامتثال الإجمالي هل يكون معتبراً في صحّة العبادة و تحقّق الطاعة أم لا؟ و أُخرى في المسألة الأُصولية، و هي تساوي مرتبتي الامتثالين أو تأخّر الإجمالي عن التفصيلي، و ثالثة في صغرى المسألة الأُصولية؛ مثل الشك في أنّ قصد الوجه المعتبر في العبادة هل يمكن رعايته في الامتثال الإجمالي أم لا يمكن إلّا في الامتثال

التفصيلي؟

أمّا الشكّ في المسألة الفقهية، فمع عدم وجود إطلاق رافع له أو عدم جواز التمسّك بالإطلاق يرجع إلى أصالة البراءة لو كان الترديد بين الأقلّ و الأكثر في متعلّق التكليف، و إلى أصالة الاشتغال لو كان الترديد بينهما في الأسباب و المحصّلات على اختلاف فروضه و صوره، و المحكي عن الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) أنّه ذهب إلى عدم دخل قصد الوجه في الإطاعة بنظر العقلاء، فيرجع في دفعه إلى إطلاقات أدلّة الإطاعة، فتأمّل «1».

و أمّا الشكّ في المسألة الأُصولية، فالذي صرّح به في تقريرات المحقّق النائيني أنّه يرجع فيه إلى أصالة الاشتغال؛ لدوران الأمر فيه بين التعيين و التخيير، نظراً إلى أنّ الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع القدرة على التفصيلي منه مشكوك لدى العقل؛ فيدور الأمر بين تعيّن الثاني و التخيير بينه و بين الأوّل، و الحكم فيه هو الرجوع إلى أصالة الاشتغال «2».

______________________________

(1) فرائد الأُصول: 1/ 244، رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 49.

(2) فوائد الأُصول: 3/ 73.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 32

..........

______________________________

و أجيب عنه تارة كما في المستمسك بأنّ مرجع الشك في المقام إلى الشكّ في اعتبار العلم بالأمر في تحقّق الإطاعة، فيكون من قبيل الدوران بين الأقلّ و الأكثر لا من قبيل الدوران بين التعيين و التخيير. نعم، يتمّ ذلك بناءً على أنّ الباعث على العمل الاحتمال لتباين نحوي الامتثال، إذ في أحدهما يكون الباعث الأمر و في الآخر الاحتمال، فالشك في اعتبار الامتثال التفصيلي يكون من التردّد بين التعيين و التخيير «1» و أُخرى كما في شرح بعض الأعلام بأنّ مرجع المقام إلى الشك في اعتبار أمر زائد في عبادية العبادة؛ و هو لزوم

الانبعاث عن بعث المولى مع الإمكان دون احتماله، و في مثله تجري البراءة على المختار «2».

أقول: و في الكلّ نظر:

أمّا ما أفاده المحقّق النائيني (قدّس سرّه) ففيه أنّك عرفت أنّه بعد اشتمال الامتثال الإجمالي على جميع الخصوصيّات المعتبرة في العبادة شرطاً و شطراً، و عدم كون التكرار مستلزماً للإخلال بشي ء من تلك الخصوصيّات لا يعقل أن لا يدرك العقل الاجتزاء و الاكتفاء به، و أن يبقى شاكّاً متردّداً بعد كون أجزاء المأتي به المطابق للواقع أمراً بديهيّاً لا يجري فيه الارتياب و احتمال الخلاف.

و أمّا ما أفاده الشارحان فيرد عليه مضافاً إلى أنّ الشكّ في اعتبار العلم بالأمر في تحقّق الطاعة، أو في اعتبار أمر زائد في عبادية العبادة مرجعه إلى أنّ متعلّق التكليف هو عنوان الطاعة و العبادة بوصف أنّها عبادة، و الشكّ في مدخلية شي ء في هذا العنوان يكون المرجع فيه أصالة الاشتغال؛ لعدم كون الترديد حينئذٍ بين الأقل و الأكثر في متعلّق التكليف، بل في السبب المحصّل للعنوان المأمور به كما هو غير خفيّ إنّ هذا خروج عمّا هو المفروض من الشكّ في المسألة الأُصولية؛ لأنّ المفروض هو صورة اشتمال الامتثال الإجمالي على جميع ما له دخل في صحّة العبادة و اتّصاف المأتي به بكونه مطابقاً لما هو المأمور به، ففرض الشكّ في اعتبار شي ء آخر في تحقّق

______________________________

(1) مستمسك العروة: 1/ 8 9.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 71.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 33

..........

______________________________

الطاعة أو في اتّصاف العبادة بالعبادية خارج عن محلّ الكلام، فتدبّر جيّداً.

و أمّا الشكّ في صغرى المسألة الأُصولية فالظاهر أنّ المرجع فيه هو أصالة الاشتغال؛ للشكّ في تحقّق

ما هو الدخيل في المأمور به قطعاً مع الاقتصار على الامتثال الإجمالي؛ لأنّ المفروض الشكّ في إمكان رعاية مثل قصد الوجه المعتبر فرضاً في الاحتياط، و المرجع في مثل هذا الشكّ أصالة الاشتغال بلا إشكال.

هذا تمام الكلام في الصورة الأُولى؛ و هو الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التفصيلي.

و أمّا الصورة الثانية: أي صورة عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي، فالمصرّح بعدم جواز الاحتياط فيها هو الحلّي (قدّس سرّه) على ما حكي عنه سابقاً «1»؛ من حكمه بعدم جواز تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين بالنجاسة، و أنّه لا بدّ من أن يصلّي عارياً، و الحقّ أنّه لا مجال بعد الحكم بالجواز في الصورة الأُولى للمناقشة في هذه الصورة أصلًا، فجواز الاحتياط في كلتا الصورتين بمعنى الاجتزاء و الاكتفاء به في مقام الامتثال أو ترتّب الأثر المقصود واضح لا ينبغي أن يخفى.

بقي في باب الاحتياط أُمور ينبغي أو يجب التنبيه عليها:

الأوّل: فصّل الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) في العبادات بين الشبهات البدوية و المقرونة بالعلم الإجمالي بالاكتفاء في الأُولى بمجرّد قصد احتمال الأمر؛ لأنّه هو الذي يمكن في حقّه، و بعدم الاكتفاء به في الثانية، بل اللازم قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير.

قال: و لازمه أن يكون المكلّف حال الإتيان بأحد المحتملين قاصداً للإتيان بالآخر، إذ مع عدم ذلك لا يتحقّق قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير، بل يكون قصد امتثال الأمر على تقدير تعلّقه بالمأتيّ به، و هذا لا يكفي في تحقّق الامتثال مع العلم بالأمر «2».

______________________________

(1) في ص 30.

(2) انظر فرائد الأُصول: 2/ 455، لكن ليس فيها بهذه العبارة، و هذه العبارة مذكورة في تهذيب الأُصول: 2/ 373 374.

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 34

..........

______________________________

و اعترض عليه المحقّق النائيني على ما في التقريرات بأنّ العلم بالأمر لا يوجب فرقاً في كيفيّة النيّة، فإنّ الطاعة في كلّ من المحتملين ليست إلّا احتمالية كالشبهة البدوية، إذ المكلّف لا يمكنه أزيد من قصد امتثال الأمر الاحتمالي عند الإتيان بكلّ من المحتملين، و ليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الأجزاء حتى يقال: العلم بتعلّق التكليف بعمل واحد يقتضي قصد امتثال الأمر المعلوم، فلو أتى المكلّف بأحد المحتملين من دون قصد الإتيان بالآخر يحصل الامتثال على تقدير تعلّق الأمر بالمأتيّ به، و إن كان متجرّياً في عدم قصده الامتثال على كلّ تقدير «1».

و أجاب عن هذا الاعتراض سيّدنا العلّامة الأُستاذ الماتن دام ظلّه العالي بأنّ الفرق بين الصورتين من حيث الداعي واضح جدّاً؛ لأنّ الداعي في الأُولى ليس إلّا احتمال الأمر، و في الثانية له داعيان: داعٍ إلى أصل الإتيان و هو الأمر المعلوم، و داع إلى الإتيان بالمحتمل لأجل احتمال انطباق المعلوم عليه، و الانبعاث في كلّ من المحتملين إنّما هو عن هذين الداعيين. غاية الأمر أنّ الدّاعي الثاني ناشئ من الداعي الأوّل، فالداعي الأوّل هو الأمر المعلوم تعلّقه بما ينطبق على أحد المحتملين لا احتمال الأمر. غاية الأمر أنّه ينشأ من هذا الداعي إرادة الإتيان بكلّ من المحتملين؛ لتوقّف الإتيان بالمأمور به عليه «2».

و حينئذٍ فقد يكون المكلّف بمثابة ينبعث من الأمر المعلوم بحيث يحصل له الداعي إلى الإتيان بالمحتملين معاً؛ لأنّه لا يرضى إلّا بالموافقة القطعية التي لا تحصل إلّا بالإتيان بهما، و قد يكون بحيث ينبعث من الأمر المعلوم بمقدار لا يحصل له إلّا الداعي إلى الإتيان بأحد المحتملين؛ لأنّه

يخاف من المخالفة القطعية الحاصلة بترك كلا المحتملين معاً، و حينئذٍ فلو أتى بأحدهما و صادف الواقع يكون ممتثلًا؛ لأنّ الداعي له هو قصد الامتثال بالنسبة إلى الأمر المعلوم لا لأجل ما أفاده المحقّق النائيني من كفاية الإتيان باحتمال الأمر.

______________________________

(1) فوائد الأُصول: 4/ 136 137.

(2) تهذيب الأُصول: 2/ 375.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 35

..........

______________________________

و استضعف دام ظلّه ما أفاده الشيخ (رحمه اللّٰه) بعدم الدليل على الجزم في النيّة، بل يكفي كون العمل مأتيّاً به للّٰه تعالى؛ و هو حاصل في إتيان كلّ واحد من المحتملين، و لا يحتاج إلى الجزم بوجود الأمر في البين حتى لا تصحّ إطاعة المحتمل الأوّل إلّا مع قصد الإتيان بالآخر.

و بالجملة: الداعي إلى الإتيان بأحد المحتملين ليس إلّا إطاعة المولى، فهو على فرض الانطباق مطيع لأمره، و قصد الإتيان بالآخر لا ينفع وجوده و لا يقدح عدمه «1».

أقول: الظاهر أنّ مقصود الشيخ (رحمه اللّٰه) أنّه يعتبر في باب العبادات أن يتحقّق عنوان الإطاعة و الامتثال، بخلاف سائر الواجبات التي يكتفى فيها بمجرّد تحقّق المأمور به في الخارج بأيّ نحو كان، و تحقّق هذا العنوان فيما إذا لم يكن الأمر معلوماً للمكلّف لا يتوقّف إلّا على الإتيان بالعمل بداعي مجرّد احتمال الأمر؛ لعدم إمكان الزائد على هذا المقدار في حقّه.

و أمّا إذا كان الأمر معلوماً للمكلّف و لو بالإجمال، فتحقّق هذا العنوان يتوقّف على قصد رعاية الأمر و امتثاله مطلقاً أي سواء كان المأمور به هو المحتمل الأوّل أو الثاني و بدون ذلك لا مجال لتحقّق الامتثال، فاللازم على المكلّف أن يكون حال الإتيان بالأوّل قاصداً للإتيان بالثاني، و إلّا لا يتحقّق الامتثال و

لو انكشف كونه هو المأمور به.

و يمكن أن يقال عليه: إنّه لا دليل على اعتبار هذا العنوان و تحقّقه في سقوط الأمر العبادي و حصول الغرض منه، بل اللازم في باب العبادات مجرّد كون العمل صادراً لا عن داعٍ دنيويّ، و المفروض تحقّقه فيما نحن فيه، فالظاهر بناءً على ما ذكرنا الاكتفاء بمجرّد الإتيان بداعي احتمال كون الأوّل هو المأمور به.

ثمّ إنّه على مبنى الشيخ (رحمه اللّٰه) لو بدا له بعد الإتيان بالأوّل قاصداً لعدم الإتيان بالآخر أو غير قاصد للإتيان به أن يأتي بالثاني أيضاً، فهل يكفي ذلك في تحقّق الامتثال أم لا؟

الظاهر هو التفصيل بين ما لو انكشف كون الأوّل هو المأمور به، فلا يكتفى به لعدم تحقّق قصد الامتثال، و بين ما لو انكشف كون الثاني كذلك فيجتزئ به؛ لأنّ إتيانه

______________________________

(1) تهذيب الأُصول: 2/ 374.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 36

..........

______________________________

بداعي احتمال الأمر كاف بعد كونه هو المقدار الممكن في حقّه، فتأمّل.

الأمر الثاني: حكي عن المحقّق القمّي (قدّس سرّه) التفصيل في وجوب الاحتياط في باب الشرائط و الموانع بين ما يستفاد من مثل قوله (عليه السّلام): لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه «1». و ما يستفاد من مثله قوله (عليه السّلام): لا صلاة إلّا بطهور «2». فاختار وجوب الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعيّة في الثاني دون الأوّل «3».

و هذا الكلام بظاهره ممّا لا يتمّ، و لذا صار مورداً لاعتراض من تأخّر عنه؛ بأنّه لا فرق بمقتضى القاعدة العقلية الحاكمة بوجوب الاحتياط بين الصورتين، و أنّ حكم العقل بلزوم الإتيان بالأطراف أو الطرفين ثابت في البين، و لكنّه وقع الإشكال في مبنى هذا التفصيل.

فالذي أفاده المحقّق

النائيني على ما في تقريراته بعد استفادته من كلامه أنّ هذا التفصيل في باب الشرائط لا بينها و بين الموانع، أنّ الوجه فيه قياس باب العلم و الجهل بالموضوع بباب القدرة و العجز، فكما أنّ القدرة من شرائط الفعلية لا التنجيز فكذا العلم. ثمّ أورد عليه بالفرق بين القدرة و العلم، فإنّ القدرة من شرائط ثبوت التكليف و فعليته و العلم من شرائط التنجيز «4».

و الذي اختاره سيدنا العلّامة الأُستاذ دام ظلّه أنّ هذا الكلام من المحقّق القمّي (قدّس سرّه) مبنيّ على ما هو المعروف منه من عدم كون العلم الإجمالي منجّزاً أصلًا، و أنّ الشبهة المقرونة لا تكون إلّا كالشبهة البدوية، و حينئذٍ فاللازم الرجوع إلى الأصل، و حيث إنّ المستفاد من العبارة الأُولى المانعية و من الثانية الشرطية، فالواجب في الصورة الأولى هو الرجوع إلى البراءة لانحلال الحكم حسب أفراد المانع، فيؤخذ في المعلوم و يجري في المشكوك الأصل، و الواجب في الصورة الثانية هو الرجوع إلى أصالة الاشتغال لوجوب إحراز الشرط، و لا يحصل إلّا بالصلاة في الثوبين مثلًا.

______________________________

(1) الوسائل: 4/ 347، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب 2 ح 6، و فيه: في وصيّة النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) لعلي (عليه السّلام)، قال: يا عليّ لا تصلّ في جلد ما لا يشرب لبنه و لا يؤكل لحمه.

(2) التهذيب: 1/ 49 ح 144 و 209 ح 605 و 2/ 140 ح 545، الوسائل: 1/ 365، أبواب الوضوء ب 1 ح 1.

(3) لم نعثر عليه في كتبه التي لدينا، نعم حكاه عنه المحقّق النائيني في فوائد الأُصول: 4/ 134.

(4) فوائد الأُصول: 4/ 135.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد،

ص: 37

..........

______________________________

ثمّ أورد دام ظلّه على ما أفاده المحقّق المتقدّم في مبنى التفصيل المذكور أوّلًا: بأنّ القياس المذكور لا يصحّح التفصيل؛ لعدم الفرق بين العجز عن الشرط و العجز عن المانع، فلو كان مفاد الدليل هو الشرطية المطلقة و المانعية كذلك فلازمه سقوط الأمر بسبب عدم التمكّن، و إن لم يكن كذلك فلازمه سقوط الشرط و المانع عن وصفهما، كما لا يخفى. و ثانياً: بأنّ العلم و القدرة كلاهما من شرائط التنجيز؛ لأنّ الأحكام الشرعية أحكام قانونية مطلقة، و ليست القدرة من شرائطها و إلّا لكان الأصل الجاري مع الشك فيها هو أصل البراءة، مع أنّ بناءهم على الاحتياط، مضافاً إلى أنّه من البعيد أن يكون المستفاد من العبارة الأولى بنظر المحقّق القمّي (رحمه اللّٰه) هو الشرطية بعد كون جمهور الأصحاب قائلًا بالمانعية «1».

و يمكن أن يقال: إنّ ما أفاده المحقّق القمي (رحمه اللّٰه) ليس مبنيّاً على ما هو المعروف منه من عدم ثبوت وصف التنجيز للعلم الإجمالي، بل على أنّ الدليل المتضمّن لإفادة الشرعية أو المانعية لو كان بصورة الخطاب و بيان التكليف تقتصر في مفاده على خصوص المورد، الذي يمكن أن يكون التكليف باعثاً إليه أو زاجراً عنه، فإنّ التكليف في مثل المقام و إن لم يكن تكليفاً نفسياً بل يكون غيريّاً، إلّا أنّه مع ذلك لا يفيد الشرطية أو المانعية إلّا بالمقدار الذي يمكن سعة دائرة التكليف.

و من الواضح أنّ مثل قوله (عليه السّلام): لا تصل فيما لا يؤكل لحمه «2» لا يمكن أن يكون زاجراً عن الفرد الذي يشكّ في كونه من مصاديق غير المأكول، و هذا بخلاف ما لو كان الدليل مثل قوله (عليه السّلام): لا صلاة إلّا بطهور

«3» الظاهر في عدم تحقّق الماهية بدونه، كما لا يخفى.

و هذا الذي ذكرناه و إن لم يكن خالياً عن النظر بل المنع إلّا أنّه يمكن أن يكون

______________________________

(1) تهذيب الأُصول: 2/ 372 373.

(2) تقدّم في ص 45.

(3) تقدّم في ص 45.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 38

..........

______________________________

وجهاً لما أفاده القمّي (رحمه اللّٰه)، فتأمّل «1».

الأمر الثالث: إذا كان المعلوم بالإجمال أمرين مترتّبين شرعاً كالظهرين، و اشتبه بعض شرائطها كالقبلة و الستر، فلا إشكال في جواز الشروع في محتملات الواجب الثاني بعد استيفاء محتملات الأوّل، سواء كان الشروع في الثاني على طبق الشروع في الأوّل أم لا، و لا في عدم جواز استيفاء محتملات الثاني قبل استيفاء الأوّل، و لا في عدم جواز الشروع في محتملات الثاني قبل استيفاء الأوّل على نحو يغاير الشروع في الأوّل كما هو ظاهر، إنّما الإشكال في جواز الإتيان بهما مترتّباً، كما إذا صلّى الظهر إلى جهة و العصر إلى تلك الجهة، ثمّ صلى الظهر إلى جهة أُخرى و العصر إليها و هكذا، أو صلّى الظهرين قصراً ثمّ تماماً، أو بالعكس.

و الذي اختاره المحقّق النائيني على ما في التقريرات هو عدم الجواز، بناءً على ما اختاره سابقاً من ترتّب الامتثال الإجمالي على الامتثال التفصيلي و تأخّره عنه «2»، نظراً إلى أنّ في المقام جهتين:

إحداهما: إحراز القبلة في فرض اشتباهها، و هو لا يمكن بنحو التفصيل على ما هو المفروض، فيجتزئ من جهته بالامتثال الإجمالي.

و الأُخرى: إحراز الترتيب بين الصلاتين و هو بمكان من الإمكان؛ لجواز الإتيان بجميع محتملات الواجب الأوّل ثمّ الشروع في الثاني. و عليه يعلم حين الاشتغال

______________________________

(1) إشارة إلى أنّ هذا الوجه إنّما

يصحّح التفصيل في خصوص الشبهات البدوية، و أمّا الشبهات المقرونة فعلى تقدير كون العلم الإجمالي منجّزاً كما هو المفروض لا يبقى فيها فرق، كما أنّه على هذا التقدير يلزم أن لا يكون الاجتناب في التكاليف النفسية مثل قوله: لا تشرب الخمر في الشبهات المقرونة منها بالعلم الإجمالي لازماً أيضاً، كما لا يخفى.

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ هذا التفصيل من القمي (رحمه اللّٰه) إنّما هو في خصوص الشبهة البدوية لا الأعمّ منها و من المقرونة، فلا بدّ من المراجعة إلى كلامه ليظهر الحال، المؤلّف دام ظلّه.

(2) تقدّم في ص 33.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 39

..........

______________________________

بمحتملات العصر بوقوع الظهر قطعاً و حصول الترتيب جزماً، و عدم العلم بأنّ العصر الواقعي هل هو المحتمل الأوّل أو الوسط أو الأخير إنّما هو للجهل بالقبلة لا الجهل بالترتيب، و سقوط اعتبار الامتثال التفصيلي بالإضافة إلى شرط لعدم الإمكان لا يوجب سقوط اعتباره بالنسبة إلى ما يمكن من الشرائط كالترتيب في المقام، فلا وجه لرفع اليد عن هذه الجهة الدخيلة في الامتثال «1»، انتهى ملخّص ما أفاده (قدّس سرّه).

و أورد عليه سيّدنا العلّامة الأستاذ دام ظلّه مضافاً إلى منع المبنى، نظراً إلى ما عرفت من كون الامتثالين في رتبة واحدة و عدم تأخّر الإجمالي عن التفصيلي بمنع البناء، نظراً إلى عدم الفرق بين هذه الصورة و بين ما إذا شرع في محتملات الثاني بعد استيفاء الأوّل، و عدم كون الأمر في المقام دائراً بين الموافقة الإجمالية و التفصيليّة، و ذلك لأنّ كلّ واحد من محتملات العصر لو صادف القبلة فقد أتى قبله بالظهر و يحصل الترتيب واقعاً، و غير المصادف منها عمل لا طائل

تحته كغير المصادف من الآخر و لا ترتيب بينهما.

و بالجملة: الترتيب أمر إضافي يتقوّم بثلاثة أُمور: وجود الظهر، و وجود العصر، و تأخّر الثاني عن الأوّل، و لا مجال لحصول العمل التفصيلي بتحقّق هذا الأمر الإضافي بعد عدم كون العصر معلوماً إلّا بالإجمال، فلا فرق بين الصورتين «2».

و ربّما يقال: بأنّ الوجه في عدم جواز الشروع في العصر قبل استيفاء محتملات الأوّل، هو أنّه قد علم من الشرع بمقتضى الأدلّة أنّ الاشتغال بالعصر إنّما يجوز بعد العلم بالفراغ عن الظهر، فمع الشك في الفراغ عنه لا يجوز الاشتغال بالأمر المترتّب عليه.

و دعوى أنّ الاشتغال غير الجائز إنّما هو الاشتغال بالعصر الواقعي، و في هذه الصورة لا يعلم كونه هو العصر الواقعي بل كونه عصراً يلازم كون السابق ظهراً، فلا وجه لعدم جواز الاشتغال به.

______________________________

(1) فوائد الأُصول: 4/ 138.

(2) تهذيب الأُصول: 2/ 375 377.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 40

..........

______________________________

مدفوعة بأنّ المستفاد من الأدلّة مثل دليل العدول و نحوه أنّ الشارع لم يرض بالاشتغال بصلاة بعنوان أنّها الصلاة اللاحقة إلّا بعد العلم بفراغ الذمّة عن التكليف بالصلاة السابقة، فمع الشكّ في الفراغ عن عهدة تكليف الظهر كيف يجوز الشروع في صلاة بعنوان أنّها صلاة العصر، فتدبر.

الأمر الرابع: قال صاحب العروة بعد حكمه بجواز العمل بالاحتياط و لو كان مستلزماً للتكرار: لكن يجب أن يكون عارفاً بكيفيّة الاحتياط بالاجتهاد أو بالتقليد «1». و في المستمسك: هذا شرط للاكتفاء بالاحتياط في نظر العقل، بل لعلّ عدم المعرفة مانع من حصول الاحتياط فلا يحصل الأمن «2».

أقول: يرد على المتن أنّه بعد وضوح عدم كون هذا الوجوب إلّا وجوباً عقليّاً إرشادياً لا دليل على

لزوم المعرفة بكيفيّة الاحتياط من طريق التقليد أو الاجتهاد، بل اللازم بعد ترك الطريقين هو التوسّل إلى الاحتياط و لو لم يكن عارفاً بكيفيّته، بل احتاط في الكيفيّة أيضاً.

أ لا ترى أنّه في مثل اشتباه القبلة إذا كان الواجب أمرين مترتّبين شرعاً كالظهرين مثلًا، إذا أراد المصلّي الاحتياط بالصلاة إلى أربع جهات فتارة يعرف من طريق الاجتهاد أو التقليد أنّ اللازم مثلًا هو تقديم محتملات الظهر بجميعها؛ بأن يأتي بها أوّلًا ثمّ يأتي بمحتملات العصر ثانياً، و أُخرى يشكّ في أنّه هل يلزم عليه ذلك، أو يجوز له الإتيان بمحتمل العصر عقيب محتمل الظهر بالنسبة إلى كلّ جهة من الجهات؟ فإذا احتاط في هذه الصورة لأجل تركه الطريقين و أتى بالكيفيّة الأُولى الموافقة للاحتياط لا مجال لدعوى عدم الاجتزاء به، مستندة إلى عدم كون الكيفيّة معروفة عنده بالاجتهاد أو التقليد.

ضرورة عدم الفرق في كفاية الاحتياط بين الاحتياط في أصل العمل و بين الاحتياط في كيفيّته كما هو ظاهر. نعم، يختصّ ذلك بما إذا كانت الكيفيّة جارياً فيها

______________________________

(1) العروة الوثقى: 1/ 3، مسألة 2.

(2) مستمسك العروة: 1/ 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 41

..........

______________________________

الاحتياط كما في المثال المفروض، و إلّا فلا محيص عن التوسّل بأحد الطريقين.

و يرد على الشرح مضافاً إلى أنّ ظاهر صدر العبارة أنّ الاحتياط من دون معرفة الكيفيّة بأحد الطريقين لا يجوز الاكتفاء به في نظر العقل، و لو مع العلم بإحراز الاحتياط و تحقّقه، و نحن لا نتصوّر وجهاً لذلك أنّه لم يفهم وجه للترقي إلى أنّ عدم المعرفة مانع من حصول الاحتياط، فإنّ عدم المعرفة مانع عن حصول العلم بالاحتياط لا عن حصول أصله؛

لعدم كون العلم بالكيفيّة دخيلًا في الذات بوجه.

الأمر الخامس: قال في العروة أيضاً: قد يكون الاحتياط في الفعل، كما إذا احتمل كون الفعل واجباً و كان قاطعاً بعدم حرمته، و قد يكون في الترك، كما إذا احتمل حرمة فعل و كان قاطعاً بعدم وجوبه، و قد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار، كما إذا لم يعلم أنّ وظيفته القصر أو التمام «1».

و في شرح بعض الأعلام: لا يخفى أنّ حصر المصنّف (رحمه اللّٰه) كيفيّة الاحتياط في الصورة المذكورة لا يكون حاصراً لجميع الأقسام، و ذلك لأنّ متعلّق الشكّ قد يكون واقعة واحدة، و قد يكون واقعتين، فإذا كانت الواقعة واحدة فقد يحتمل وجوبها مع القطع بعدم حرمتها؛ لئلّا يكون من دوران الأمر بين المحذورين، فالاحتياط حينئذٍ يكون في الفعل، سواء كان الوجوب المحتمل استقلاليّاً أم ضمنياً، و قد يحتمل حرمته مع القطع بعدم وجوبه، فالاحتياط حينئذٍ في الترك.

و إذا تعدّدت الواقعة فقد يكون الاحتياط في الجمع بين الفعلين من دون تكرار لأصل الواجب، كما إذا تردّد أمر القراءة في صلاة بين الجهر و الإخفات، فالاحتياط حينئذٍ يتحقّق بالقراءة مرّتين في صلاة واحدة، إحداهما جهرية و الأُخرى مع المخفوت؛ بأن يقصد بذلك تحقّق الواجب بإحداهما، و أن تكون الأُخرى مستحبّة، فإنّها من قراءة القرآن في الصلاة، أو مع التكرار في أصل الواجب؛ كما إذا علم إجمالًا بوجوب أحد الفعلين: كالقصر و الإتمام. و قد يكون الاحتياط في ترك الفعلين معاً؛ كما إذا علم

______________________________

(1) العروة الوثقى: 1/ 7 8، مسألة 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 42

..........

______________________________

بحرمة أحدهما لا بعينه مع العلم بعدم وجوب الآخر، و قد يكون في

فعل أحد الفعلين و ترك الآخر؛ كما إذا علم إجمالًا بوجوب الأوّل أو حرمة الثاني «1».

و يرد عليه مضافاً إلى أنّه مع إسقاط قيد التكرار يدخل جميع الفروض في العبارة، و لعلّ ذكره كان للتوضيح بالإضافة إلى بعض الفروض لا للاحتراز، فتدبّر. و إلى إمكان المناقشة في بعض الأمثلة المذكورة كالقصر و الإتمام، نظراً إلى إمكان دعوى كون الإتمام و الإتيان بالصلاة أربع ركعات يوجب تحقّق ما هو المأمور به واقعاً، سواء كان قصراً أو تماماً، و ذلك لأنّه على تقدير كونه قصراً لا مانع من صحّته تماماً إلّا إضافة ركعتين و عدم وقوع التسليم في محلّه.

فإذا فرضنا أنّ التسليم ليس من أجزاء الصلاة و كونه مخرجاً و المخرج ليس من أجزاء المخرج عنه، و فرضنا أيضاً أنّ وقوع المنافي قبل التسليم و بعد التشهّد لا يضرّ بصحّة الصلاة كما ربّما يحتمل، فحينئذٍ يتحقّق المأمور به بالإتيان به تماماً و لو كان في الواقع قصراً إنّ حصره أيضاً لا يكون حاصراً لجميع الأقسام؛ لأنّه قد يكون الاحتياط في اختيار أحد الفعلين، كما في موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير، الذي يحكم العقل فيه بالاحتياط و الأخذ بالمعيّن، فإنّ الاحتياط هنا ليس في أصل الفعل بل في اختيار الفعل المعيّن، كما هو واضح.

و أمّا ما في المستمسك من أنّ الجمع يمكن أن يكون داخلًا في الأوّل فتأمّل «2»، ففيه: أنّ المراد بالأمرين في عبارة المتن ليس خصوص الفعلين حتى يكون الجمع داخلًا في الأوّل، بل المراد هو الأعمّ منه و من التركين و من فعل و ترك كما عرفت، و لعلّه لأجل هذا أمر بالتأمّل.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 72 73.

(2)

مستمسك العروة: 1/ 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 43

معنى التقليد

مسألة 2: التقليد هو العمل مستنداً إلى فتوى فقيه معيّن و هو الموضوع للمسألتين الآتيتين. نعم، ما يكون مصحّحاً للعمل هو صدوره عن حجّة كفتوى الفقيه و إن لم يصدق عليه عنوان التقليد، و سيأتي أنّ مجرّد انطباقه عليه مصحّح له (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة جهات من البحث:

الجهة الأُولى: في معنى التقليد بحسب اللغة، و الظاهر أنّ معناه جعل القلادة في الجِيد «1» و العنق أي عنق الغير و يتعدّى إلى مفعولين، و فيه استعمالات مجازية، مثل حديث الخلافة: قلّدها رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) عليّاً (عليه السّلام) «2»، و في تطبيق هذا المعنى اللغوي على المعنى الاصطلاحي خلاف ينشأ من الاختلاف في المعنى الاصطلاحي، و سيأتي توضيحه بعد بيان ذلك المعنى إن شاء اللّٰه تعالى.

الجهة الثانية: في تفسير التقليد و بيان معناه الاصطلاحي، فنقول: قد اختلف ظاهر كلماتهم في تعريفه، و المتحصّل من مجموعها أربعة:

أحدها: ما حكي عن العلّامة (قدّس سرّه) في النهاية من أنّه هو العمل بقول الغير من غير حجّة معلومة «3»، و إليه يرجع تفسيره إلى العمل عن استناد، أو الاستناد إلى الغير في العمل.

ثانيها: ما حكي عن جامع المقاصد من أنّه عبارة عن قبول قول الغير من غير حجّة «4».

ثالثها: ما حكي عن العضدي من أنّه الأخذ بقول الغير من غير حجّة «5». و اختاره المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) في الكفاية، حيث قال: إنّه أخذ قول الغير ورائه للعمل به في الفرعيّات، أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبّداً بلا مطالبة دليل على رأيه «6».

رابعها: التفسير بالالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن كما اختاره

صاحب العروة «7» و نسب إلى ظاهر الفصول «8».

______________________________

(1) الجِيد: العنق، و قيل: مقلَّد، لسان العرب مادّة «جيد».

(2) الكافي: 1/ 199 ح 1.

(3) نهاية الأُصول: 346 (أخذناه من المعالم: 242)، و حكاه في الفصول الغروية أيضاً: 411.

(4) جامع المقاصد، لم نعثر عليه فيه بعد بحث كثير لكن قال به في رسائله: 3/ 175.

(5) مختصر المنتهي: 2/ 305.

(6) كفاية الأُصول: 539.

(7) العروة الوثقى: 1/ 4.

(8) الفصول الغروية: 411.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 44

..........

______________________________

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في أمرين:

الأمر الأوّل: أنّه هل الاختلاف الذي عرفته في معنى التقليد اختلاف حقيقي في معناه و مفهومه، أو أنّه اختلاف بحسب العبارة و النزاع في الحقيقة لفظي؟

ربّما يقال بالثاني، نظراً إلى أنّ عدم تعرّضهم للخلاف في ذلك مع تعرّضهم لكثير من الجهات غير المهمّة يدلّ على عدم تحقّق الاختلاف واقعاً، و أنّ مراد الجميع واحد، و يؤيّده ما عن القوانين «1» من نسبة التعريف بالعمل بقول الغير من غير حجّة إلى العضدي و غيره، مع أنّ تعريف العضدي كما عرفت إنّما هو الأخذ، مع أنّ الظاهر أنّ المراد بالأخذ هو العمل كما في كثير من المقامات؛ مثل الأخذ بما وافق الكتاب، و الأخذ بما خالف العامّة، و الأخذ بقول أعدلهما، و من أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات، إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة، و لعلّه كان هو المراد من القبول المذكور في كلام بعضهم.

و لكنّ الظاهر عدم كون النزاع لفظيّاً؛ لأنّه مضافاً إلى أنّ تفسير الأخذ بالعمل مع احتمال أن يكون المراد به التعلّم أو أخذ الرسالة ممّا لا شاهد له، و كذا تفسير القبول به على تقدير تسليم ذلك لا يرجع

النزاع إلى اللفظ؛ لتصريح القائل بالالتزام بعدم لزوم العمل في تحقّق التقليد كما في العروة «2». و صرّح به صاحب الفصول «3» على ما حكي، فكيف يجتمع مع القول بأنّ التقليد هو نفس العمل، و عدم التعرّض للخلاف لا دلالة فيه على عدم كون المسألة خلافية، كما هو ظاهر.

مضافاً إلى أنّهم رتّبوا الثمرة على هذا النزاع و بنوا مسألة البقاء على تقليد الميّت، و كذا مسألة العدول عن الحيّ إلى الآخر المساوي له في الفضل على الخلاف في معنى التقليد، فإنّه و إن كان ترتّب الثمرة و الابتناء محلّ نظر بل منع كما سيأتي في المسألتين إن شاء اللّٰه تعالى إلّا أنّ البناء على الخلاف في معنى التقليد دليل على كون الاختلاف فيه لا ينحصر باللفظ، بل النزاع في أمر حقيقي كما هو غير خفيّ.

______________________________

(1) قوانين الأُصول: 2/ 160.

(2) العروة الوثقى: 1/ 4 5 مسألة 8.

(3) الفصول الغرويّة: 411.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 45

..........

______________________________

الأمر الثاني: أنّه بعد البناء على كون الاختلاف في مفهوم التقليد و معناه اختلافاً معنوياً يقع الكلام في تحقيق ما هو الحقّ في معناه.

فنقول: ربّما يقال كما قيل بأنّه لا يمكن أن يكون التقليد هو نفس العمل، و الأصل في ذلك ما أفاده في الفصول، حيث قال على ما حكي: و اعلم أنّه لا يعتبر في ثبوت التقليد العمل بمقتضاه؛ لأنّ العمل مسبوق بالعلم فلا يكون سابقاً عليه، و لئلّا يلزم الدور في العبادات من حيث إنّ وقوعها يتوقّف على قصد القربة، و هو يتوقّف على العلم بكونها عبادة، فلو توقّف العلم بكونها عبادة على وقوعها كان دوراً «1».

و تقريب الوجه الأوّل: أنّ كلّ مكلّف

لا بدّ و أن يكون عمله مستنداً إلى معذّر، و ناشئاً عنه و مسبوقاً به، فالمجتهد يكون عمله مستنداً إلى اجتهاده و استنباطه الحكم من الحجّة المعتبرة، و العامي يكون عمله مستنداً إلى تقليده، فكلّ عمل إمّا أن يكون ناشئاً و مسبوقاً بالاجتهاد، و إمّا أن يكون مستنداً إلى التقليد، و على هذا الوجه اعتمد المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) في الكفاية، حيث قال: و لا يخفى أنّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل، ضرورة سبقه عليه و إلّا كان بلا تقليد، فافهم «2».

و تقريب الوجه الثاني: أنّه لا إشكال في أنّ مشروعيّة العمل تتوقّف على التقليد؛ لأنّه لا يتمكّن بدون التقليد من الإتيان بصلاة الجمعة مثلًا بما أنّها مقرّبة، و لا يتمشّى منه قصد القربة بدون التقليد، فالشروع فيها بقصد كونها هي الوظيفة الثابتة بعد الزوال يوم الجمعة و العبادة المقرّبة يتوقّف على التقليد، فلو كان التقليد متوقّفاً على العمل و منتزعاً عنه كما هو ظاهر تفسيره به يتحقّق الدور، فلا محيص عن الالتزام بكونه أمراً سابقاً على العمل.

و الجواب عن الوجه الأوّل: أنّ غاية مقتضاه لزوم استناد العمل إلى المعذّر أو إلى العلم كما في عبارة الفصول المتقدّمة و أمّا كون الأمر السابق على العمل مسمّى بالتقليد و راجعاً إليه فلم يقم عليه دليل.

______________________________

(1) الفصول الغرويّة: 411.

(2) كفاية الأُصول: 539.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 46

..........

______________________________

و بعبارة أُخرى: لو كان هناك نصّ أو إجماع على لزوم مسبوقيّة العمل بالاجتهاد أو التقليد لكان مرجعه إلى سبق التقليد في مورد العامّي على العمل، و لكنّه لم يقم على هذا العنوان دليل، بل اللازم هو مسبوقيّة العمل بالحجّة و العلم، و هو

لا يلازم كون التقليد عبارة عن الأمر السابق.

و منه يظهر الجواب عن الوجه الثاني، فإنّ توقّف مشروعيّة العمل على التقليد لم يدلّ عليه دليل، بل المشروعيّة تتوقّف على العلم بكونها عبادة مقرّبة إمّا من طريق الاجتهاد أو من طريق فتوى المجتهد، و أمّا كون الموقوف عليه هو الذي ينطبق عليه عنوان التقليد فلا يقتضيه هذا الوجه بوجه.

فانقدح من ذلك إمكان كون التقليد عبارة عن نفس العمل، لكنّه بمجرّده لا يكفى بل لا بدّ من إقامة الدليل على ترجيح هذا التفسير على غيره.

فنقول: إنّ هنا أُموراً مرجّحة لكون التقليد بمعنى نفس العمل:

أحدها: مناسبة التقليد بمعنى العمل للمعنى اللغوي، فإنّ الظاهر أنّ المراد منه هو جعل القلادة في عنق الغير، و هذا يلائم مع كونه في الاصطلاح بمعنى العمل، فإنّ المقلّد حينئذٍ يجعل أعماله المستندة إلى فتوى المجتهد في عنقه، فهي بمنزلة القلادة يقلّدها في عنق الغير و هو المجتهد.

و أمّا لو فسّر التقليد بمجرّد الالتزام و التعهّد النفساني فلا بدّ من توجيه المناسبة بأنّ المقلّد بسبب الالتزام و التعهّد يجعل قلادة المتابعة للمجتهد في عنق نفسه، و هذا لا يناسب مع المعنى اللغوي الراجع إلى جعل القلادة في عنق الغير.

و من العجيب بعد ذلك ما حكي عن شيخنا الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) في رسالة الاجتهاد و التقليد؛ من أنّ التقليد بمعنى الالتزام أوفق بمعناه اللغوي «1». و إن كان لا يرد عليه ما أُورد من أنّ مقتضى ذلك هو صدق المقلَّد بالفتح على العامي لا على المجتهد، مع أنّ الحديث يقول: فللعوام أن يقلّدوه «2».

______________________________

(1) رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 46 47.

(2) يأتي تخريجه في الصفحة الآتية.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد

و التقليد، ص: 47

..........

______________________________

وجه عدم الورود أنّ صدق المقلَّد بالفتح لا ينافي صدق المقلِّد بالكسر أيضاً؛ لعدم قيام الدليل على تحقّق التقابل و التغاير بين الأمرين، بل التقابل إنّما هو بين التقليد و الاجتهاد، و الحديث إنّما يدلّ على صدق المقلَّد بالفتح على المجتهد لو قرأ بصيغة المبني للفاعل، و لم يدلّ دليل عليه، فهذا الإيراد غير وارد عليه.

نعم، يرد عليه ما ذكرنا من عدم الملائمة بين معناه الاصطلاحي على هذا التقدير، و بين معناه اللغوي الراجع إلى جعل القلادة في عنق الغير، و يؤيّد ما ذكرنا أنّ صاحب الفصول بعد العبارة المتقدّمة حكى عن العلّامة التفسير بالعمل «1»، ثمّ قال: هذا بيان لمعناه اللغوي كما يظهر من ذيل كلامه، و إطلاقه على هذا شائع في العرف العام «2»، فإنّه ظاهر في أنّ التفسير بالعمل مطابق لمعناه اللغوي، لكن الذي أوجب عدوله عن التفسير المذكور استلزامه للإشكالين المتقدّمين في كلامه، و حيث عرفت عدم الاستلزام بوجه فلا مجال للعدول عمّا يلائم المعنى اللغوي.

ثانيها: إشارة بعض الروايات إليه؛ مثل ما رواه الكليني و الشيخ عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: كان أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) قاعداً في حلقة ربيعة الرأي فجاء أعرابيّ، فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه، فلمّا سكت قال له الأعرابي: أ هو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة و لم يردّ عليه شيئاً، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك، فقال له الأعرابيّ: أ هو في عنقك؟ فسكت ربيعة، فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): هو في عنقه، قال أو لم يقل، و كلّ مفت ضامن «3»؟! فإنّ تعبير الأعرابي و سؤاله بقوله:

«أ هو في عنقك» و تقريره (عليه السّلام) بقوله: «هو في عنقه» ظاهر في إضافة العنق إلى المجتهد المفتي، و هو لا يلائم إلّا مع كون المستفتي جاعلًا أعماله في عنق المفتي، كما أنّ قوله (عليه السّلام) في الذيل: «كلّ مفت

______________________________

(1) نهاية الأُصول: 346 (أخذناه من المعالم: 242) و حكاه في المعالم: 242، و الفصول الغروية: 411.

(2) الفصول الغروية: 411.

(3) الكافي: 7/ 409 ح 1، الوسائل: 27/ 220، أبواب آداب القاضي ب 7 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 48

..........

______________________________

ضامن» مشعر بأنّ التقليد هو العمل؛ لأنّه قبل تحقّق العمل ليس هنا شي ء مستند إلى المفتي حتى يكون هو ضامناً له، كما هو غير خفيّ.

و مثل الروايات المستفيضة الدّالّة على أنّ من أفتى بغير علم فعليه وزر من عمل به «1»، فإنّه و إن لم يقع التعبير بالتقليد فيها و لا دلالة فيها على انطباق عنوان التقليد على نفس العمل، إلّا أنّ إشعارها بل دلالتها على أنّه ليس هنا عدا فتوى المفتي شي ء سوى عمل المستفتي ممّا لا مجال للارتياب فيه، كما هو ظاهر.

ثالثها: أنّه لم يرد عنوان التقليد في شي ء من الأدلّة الدالّة على حجّية فتوى المجتهد و جواز رجوع العامي إليه إلّا في رواية ضعيفة طويلة محكية عن التفسير المنسوب إلى مولانا الإمام العسكري صلوات اللّٰه و سلامه عليه و على آبائه و على ابنه الواردة في الفرق بين تقليد اليهود علمائهم و تقليد عوام الشيعة لعلمائهم، المشتملة على قوله (عليه السّلام): فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه «2». و لا يجوز الاعتماد على

هذه الرواية في الحكم بوجوب الالتزام نظراً إلى أنّه معنى التقليد، بل اللازم ملاحظة سائر الأدلّة الواردة في هذا الباب.

فنقول: لا ينبغي الإشكال في أنّ حكم العقل بجواز التقليد إنّما هو لأجل تحقّق الامتثال بالنسبة إلى التكاليف المعلومة بالإجمال، و كون الاستناد إلى العالم أحد الطرق، ففي الحقيقة الواجب بحكم العقل هو الامتثال و تحقّق موافقة التكاليف، و لا حكم له بالنظر إلى الالتزام أصلًا، كما هو واضح لا يخفى.

و أمّا بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم فغير خفيّ أنّ سيرة العقلاء إنّما استقرّت على الرجوع العملي، و تطبيق العمل على قول العالم العارف و الالتزام القلبي سيّما مع تجرّده عن العمل الخارجي بعيد من مقاصد العقلاء.

______________________________

(1) الوسائل: 27/ 20 31، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 4.

(2) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السّلام): 299 300 ح 143.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 49

..........

______________________________

و أمّا الأدلّة اللفظية من الآيات و الروايات فالنظر في مفادها و التأمّل في مدلولها بناءً على دلالتها على جواز التقليد يقتضي عدم كونها ناظرة إلّا إلى مقام العمل، فإنّ المراد من الحذر الواجب في آية النفر «1» مثلًا ليس إلّا هو الحذر في مقام العمل، و ترتيب الأثر على قول المنذر بالإتيان بما أفتى بوجوبه و ترك ما حكم بحرمته.

ضرورة أنّ الحذر القلبي و الالتزام النفساني لا يكون غاية للإنذار الواجب، و كذا سائر الآيات و الأدلّة على ما سيجي ء «2»، فإنّه من الواضح أنّ المراد من الجميع هو الاستناد في مقام العمل إلى من له الحجّة و تطبيق العمل على طبق ما يقول به.

هذا، مضافاً إلى أنّه أيّ فرق بين المجتهد و

العامي من هذه الجهة، فكما أنّه لا يجب على المجتهد بعد قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة مثلًا إلّا الإتيان بها و تطبيق العمل على طبق الأمارة و لا يلزم توسيط الالتزام بوجه، كذلك لا يجب على المقلّد بعد قيام الأمارة و هي فتوى المجتهد و رأي العارف إلّا ذلك، أي تطبيق العمل عليها و الإتيان بصلاة الجمعة خارجاً، فالتفكيك بينهما من حيث لزوم الالتزام على المقلّد و وقوعه وسطاً بين الفتوى و عمل المقلّد ممّا لا وجه له أصلًا.

و إلى أنّ مورد التقليد كما عرفت هي الأحكام العملية التي متعلّقها نفس العمل، بحيث لو كانت معلومة بالتفصيل لما كان الواجب إلّا الامتثال و العمل على طبقها، من دون أن يكون هنا تكليف بالإضافة إلى القلب و الالتزام، فالمناسب للتقليد في خصوص هذه الأحكام مع عدم كونها ناظرة إلّا إلى مقام العمل هو كون التقليد أيضاً راجعاً إلى نفس هذا المقام، من دون أن يكون هنا شي ء مسمّى بالالتزام.

فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ التقليد كما أفاده الماتن دام ظلّه هو العمل مع الاستناد، و لا مدخلية للالتزام في شي ء من الأحكام.

______________________________

(1) سورة التوبة: 9/ 122.

(2) في ص 68 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 50

..........

______________________________

في أدلّة جواز التقليد الجهة الثالثة: فيما يدلّ على جواز التقيد و رجوع الجاهل إلى العالم في باب التكاليف و الأحكام، و في هذه الجهة تارة يبحث عمّا هو مستند العامي في التقليد و حامل له عليه، و بعبارة أُخرى ما يكون محرّكاً للجاهل على أن يرجع إلى العالم بعد علمه بثبوت التكاليف إجمالًا، و أُخرى فيما هو مقتضى الأدلّة ممّا يستنبطه

المجتهد منها في هذا الباب.

أمّا من الحيثيّة الأولى: فمن الواضح أنّ ما يمكن أن يكون مستنداً للعامي و حاملًا له على التقليد ليس إلّا حكم عقله بذلك، قال المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) في الكفاية: إنّ جواز التقليد و رجوع الجاهل إلى العالم في الجملة يكون بديهيّاً جبليّاً فطرياً لا يحتاج إلى دليل، و إلّا لزم سدّ باب العلم به على العامي مطلقاً غالباً؛ لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه كتاباً و سنّة، و لا يجوز التقليد فيه أيضاً، و إلّا لدار أو تسلسل «1».

و هذا الكلام و إن نوقش فيه بمنع كون هذا الحكم فطرياً، نظراً إلى أنّ القضايا الفطرية ما كانت قياساتها معه ككون الأربعة زوجاً لانقسامها إلى متساويين، و ما هو فطريّ بهذا المعنى إنّما هو كون العلم نوراً لا لزوم رفع الجهل بالعلم فضلًا عن التقليد، و بمنع كونه جبليّاً، فإنّ ما هو جبليّ في الاصطلاح إنّما هو شوق النفس إلى كمالها لا مثل المقام، إلّا أنّ وضوح حكم العقل بذلك و بداهة إدراكه جواز الرجوع ممّا لا تنبغي المناقشة فيه أصلًا.

و أمّا من الحيثيّة الثانية: فالدليل عليه مضافاً إلى حكم العقل المذكور أُمور:

أحدها: بناء العقلاء على رجوع الجاهل في كلّ صنعة إلى العالم بها، و لا

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 539.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 51

..........

______________________________

إشكال في أصل ثبوت هذا البناء و تحقّق هذه السيرة المستمرّة العملية، إنّما الإشكال في أنّ بناء العقلاء على شي ء لا يكون بمجرّده دليلًا على ذلك الشي ء و جريانه في محيط الشرع ما لم يكن مورداً لإمضاء الشارع و تصويبه المستكشف نوعاً من عدم الردع عنه، مع أنّه قد يقال

في المقام: إنّ بناء العقلاء على رجوع الجاهل بالأحكام الشرعية إلى المجتهد المستنبط و العارف بها، و بعبارة أُخرى بناء العقلاء على التقليد الاصطلاحي أمر حادث بعد الغيبة الكبرى، و لم يكن ثابتاً في زمان النبيّ و الأئمّة صلوات اللّٰه و سلامه عليه و عليهم أجمعين بوجه حتى يكون عدم الردع عنه كاشفاً عن كونه مرضياً للشارع، كما هو الشأن في جميع الأُمور التي كان بناء العقلاء عليها حادثاً في الأزمنة المتأخّرة، فإنّه لا يكون عدم ردعه دليلًا على إمضائه؛ لعدم ثبوته في زمانه كما هو واضح.

و أنت خبير بما في هذا الإشكال من النظر و المنع:

أما أوّلًا: فلأنّ أصل بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم العارف في أُمورهم الدنيوية لا يكون أمراً حادثاً في الزمان المتأخّر، فإنّ العقلاء بما هم عقلاء لا يزال يرجع عوامهم إلى علمائهم في كلّ فنّ و صنعة، بحيث صار هذا مرتكزاً لهم و مبنى جميع أُمورهم، فإذا لم يردع الشارع عن أعمال هذه الطريقة، و لم يمنع عن إجرائها في محيط الشريعة يكشف ذلك عن إمضائه و تبعيّته عن هذه السيرة، و لا حاجة في دلالة عدم الردع على الإمضاء على إجرائها أوّلًا في محيط الشرع و مصادفته مع عدم الردع.

أ لا ترى أنّه لو قيل: إنّ ظاهر الكتاب حجّة لثبوت بناء العقلاء على العمل بظواهر كلمات المتكلّمين في فهم مقاصدهم و كشف مراداتهم، و الشارع لم يردع عن إعمال هذه الطريقة في الشريعة، ليس مرجعه إلى أنّ عدم الردع قد استكشف من تحقّق العمل بظاهر الكتاب خارجاً و هو لم يردع عنه، بل معناه أنّه لو كانت هذه الطريقة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد

و التقليد، ص: 52

..........

______________________________

غير مرضية للشارع في ألفاظ الكتاب مثلًا، لكان عليه الردع و تنبيه العقلاء المتديّنين الذين كان مقتضى بناؤهم التمسّك بظاهر الكلام، فمع عدم التنبيه يستكشف رضاه بذلك.

و أما ثانياً: فلأنّ الظاهر ثبوت التقليد و الاجتهاد بهذا النحو في زمن الأئمة (عليهم السّلام)، و على ذلك تدلّ روايات كثيرة بين ما يكون مفاده جواز الاجتهاد و الاستنباط، و بين ما يدلّ على إرجاع العوام من الناس إلى الخواصّ من الأصحاب.

فمن الطائفة الأولى: ما حكي عن مستطرفات السرائر نقلًا من كتاب هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إنّما علينا أن نلقي إليكم الأُصول و عليكم أن تفرّعوا «1».

و منها: ما رواه داود بن فرقد قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء و لا يكذب «2».

و منها: غير ذلك من الأخبار التي يأتي بعضها في ذكر الروايات الدالّة على جواز التقليد «3».

و يستفاد من هذا القبيل أنّ شأن الرواة عنهم (عليهم السّلام) ليس مجرّد النقل و الإخبار عن القول أو الفعل أو التقرير، بل كان فيهم الفقهاء المتصدّون للتفريع على الأُصول المتلقّاة عنهم، و ردّ المتشابهات إلى المحكمات و هو حقيقة الاجتهاد و الاستنباط.

و أمّا ثالثاً: فلأنّه على تقدير عدم ثبوت التقليد و الاجتهاد في زمانهم (عليهم السّلام) نقول: إنّ عدم الردع عن هذه الطريقة المستحدثة كاشف عن رضا الشارع بذلك.

توضيحه: أنّه لم يكن بناء الشارع في تبليغ الأحكام و هداية الأنام إلّا على

______________________________

(1) السرائر: 3/ 575، الوسائل: 27/ 61، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 6 ح 51.

(2)

معاني الأخبار: 1 ح 1، الوسائل: 27/ 117، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 27.

(3) في ص 73 79.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 53

..........

______________________________

التوسّل بالطرق العقلائية و الأُمور العادية، و لم يكن بناؤه في هذا المقام على الرجوع إلى علمه بالمغيبات و تبليغ الأحكام حسب ما يعطيه ذلك العلم، و حينئذٍ فليس دعوانا أنّ الشارع كان عليه أن يردع عن هذه الطريقة الفعلية لو كانت غير مرضية له راجعة إلى أنّه لأجل كونه عالماً بالمغيبات لا بدّ له من الردع أو الإمضاء بالنسبة إلى الأُمور المستقبلة و المتأخّرة عن زمانه، و إذا لم يردع يكشف ذلك عن رضاه، بل نقول: إنّ هذه المسألة و هي مسألة الاجتهاد و الاستنباط و الرجوع إلى العالم بهذا النحو المعمول ممّا يقتضي طبع الأمر حدوثه في هذه الأزمنة، بحيث لم يكن حدوثها مخفياً على العارفين بمسألة الإمامة و جهات ختم الوصاية، و أنّه يغيب الثاني عشر من شموس الهداية مدّة طويلة عن أعين الناس و أنظار العامّة، بحيث لا يكاد يمكن لهم الرجوع إليه و الاستضاءة من نور الولاية، و في ذلك الزمان لا بدّ للناس من الرجوع إلى علماء الأُمّة و أخذ الأحكام و الفتاوى من فقهاء الشريعة، و مع وضوح هذا الأمر بحسب اقتضاء الطبع و انجراره إلى ذلك يكون عدم الردع كاشفاً قطعيّاً عن إمضاء الشارع و تنفيذه لهذه الطريقة.

فانقدح من جميع ذلك أنّ التمسّك ببناء العقلاء و استمرار سيرتهم على جواز التقليد و الرجوع إلى الفقيه تام لا ينبغي الارتياب فيه.

ثانيها: بعض الآيات التي يستفاد منها ذلك:

منها: آية النفر المعروفة، قال اللّٰه تبارك و تعالى وَ

مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «1».

و الاستدلال بهذه الآية على حجّية فتوى المجتهد و جواز رجوع العامي إليه يتوقّف:

أوّلًا: على دلالة الآية على وجوب النفر؛ بأن كان مسوقاً لإفادة الوجوب و ناظراً

______________________________

(1) سورة التوبة: 9/ 122.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 54

..........

______________________________

إلى جعل هذا الحكم الإلزامي، و اللزوم مستفاد من كلمة «لو لا» التحضيضيّة.

و ثانياً: على كون المراد من التفقّه خصوص التفقّه الاصطلاحي، الذي مرجعه إلى استنباط الأحكام الفرعية العملية، لا الأعمّ منه و من التفقّه في أُصول الدين و تعلّم الأُمور الاعتقادية، و على لزوم التفقّه من جهة كونه غاية للنفر الواجب، و غاية الواجب واجبة.

و ثالثاً: على كون الإنذار من سنخ ما يتفقّه فيه، و بعبارة أُخرى صدق الإنذار على مجرّد الفتوى بالوجوب أو الحرمة نظراً إلى أنّ الحكم بأحدهما يستلزم التوعيد باستحقاق العقوبة على المخالفة، و عليه فيصدق على المجتهد عنوان المنذِر بالكسر لهذه الجهة.

و رابعاً: على كون المراد بالحذر هو الحذر العملي الذي مرجعه إلى العمل على طبق قول المجتهد و على وجوب التحذّر، إمّا لأجل استعمال كلمة «لعلّ» الدالّة على محبوبيّة التحذّر الملازمة للوجوب شرعاً و اللزوم عقلًا، أمّا الأوّل: فلعدم الفصل، و أمّا الثاني: فلأنّ العقل يحكم باللزوم مع وجوب المقتضي، و عدم المحبوبيّة مع العدم. و إمّا لأجل كونه غاية للإنذار الواجب، و غاية الواجب واجبه كما مرّ.

و خامساً: على ثبوت الإطلاق لوجوب التحذّر بأن يكون مفادها وجوب العمل على طبق قول المنذر مطلقاً سواء أفاد قوله العلم أم لا. فإذا تمّت

هذه المقدّمات يصحّ الاستدلال بالآية الشريفة على حجّية فتوى المجتهد و لزوم العمل على طبقه مع أنّ جلّها لو لا كلّها مخدوش بل ممنوع.

أمّا المقدّمة الأولى، فيمكن الخدشة فيها، بأن يقال: إنّ الآية لا تكون مسوقة لإفادة وجوب النفر على طائفة من كلّ فرقة، بل غرضها الردع عن النفر العمومي بأن يكون قوله تعالى وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً إخباراً في مقام الإنشاء، و يؤيّده ما ورد من أنّ القوم كانوا ينفرون كافّة للجهاد، و بقي رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) وحده، فورد النهي عن النفر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 55

..........

______________________________

العمومي و الأمر بنفر طائفة للجهاد «1»، و يؤيّده أيضاً ما قيل: من أنّ كلمة «النفر» في القرآن المجيد لم تستعمل في سائر الموارد إلّا في الجهاد.

هذا، و لكنّ الإنصاف أنّ هذه المقدّمة تامّة و ظاهر الآية يساعدها كما لا يخفى.

و أمّا المقدّمة الثانية، فممنوعة لعدم الدليل على اختصاص التفقّه و انحصاره بالفرعيّات، بل الظاهر أنّه أعمّ منه و من التفقّه في الأُصول، و من المعلوم أنّ وجوب القبول تعبّداً لا يجري في هذا القسم من التفقّه، فتصير هذه قرينة على عدم كون الآية بصدد إيجاب القبول كذلك، إلّا أن يقال: بأنّ إطلاق الآية يقتضي وجوب القبول تعبّداً مطلقاً، خرج منه الأُصول و بقي الفروع.

و يؤيّد التعميم ما ورد في تفسير الآية من الأخبار «2» الدالّة على وجوب النفر لأجل معرفة الإمام اللّاحق إذا مات الإمام السابق، و أنّ النافرين في عذر ما داموا في الطلب، و المنتظرين في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم.

و أمّا المقدّمة الثالثة، فكذلك لعدم الدليل على كون الإنذار من

سنخ ما يتفقّه فيه لو لم نقل بظهور الآية في خلافه، نظراً إلى أنّه لم يجعل الإنذار مترتّباً على التفقّه، بل جعل غاية للنفر في عرض التفقّه، ففي الحقيقة يترتّب على النفر أمران: التفقّه و الإنذار في رتبة واحدة، مضافاً إلى أنّ صدق الإنذار على مجرّد الفتوى بالحكم الوجوبي أو التحريمي من دون أن يكون مقروناً بالتوعيد و التخويف ممنوع، فإنّه لا يصدق عنوان المنذر بالكسر على الحاكم بمثل ذلك، فضلًا عن المجتهد الذي استنبط الحكم.

و أمّا المقدّمة الرابعة، فيردّها أنّ حمل الحذر في الآية على مجرّد العمل على طبق فتوى المجتهد بالإتيان بما أفتى بوجوبه، و ترك ما أفتى بتحريمه خلاف الظاهر، بل الظاهر أنّه عبارة عن الخوف أو الترك الناشئ عن الخوف، فيقال للمريض الذي اجتنب عن أكل غذاء مخصوص مثلًا أنّه تحذّر عنه لأجل تركه الناشئ عن خوف

______________________________

(1) مجمع البيان: 5/ 131.

(2) الكافي: 1/ 378 380، باب ما يجب على الناس عند مضيّ الإمام.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 56

..........

______________________________

إدامة المرض أو شدّته، و إلّا فمجرّد الترك لا يصدق عليه هذا العنوان فضلًا عن الفعل.

و من المعلوم أنّ مثل هذا الأمر القلبي أمر غير اختياريّ لا يمكن أن يتعلّق به الحكم الإلزامي. نعم، يمكن إيجاده بمقدّمات يترتّب عليها ذلك قهراً، و ليس مثل الأفعال الاختيارية القابلة لتعلّق الإرادة بها كما لا يخفى، و مع هذا الوصف لا يبقى مجال لاستفادة الوجوب منها.

و أمّا المقدّمة الخامسة، فيردّها وضوح عدم ثبوت الإطلاق للآية من حيث وجوب الحذر؛ لأنّها ليست إلّا مسوقة لبيان وجوب النفر لا لبيان غاية التحذّر مطلقاً، فلا دلالة لها على وجوب التحذّر و لو

مع عدم حصول العلم للمنذَر بالفتح.

بل يمكن أن يقال بظهورها في خصوص هذه الصورة، إمّا لأجل دلالتها على وجوب الإنذار على كلّ واحد من الطائفة النافرة بالنسبة إلى جميع القوم و الفرقة. و بعبارة أُخرى يجب إنذار جميع القوم على كلّ واحد من الطائفة المتعدّدة النافرة المتفقّهة، و في هذه الصورة يحصل للمنذَرين بالفتح العلم غالباً لأجل تعدّد المنذِرين بالكسر-، و إمّا لِما أفاده في الكافية من أنّ وجوب الحذر إنّما هو مع إحراز أنّ الإنذار إنّما هو بما تفقّهوا فيه لا بشي ء آخر موضوع أو مجعول، فلا يجب التحذّر إلّا مع حصول العلم، فتدبّر.

ثمّ إنّه مع تسليم هذه المقدّمات لا يبقى مجال للإشكال على الاستدلال بالآية؛ لوجوب التقليد بما أفاده بعض المحقّقين في رسالته في الاجتهاد و التقليد، حيث قال: إن كان التفقّه موقوفاً على إعمال النظر كانت الآية دليلًا على حجيّة الفتوى و إلّا فلا، و من الواضح صدق التفقّه في الصدر الأوّل بتحصيل العلم بالأحكام بالسماع من النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) أو الإمام (عليه السّلام)، فلا دلالة لها حينئذٍ إلّا على حجيّة الخبر فقط، و الإنذار بحكاية ما سمعوه من المعصوم من بيان ترتّب العقاب على شي ء فعلًا أو تركاً لا ينبغي الريب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 57

..........

______________________________

فيه، بل الإفتاء و القضاء أيضاً كان في الصدر الأوّل بنقل الخبر، فتدبّر «1».

و ذلك لأنّه مضافاً إلى عدم كون التفقّه في الصدر الأوّل صادقاً بمجرّد السماع عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) أو الإمام (عليه السّلام)؛ لِما عرفت من وجود التفقّه بمعناه الحقيقي الملازم لإعمال النظر في الصدر الأوّل، لمثل الرواية المتقدّمة الدالّة

على أنّ وظيفة أصحابهم (عليهم السّلام) التفريع على الأصول المتلقّاة عنهم، و أنّ من عرف معاني كلامهم يكون أفقه الناس «2» يرد عليه أنّ اختلاف مراتب التفقّه من حيث السهولة و الصعوبة لا يوجب اختصاص الآية بخصوص المرتبة الموجودة في الصدر الأوّل؛ لعدم وجود ما يدلّ عليه.

و دعوى عدم كون تلك المرتبة صادقاً عليها عنوان التفقّه، يدفعها استعمال التفقّه في الآية الشريفة، فمجرّد نقل الخبر إن كان مصداقاً للتفقّه فالآية غير مختصّة به، و إن لم يكن مصداقاً له فالآية غير شاملة له، بل لا بدّ من الالتزام بوجود التفقّه الملازم لإعمال النظر في عصر النزول لئلا تكون الآية الشريفة، بلا مورد كما لا يخفى.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا دلالة للآية على حجيّة فتوى المجتهد بالإضافة إلى المقلد، و أنّ معناها «3» بحسب الظاهر و اللّٰه العالم أنّه يجب على الفقيه الإنذار و التخويف و التوعيد ليحصل للناس حالة التخوّف و التحذّر النفساني، فيصير ذلك موجباً للقيام بما هو وظيفتهم و التعرّض لامتثال ما على عهدتهم من التكاليف الإلهية، و التناسب بين الإنذار و التفقّه لأجل كون الفقيه عالماً بشئون الإنذار و حدوده و كيفيّته و خصوصيّاته؛ لأنّه الذي يكون عارفاً بشرائط الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و بالعقوبات المترتّبة على ترك الأوّل و فعل الثاني، فالإنذار المطابق للواقع إنّما يتحقّق منه كما هو ظاهر.

و منها: آية السؤال قال اللّٰه تبارك و تعالى- وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ «4».

______________________________

(1) بعض المحقّقين.

(2) في ص 62.

(3) بل معناها بحسب التحقيق هو تفقّه النافرين بسبب ما يرونه في الجهاد من النصرة الإلهية

و الإمدادات الغيبيّة و قوّة الإيمان، و إنذار القوم الذين هم الكفّار الموجودون في المدينة لعلّهم يحذرون و يدخلون في دين اللّٰه، أو يصون الإسلام و المسلمون من شرورهم، و يؤيّد ذلك رجوع الضمير في «لِيَتَفَقَّهُوا» و ما بعده إلى النافرين لا المتخلّفين؛ لعدم كونهم مذكورين، و أيضاً لا يناسب الحذر بالنسبة إلى المجاهدين.

(4) سورة الأنبياء: 21/ 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 58

..........

______________________________

و تقريب الاستدلال بها أنّها تدلّ على وجوب السؤال على الجاهل غير العالم، و من المعلوم أنّ فائدة السؤال إنّما هي ترتيب الأثر على الجواب؛ لأنّ السؤال بما هو لا يكون له موضوعيّة، فإيجابه من دون وجوب العمل على طبق الجواب يكون لغواً ظاهراً، و حيث إنّ الفقيه من المصاديق الواضحة لأهل الذكر فالآية تدلّ بإطلاقها على حجيّة فتواه إذا كانت مسبوقة بالسؤال، و فيما إذا لم تكن مسبوقة تكون فتواه أيضاً حجّة؛ لعدم الفصل أو لدلالة نفس الآية على ما هو المتفاهم منها عند العرف على عدم دخالة سبق السؤال بوجه، كما هو ظاهر.

و أُورد على الاستدلال بها بأنّه إنّما يتمّ لو كان الحكم فيها عامّاً شاملًا لكلّ جاهل، و كان المراد من أهل الذكر عنوانه العامّ الشامل للفقيه أيضاً، مع أنّه لو اقتصر النظر على ظاهرها يكون مقتضاها اختصاص الحكم بالمشركين، حيث استغربوا أن يخصّص اللّٰه تبارك و تعالى رجلًا بالنبوّة و السفارة، و يحصل لبشر هذه المزيّة و الفضيلة، و عليه فالحكم بوجوب السؤال متوجّه إليهم و يكون المراد من أهل الذكر علماء اليهود و النصارى.

و المعنى حينئذٍ أنّكم أيّها المشركون إن كنتم لا تعلمون و لا يكون إنكاركم ناشئاً عن العناد و

اللجاج، بل عن الجهل و عدم الاطّلاع فاسألوا علماء اليهود و النصارى المطّلعين على الكتب السماوية، المبشّرة برسالة خاتم النبيين و المشتملة على ذكر الأمارات و العلائم. و لو راجعنا إلى الأخبار الواردة في تفسير الآية «1» يكون المستفاد منها أنّ أهل الذكر هم الأئمّة المعصومون صلوات اللّٰه عليهم أجمعين لا غير، فلا مجال معها لدعوى كون الفقيه أيضاً من أهل الذكر.

و بالجملة: فالآية لا دلالة فيها على شمول الحكم لكلّ جاهل و على عموم أهل الذكر للفقيه و نحوه.

و قد أُجيب عن هذا الإيراد بأنّ الآية قد تضمّنت كبرى كليّة قد تنطبق على أهل

______________________________

(1) الكافي: 1/ 210 212، باب أنّ أهل الذكر .. هم الأئمّة (عليهم السّلام).

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 59

..........

______________________________

الكتاب، و قد تنطبق على الأئمّة (عليهم السّلام)، و قد تنطبق على العالم و الفقيه حسبما تقتضيه المناسبات على اختلافها باختلاف المقامات، فإنّ المورد إذا كان من الاعتقاديّات كالنبوّة و ما يرجع إلى صفات النبي فالمناسب السؤال عن علماء أهل الكتاب، و لو كان من الأحكام الفرعيّة فالمناسب الرجوع إلى النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) أو الأئمّة (عليهم السّلام) مع التمكّن و مع عدمه إلى الفقهاء، فالآية تضمّنت كبرى رجوع الجاهل إلى العالم المنطبقة على كلّ من أهل الكتاب و غيرهم.

و يمكن الخدشة في هذا الجواب بأنّه تارة يقال: إنّ الآية لا تكون بصدد تحميل تعبّديّ و إيجاب مولويّ، بل غرضها الإرشاد إلى ما هو المرتكز عند العقلاء من رجوع الجاهل إلى العالم. و أخرى يقال: بأنّها بصدد إفادة حكم مولوي تعبّدي.

فعلى الأوّل يكون المتّبع هي السيرة العقلائيّة الجارية في سائر الموارد، و على

الثاني الذي يبتنى عليه الجواب لا مجال لدعوى أنّ الآية تتضمّن كبرى كليّة قد تنطبق على أهل الكتاب و علمائهم، و قد تنطبق على الأئمّة (عليهم السّلام)، فإنّه على تقدير كون المخاطب هم المشركين، و أهل الذكر علماء اليهود و النصارى كيف يمكن دعوى اشتمال الآية على كبرى كليّة و إفادتها أمراً عامّاً، كما أنه مع ملاحظة الروايات الدالّة على أنّ أهل الذكر هم خصوص الأئمة (عليهم السّلام) لا مجال لدعوى عموم الحكم في الآية، بعد فرض كونه حكماً مولوياً تعبّدياً.

ثمّ إنّه أورد على الاستدلال بها أيضاً بأنّ المراد من الآية الكريمة وجوب السؤال عنهم حتى يحصل العلم للسائل من الجواب و يعمل على طبق علمه، لأنّ تعليق وجوب السؤال على عدم العلم ظاهر في ارتفاع عدم العلم الذي هو المعلّق عليه الإيجاب بالسؤال و الجواب عقيبه، كما هو ظاهر.

و أُجيب عنه بوجهين:

أحدهما: أنّ مثل هذا الخطاب إنّما هو لبيان الوظيفة عند عدم العلم و المعرفة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 60

..........

______________________________

في قبال العلم بالحال، لا أنّه مقدّمة لتحصيل العمل، مثلًا يقال إذا لست بطبيب فراجع الطبيب في العلاج، فإنّ المتفاهم العرفي من مثله أنّ الغاية من الأمر بالمراجعة إنّما هو العمل على طبق قول الطبيب، لا أنّ الغاية صيرورة المريض طبيباً و عالماً بالعلاج حتى يعمل على طبق علمه و نظره.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، در يك جلد، دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم، قم - ايران، دوم، 1414 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد؛ ص: 60

و يرد

على هذا الوجه مضافاً إلى أنّ المقام نظير ما يقال: «إذا كنت مريضاً فراجع الطبيب» فإنّ المتفاهم العرفي من مثله أنّ الغاية من الأمر بالمراجعة هو ارتفاع المرض، فالغاية من الأمر بمراجعة المبتلى بمرض الجهل إلى العالم هو ارتفاع مرضه و رفع جهله بالرجوع إلى العالم، كما لا يخفى أنّ مقتضى ذلك تكرّر السؤال و لزومه ثانياً و ثالثاً، و هكذا إلى أن يحصل العلم لصدق عنوان الجهل ما دام عدم العلم، فيجب عليه التكرار لحصول المعلّق ما دام المعلّق عليه متحقّقاً، و من الواضح خلافه، فلا محيص من أن يقال: إنّ الغاية هو حصول العلم.

ثانيهما: ما أفاده بعض المحقّقين (قدّس سرّه) في رسالة الاجتهاد و التقليد من أنّ الظاهر وجوب السؤال حتى يحصل له العلم بمجرّد الجواب لا بأمر زائد عليه و هذا لا يتمّ إلّا مع كون الجواب مفيداً للعلم تعبّداً، و عليه فيستفاد من الآية وجوب قبول قول المجيب و ترتيب الأثر العملي عليه؛ لأنّه علم تعبّدي «1».

و يرد عليه أنّ الظاهر كون المراد بالعلم الحاصل بالجواب هو العلم الذي علّق وجوب السؤال على عدمه، و من المعلوم أنّ المراد به هو العلم الواقعي الحقيقي، فالغاية من الأمر بالسؤال إنّما هو تحقّق هذا العلم لا علم تعبّدي، كما هو غير خفي.

و أُورد على الاستدلال بالآية بإيراد ثالث؛ و هو أنّ موردها ينافي القبول التعبّدي لأنّه من الأصول الاعتقادية التي يكون الواجب فيها تحصيل العلم.

و قد اعترف بورود هذا الإيراد من أجاب عن الإيراد الأوّل؛ بما عرفت من تضمّن الآية للكبرى الكليّة، مع أنّ مقتضى ذلك الجواب عدم هذا الاعتراف، فتأمّل.

______________________________

(1) بعض المحقّقين.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص:

61

..........

______________________________

و قد تحصَّل من جميع ما ذكرنا عدم تمامية الاستدلال بآية السؤال أيضاً.

ثمّ إنّ هناك آيات دالّة على النهي عن التقليد عموماً أو خصوصاً:

أمّا الطائفة الأُولى، فهي الآيات الناهية عن العمل بالظنّ و اتّباع غير العلم.

و أمّا الطائفة الثانية، فكقوله عزّ من قائل حكاية عنهم إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ «1» و قوله تعالى وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا إِلىٰ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قٰالُوا حَسْبُنٰا مٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لٰا يَهْتَدُونَ «2» و قوله تعالى وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ قٰالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مٰا أَلْفَيْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لٰا يَهْتَدُونَ «3».

و الجواب عن الطائفة الأُولى، أنّها لا تدلّ على حرمة التقليد و عدم حجيّة فتوى المجتهد، و لا على النهي عن اتّباع شي ء من الأمارات المعتبرة، و ذلك لأنّ اعتبارها مستند إلى العلم، إذ لا يعقل الانتهاء إلى الظنّ، مع أنّ الأصل الأوّلي فيه عدم الحجيّة و عدم ترتّب شي ء من آثارها، و لهذا اشتهر أنّ الشكّ في الحجيّة مساوق للقطع بعدمها، فحجيّة كلّ حجّة لا محالة تنتهي إلى العلم، و عليه فلا مجال لشمول قوله تعالى- وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «4» لمثلها، و إلّا يلزم عدم حجيّة ظاهره؛ لأنّه أيضاً من الأمارات التي لا تفيد إلّا الظن نوعاً، فاللازم إمّا الالتزام بعدم حجيّة ظواهرها الدالّة على النهي و المذمّة على اتّباع غير العلم مطلقاً، و إمّا الالتزام بعدم شمولها لمثل فتوى المجتهد التي قام الدليل القطعي على اعتبارها و حجيّتها، و

على كلا التقديرين يثبت المطلوب.

و عن الطائفة الثانية، أنّها أجنبية عمّا نحن فيه؛ لأنّ محلّ البحث إنّما هو حجيّة

______________________________

(1) سورة الزخرف: 43/ 23.

(2) سورة المائدة: 5/ 104.

(3) سورة البقرة: 2/ 170.

(4) سورة الإسراء: 17/ 36.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 62

..........

______________________________

فتوى المجتهد العالم في خصوص المسائل الفرعية و الأحكام العملية غير الاعتقادية، و هذه الطائفة من الآيات إنّما وردت في مقام التوبيخ و المذمّة على التقليد في الأصول الاعتقادية الراجعة إلى النبوّة و شئونها، مع أنّهم كانوا يقلّدون آباءهم الذين هم كانوا مثلهم في الجهل و عدم العقل، و الضلالة و عدم الاهتداء، و من الواضح أنّ رجوع الجاهل إلى مثله بمجرّد تحقّق الارتباط النسبي و الأبوّة و البنوّة لا يجوز عند العقل و العقلاء، كما أنّ التقليد في الأصول الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها تحصيل العلم و اليقين غير جائز، فهذه الآيات الكريمة لا مساس لها بالمقام أصلًا.

ثالثها: الروايات الكثيرة المستفيضة بل المتواترة إجمالًا؛ للعلم الإجمالي بصدور بعضها، الدالّة على جواز التقليد أو الإفتاء الملازم لجواز التقليد أو الإرجاع إلى خواصّ أصحابهم، أو النهي عن الإفتاء بغير علم الدّال بالمفهوم على جوازه إذا كان عن مدرك صحيح و مستند معتبر، أو على جواز الاجتهاد و تعليم طريقته و بيان ما يجب الأخذ به من الدليل في صورة التعارض، أو على أنّه مع وجود دلالة الكتاب و ظهوره في بيان حكم المسألة لا حاجة إلى السؤال و الاستفهام، و غير ذلك من العناوين الملازمة لجواز الاجتهاد و التقليد.

و ينبغي نقل هذه الروايات للحاجة إلى ملاحظتها في مسألة تقليد الأعلم، الآتية إن شاء اللّٰه تعالى أيضاً:

منها: ما رواه أحمد

بن علي بن أبى طالب الطبرسي في الاحتجاج عن أبي محمّد العسكري (عليه السّلام) في قوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هٰذٰا مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ «1». قال: هذه لقوم من اليهود إلى أن قال: و قال رجل للصادق (عليه السّلام): إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلّا بما يسمعونه من علمائهم فكيف ذمّهم بتقليدهم و القبول من علمائهم؟ و هل عوام اليهود إلّا كعوامنا يقلّدون علمائهم إلى أن

______________________________

(1) سورة البقرة: 2/ 79.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 63

..........

______________________________

قال: فقال (عليه السّلام): بين عوامنا و عوام اليهود فرق من جهة، و تسوية من جهة، أمّا من حيث الاستواء فإنّ اللّٰه ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم، و أمّا من حيث افترقوا فإنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح، و أكل الحرام و الرشا، و تغيير الأحكام، و اضطروا بقلوبهم إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على اللّٰه، و لا على الوسائط بين الخلق و بين اللّٰه، فلذلك ذمّهم.

و كذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر و العصبية الشديدة و التكالب على الدنيا و حرامها، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم اللّٰه بالتقليد لفسقة علمائهم، فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدون، و ذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم، فإنّ من ركب من القبائح و الفواحش مراكب علماء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً و لا كرامة، و إنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك؛ لأنّ

الفسقة يتحمّلون عنّا فيُحرّفونه بأسره لجهلهم، و يضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم، و آخرون يتعمّدون الكذب علينا، الحديث «1».

و منها: ما في رجال النجاشي في ترجمة أبان بن تغلب من قوله (عليه السّلام) له: اجلس في مسجد المدينة و أفت الناس، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك «2».

و منها: ما نقله محمّد بن إدريس في آخر السرائر من كتاب «3» هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إنّما علينا أن نلقي إليكم الأُصول و عليكم أن تفرّعوا «4».

و منها: ما نقل من كتاب أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن الرضا (عليه السّلام) قال: علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع «5».

______________________________

(1) الاحتجاج: 2/ 362، الوسائل: 27/ 131، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 10 ح 20.

(2) رجال النجاشي: 10 رقم

(3) كذا في الوسائل، لكنّه اشتباه، بل رواه في السرائر من جامع البزنطي عن هشام بن سالم.

(4) السرائر: 3/ 575، الوسائل: 27/ 61، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 6 ح 51.

(5) السرائر: 3/ 575، الوسائل: 27/ 62، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 6 ح 52.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 64

..........

______________________________

و منها: رواية أبي حيون مولى الرضا، عن الرضا (عليه السّلام) قال: من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم، ثمّ قال (عليه السّلام): إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن، و متشابهاً كمتشابه القرآن فردّوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا «1». و دلالتها على جواز ردّ المتشابه إلى المحكم الذي لا يتيسّر لغير المجتهد واضحة.

و منها: رواية علي بن أسباط قال قلت للرضا (عليه

السّلام): يحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفته، و ليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال: فقال: ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشي ء فخذ بخلافه، فإنّ الحقّ فيه «2».

و منها: رواية داود بن فرقد قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء، و لا يكذب «3».

و منها: رواية أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال: سألته و قلت: من أُعامل و عمّن آخذ و قول من أقبل؟ فقال: العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، و ما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له و أطع، فإنّه الثقة المأمون.

قال: و سألت أبا محمّد (عليه السّلام) عن مثل ذلك، فقال: العمري و ابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، و ما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما و أطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان، الحديث «4». و ليست الرواية ظاهرة في خصوص نقل الرواية، فإنّ ما يؤدّي إليه اجتهاد الفقيه في مذهبنا إنّما هو رأي المعصوم و نظر الإمام (عليه السّلام)، فيصدق أنّه يؤدّي عن الإمام و يقول

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام): 1/ 290 ح 39، الوسائل: 27/ 115، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 22.

(2) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام): 1/ 275 ح 10، الوسائل: 27/ 115، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 23.

(3) معاني الأخبار: 1/ 1، السائل: 27/ 117، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 27.

(4) الكافي: 1/ 329 ح 1، الوسائل: 27/ 138، كتاب القضاء، أبواب

صفات القاضي ب 11 ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 65

..........

______________________________

عنه، كما لا يخفى.

و منها: رواية إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزّمان عجّل اللّٰه تعالى فرجه الشريف-: أمّا ما سألت عنه أرشدك اللّٰه و ثبّتك إلى أن قال: و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّٰه، الحديث «1». و دلالتها على وجوب الرجوع إلى الفقهاء الذين هم المراد من «رواة حديثنا» في الحوادث الواقعة التي ربّما لا تكون منصوص الحكم، خصوصاً مع ملاحظة التعليل واضحة.

و منها: رواية شعيب العقرقوفي قال قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): ربّما احتجنا أن نسأل عن الشي ء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي يعني أبا بصير «2».

و منها: رواية عبد اللّٰه بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك و لا يمكن القدوم، و يجي ء الرجل من أصحابنا فيسألني و ليس عندي كلّ ما يسألني عنه، فقال: ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي، فإنّه سمع من أبي و كان عنده وجيهاً «3».

و منها: رواية علي بن المسيّب الهمداني قال: قلت للرضا (عليه السّلام): شقتي بعيدة و لست أصل إليك في كلّ وقت فمِمَّن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين و الدنيا. قال علي بن المسيّب: فلمّا انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم فسألته عمّا احتجت إليه «4».

______________________________

(1) كمال الدين: 484 ح 4، الوسائل: 27/ 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11

ح 9.

(2) اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشي»: 171 ح 291، الوسائل: 27/ 142، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 15.

(3) اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشي»: 161 ح 273، الوسائل: 27/ 144، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 23.

(4) اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشي»: 595 ح 1112، الوسائل: 27/ 146، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 27.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 66

..........

______________________________

و منها: رواية عبد العزيز بن المهتدي و الحسن بن علي بن يقطين جميعاً، عن الرضا (عليه السّلام) قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم «1».

و منها: رواية معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت: نعم، و أردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، إنّي أقعد في المجلس فيجي ء الرجل فيسألني عن الشي ء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، و يجي ء الرجل أعرفه بمودّتكم و حبّكم فأخبره بما جاء عنكم، و يجي ء الرجل لا أعرفه و لا أدري من هو فأقول: جاء عن فلان كذا و جاء عن فلان كذا، فأُدخل قولكم فيما بين ذلك، فقال لي: اصنع كذا فإنّي كذا أصنع «2».

و منها: رواية عليّ بن سويد قال: كتب إليّ أبو الحسن (عليه السّلام) و هو في السجن: لا تأخذنّ معالم دينك عن غير شيعتنا، فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين، الذين خانوا اللّٰه و رسوله

و خانوا أماناتهم، إنّهم ائتمنوا على كتاب اللّٰه فحرّفوه و بدّلوه، الحديث «3».

و منها: رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه قال: كتبت إليه يعني أبا الحسن الثالث (عليه السّلام) أسأله عمّن آخذ معالم ديني. و كتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما: فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا، و كلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء اللّٰه تعالى «4».

______________________________

(1) اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشي»: 490 ح 935، الوسائل: 27/ 147، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 33.

(2) اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشي»: 252 ح 470، الوسائل: 27/ 148، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 36.

(3) اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشي»: 3 ح 4، الوسائل: 27/ 150، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 42.

(4) اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشي»: 4 ح 7، الوسائل: 27/ 151، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 45.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 67

..........

______________________________

و منها: مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة، و غيرها من الروايات الواردة في علاج الخبرين المتعارضين، التي جمعها في الوسائل في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء، و دلالتها على المقام لأجل أنّ تشخيص التعارض و المرجّحات يتوقّف على الاجتهاد، و بلوغ الراوي إلى هذا المقام الشامخ و المرتبة الجليلة، كما هو ظاهر.

و منها: رواية أبي عبيدة قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام) من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّٰه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه «1». و غيرها

من الروايات الواردة في النهي عن الفتوى بغير علم، التي جمعها في الوسائل في الباب الرابع من أبواب صفات القاضي.

و منها رواية زرارة المعروفة الواردة في المسح على الرأس، المشتملة على سؤاله عن الإمام (عليه السّلام) و قوله: من أين علمت و قلت: إنّ المسح ببعض الرأس «2». فهذا السؤال بنفسه و كذا الجواب بقوله (عليه السّلام): «لمكان الباء» دليل على جواز الاجتهاد، و أنّه للراوي الفقيه السؤال عن مدرك الحكم و مستند الرأي، و الإمام (عليه السّلام) قرّره على ذلك و لم ينكر عليه بأنّ وظيفة مثلك أخذ الفتوى و نشرها، و لا مجال لك للسؤال عن الدليل.

و منها: رواية عبد الأعلى المعروفة أيضاً الدالّة على المسح على المرارة، و أنّ مثل مورد السؤال يعرف حكمه من كتاب اللّٰه وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3»، «4» من دون حاجة إلى السؤال.

و منها: غير ذلك من الروايات التي تظهر للمتتبع. و قد انقدح من ذلك أنّه بملاحظة

______________________________

(1) الكافي: 7/ 409 ح 2، الوسائل: 27/ 20، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 4 ح 1.

(2) الفقيه: 1/ 156 ح 212، الوسائل: 1/ 412، كتاب الصهارة، أبواب الوضوء ب 23 ح 1.

(3) سورة الحجّ: 22/ 78.

(4) التهذيب: 1/ 363 ح 1097، الاستبصار: 1/ 77 ح 240، الوسائل: 1/ 464، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء ب 39 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 68

..........

______________________________

الروايات لا يبقى مجال للإشكال في حجّية فتوى المجتهد و جواز الرجوع إليه.

بقي الكلام في هذه المسألة الثانية في الاستدراك الذي ذكره سيّدنا الأستاذ العلّامة الماتن دام ظلّه بقوله: «نعم ما يكون مصحّحاً للعمل هو

صدوره عن حجّة كفتوى الفقيه، و إن لم يصدق عليه عنوان التقليد». و الغرض منه دفع ما ربّما يمكن أن يتوهّم من أنّه لا يكاد يمكن الجمع بين أمرين: أحدهما تفسير التقليد و تعريفه بنفس العمل. غاية الأمر مع الاستناد إلى فتوى الفقيه، و الآخر ما هو المعروف من أنّ المصحّح لعمل العامي غير المحتاط هو التقليد، فإذا كان التقليد هو نفس العمل فكيف يكون المصحّح للعمل أيضاً هو نفسه. ضرورة أنّ المصحّح لا بدّ و أن يكون مغايراً لنفس العمل، كما هو ظاهر. و قد عرفت «1» سابقاً أنّ الوجه في العدول عن تفسير التقليد بالعمل ما اشتهر بينهم من لزوم مسبوقية العمل بالتقليد؛ لأنّه يكون مصحّحاً له و موجباً لاتّصافه بعدم البطلان.

و الجواب عن هذا التوهّم ما أشار إليه الماتن دام ظلّه من أنّه لم يقم دليل على اعتبار عنوان التقليد في صحّة العمل و كونه مصحّحاً له حتى ينافي ذلك مع تفسيره بنفس العمل، بل المصحّح للعمل هو صدوره عن حجّة و إسناده إليها، و إن لم يكن هذا الاستناد منطبقاً عليه عنوان التقليد، فكما أنّ المصحّح لعمل المجتهد هو صدوره عن حجّة، كخبر الواحد و غيره من الأمارات المعتبرة، فكذلك المصحّح لعمل العامي هو صدوره عن حجّة و استناده إليها، كفتوى الفقيه، فمسبوقيّة العمل بالفتوى و استناده إليها هو الملاك لاتّصافه بالصحّة و الخروج عن البطلان، و إن لم يكن التقليد عبارة عن الاستناد، بل هو العمل مستنداً إلى الحجّة.

فالجمع بين الأمرين ممّا لا مانع منه؛ لعدم ثبوت المنافاة بوجه، فيمكن تفسير التقليد بنفس العمل و الحكم بكون المصحّح له أمراً مغايراً له، و هو الاستناد و كون صدوره ناشئاً عن

الحجّة مسبوقاً بها، ففي الحقيقة يرجع هذا الكلام إلى ما ذكرنا سابقاً «2» من أنّه لم يقم دليل على لزوم مسبوقيّة العمل بالتقليد، و أنّه يعتبر تحقّق هذا العنوان قبل العمل، بل كما أفاده الماتن دام ظلّه و سيأتي في بعض المسائل الآتية إن شاء اللّٰه

______________________________

(1) في ص 55.

(2) في ص 54.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 69

شرائط مرجع التقليد

مسألة 3: يجب أن يكون المرجع للتقليد عالماً مجتهداً عادلًا ورعاً في دين اللّٰه، بل غير مكبّ على الدنيا، و لا حريصاً عليها و على تحصيلها جاهاً و مالًا على الأحوط، و في الحديث: من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه (1).

______________________________

تعالى لا دليل على اعتبار الاستناد أيضاً في اتّصاف العمل بالصحّة، بل مجرّد الانطباق و مطابقة العمل لفتوى المجتهد كاف في الحكم بالصحّة، و سيأتي توضيحه «1» فانتظر.

(1) أقول: كما أنّ البحث في أصل مسألة التقليد و رجوع العامي إلى المجتهد تارة يقع فيما هو المستند للعامي و المحرّك له على الرجوع، و أُخرى فيما يستنبطه المجتهد من الأدلّة، كذلك البحث في شرائط المجتهد الذي يجب الرجوع إليه لأخذ الفتوى و العمل على طبقها، تارة يقع فيما يحكم به عقل العامي الذي لا مستند له إلّا هو و لا محرّك له إلّا إدراكه، و أُخرى فيما يستفاد من الأدلّة الواردة في هذا الباب و ما يستنبطه المجتهد منها.

أمّا من الجهة الأُولى، فقد عرفت أنّه لا يمكن أن يجري التقليد في أصل مسألة التقليد و جوازه «2»، و كذا في شئونه و شرائطه للزوم الدور أو التسلسل، فلا بدّ أن يرجع

العامي إلى عقله و يتّبع ما يقتضيه إدراكه من أصل التقليد و فروعه، فإذا رجع إلى من يكون جامعاً للشرائط المعتبرة أو المحتملة عنده يكون اللازم حينئذٍ تطبيق العمل على فتواه و نظره، و رعاية رأيه في الخصوصيّات المعتبرة في المرجعية للفتوى، كما هو ظاهر.

و أمّا من الجهة الثانية، فنقول: قد اشترطوا في المقلَّد الذي يرجع إليه في التقليد أُموراً متعدّدة:

الأوّل: البلوغ، من الواضح الذي لا ينبغي الارتياب فيه أن أدلّة حجيّة فتوى المجتهد و جواز تقليده لا دلالة فيها على اعتبار البلوغ أصلًا، فإنّ مقتضى الأدلّة اللفظية من الآيات

______________________________

(1) في ص 229 و ما بعدها.

(2) في ص 60.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 70

..........

______________________________

و الروايات على تقدير تماميّة دلالتها على حجّية الفتوى كما عرفت المناقشة في بعضها «1» هو كون الموضوع عنوان الفقيه، و أهل الذكر، و العارف و الناظر في الحلال و الحرام، و أشباهها من العناوين التي لا ريب في صدقها على الصبي إذا اتّصف بالاجتهاد.

و السيرة العقلائيّة التي هي العمدة في باب التقليد و شئونه لا فرق فيها بين البالغ و غيره، فإنّ الملاك فيها هو رجوع الجاهل إلى العالم، و لا فرق في هذا الملاك بينهما، خصوصاً مع وجود ما هو أولى من المقام بمراتب في الشرع، فإنّه كان من الأنبياء و الأوصياء صلوات اللّٰه عليهم من بلغ مرتبة النبوّة و الإمامة قبل أن يصير بالغاً، و عليه فيرتفع الاستبعاد الذي ربّما يمكن أن يتّكل عليه في المقام، و إن كان في هذه المقايسة نظر، كما هو غير خفيّ على أهل النظر.

و بالجملة: أدلّة جواز التقليد خالية عن اعتبار البلوغ، كما أنّ ما

ورد من أنّه رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم «2» لا دلالة له على اعتبار البلوغ في مثل المقام، فإنّ رفع قلم المؤاخذة أو أصل التكليف لا يلازم خروجه عن صلاحية التقليد الذي هو عمل الغير و وظيفته، و أمّا ما ورد من أنّ عمد الصبي و خطأه واحد، فإن كان مذيّلًا بما في ذيل إحدى روايتيه من قوله: تحمله العاقلة، أو يحمل على العاقلة «3». فالظاهر عدم دلالته إلّا على كون عمدة في باب القتل و الجناية خطأ، و تكون الدّية ثابتة على العاقلة محمولة عليها، و أمّا لو كان خالياً عن الذيل كما في إحدى الروايتين «4» فلا يبعد أن يقال بدلالته على المقام و نحوه، فإنّ مقتضى إطلاق كون عمده خطأ أنّ الأفعال و الأقوال و الاستنباطات التي تصدر من الصبي مع التوجّه و الالتفات تكون

______________________________

(1) في ص 64 و ما بعدها.

(2) الخصال: 93 ح 40 و 175 ح 233، الوسائل: 1/ 45، أبواب مقدّمات العبادات ب 4 ح 11.

(3) التهذيب: 10/ 233 ح 921، الوسائل: 29/ 400، أبواب العاقلة ب 11 ح 3.

(4) التهذيب: 10/ 233 ح 920، الوسائل: 29/ 400، كتاب الديات، أبواب العاقلة ب 11 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 71

..........

______________________________

كالتي تصدر من غيره بدون التوجّه و القصد و الإرادة.

و من الواضح أنّ الاستنباط الذي هو فعل من الأفعال إذا صدر من غير توجّه و نظر لا يكون معتبراً بوجه، و لا يجوز للعامي أن يستند إليه أصلًا. كما أنّه على تقدير اشتمال الرواية على الذيل يمكن أن يقال بأنّ الذيل بيان لمصداق من الكبرى الكليّة، و القاعدة العامّة التي

افيدت في الصدر، لا أنّه قرينة على اختصاصه بخصوص باب القتل و الجناية، و التحقيق موكول إلى محلّه.

و كيف كان، فالدليل على اعتبار البلوغ الإجماع الذي ادّعي في خصوص المقام، و الإجماع بل الضرورة التي ادّعاها صاحب الجواهر (قدّس سرّه) على أنّ الصبي مسلوب العبارة «1»، فإذا كانت عبارته مسلوبة فاستنباطه و نظره بطريق أولى، مضافاً إلى ذكر «الرجل» في حسنة أبي خديجة «2» بناءً على دلالتها على حجيّة الفتوى، و كون المراد بالرجل ما يقابل الصبي أيضاً و إلى أنّ اعتبار العدالة كما سيجي ء يلازم اعتبار البلوغ أيضاً.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ محلّ الكلام هو اعتبار البلوغ في زمان العمل بفتواه و أخذها منه لا في زمن تحقّق الاستنباط، فإذا تصدّى المجتهد للاستنباط قبل البلوغ فأراد المقلّد الرجوع إليه بعده فلا مانع منه أصلًا، بل هو خارج عن محلّ النزاع، كما أنّه إذا رجع إليه المقلّد في حال بلوغه فمات المجتهد فله أن يبقى على تقليده، و إن كان استنباطه قبل البلوغ و لم يعلم بفتاواه بعد البلوغ أصلًا؛ لما سيمرّ عليك من عدم مدخلية العمل في جواز البقاء.

الثاني: العقل، و اعتباره في المرجع ظاهر عند العقلاء و المتشرّعة، و قد ادّعي أنّه ممّا أجمع

______________________________

(1) جواهر الكلام: 29/ 143.

(2) الكافي: 7/ 412 ح 4، الفقيه: 3/ 2 ح 1، التهذيب: 6/ 219 ح 516، الوسائل: 27/ 13، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 1 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 72

..........

______________________________

عليه الخلف و السلف، و ادّعى الاتّفاق شيخنا الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) «1» على ما حكي عنه، و أدلّة التقليد و حجيّة فتوى المجتهد ظاهرة في

اعتباره، فإنّه و إن لم يقع التعرّض لاعتبار العقل فيها بوجه إلّا أنّ نفس العناوين المأخوذة فيها لا ينطبق إلّا على العاقل، فإنّ المجنون لا ميزان لفهمه و استنباطه، كما أنّه لا ملاك لأعماله و أقواله، و كذلك السيرة العقلائيّة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم، فإنّه لا خفاء في اختصاصها بالعالم العاقل.

نعم، المجنون الأدواري في حال الإفاقة لا مانع عند العقلاء من الرجوع إليه، كما قد حكي القول به عن بعض متأخّري المتأخّرين؛ كصاحبي المفاتيح «2» و الإشارات «3»، كما أنّه لو فرض أنّ المجنون الدائمي كان جنونه في جهة خاصّة و أمر مخصوص بحيث لا يتعدّى عن تلك الجهة بوجه و لا يكون له مظهر غيرها، لا يبعد أن يقال بعدم خروجه عن السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إلى العالم، فإنّه لو فرض أنّ الطبيب كان جنونه منحصراً في جهة غير مرتبطة بالطبابة أصلًا، و علم بعدم تعدّي جنونه عن غير تلك الجهة، فهل هو خارج عن جريان السيرة؟ الظاهر العدم، اللّهمّ إلّا أن يكون الإجماع منعقداً على عدم حجيّة فتواه في المقام.

ثمّ إنّه يدلّ على اعتبار العقل مضافاً إلى ما ذكر الدليل على اعتبار العدالة على ما سيجي ء، فإنّ اعتبار العدالة لا ينفك عن اعتبار العقل كما هو غير خفي.

الثالث: الإيمان، و المراد من اعتبار الإيمان الذي مرجعه إلى كونه شيعيّاً إماميّاً أنّه هل يجوز الرجوع إلى غير الإمامي إذا كانت فتاواه و آراؤه مأخوذة عن المدارك المعتبرة عند الإمامي، و كان استنباطه منحصراً في خصوص الأدلّة التي يرجع إليها المجتهد الإمامي، و إلّا فعدم جواز الرجوع إلى غير الإمامي في فتاواه المأخوذة عن المدارك المعتبرة عند نفسه ممّا لا ينبغي النزاع

فيه، و هو خارج عن محلّ الكلام

______________________________

(1) راجع رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 57، و الحاكي هو صاحب التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 217.

(2) مفاتيح الأُصول: 611.

(3) لم نعثر على كتاب الإشارات.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 73

..........

______________________________

كما هو ظاهر.

و قد استدلّ على اعتبار الإيمان في المجتهد الذي يرجع إليه للتقليد بوجوه:

منها: دعوى الإجماع من السلف و الخلف على شرطية الإيمان في المجتهد الذي يرجع إليه.

و أُورد على هذه الدعوى بأنّ الإجماع المدّعى ليس من الإجماعات التعبّدية حتى يستكشف به قول المعصوم (عليه السّلام)؛ لاحتمال أن يكون مستنداً إلى بعض الوجوه التي استدلّ بها على اعتبار الإيمان، و معه لا مجال للاعتماد عليه.

و الجواب عن هذا الإيراد مضافاً إلى أنّه لا يجتمع الإيراد بذلك مع ما صرّح به المورد في أدلّة اشتراط العدالة؛ من أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة الواصل ذلك إليهم يداً بيد عدم رضى الشارع بزعامة من لا عدالة له فضلًا عن العقل و الإيمان، فإنّ ثبوت هذا الارتكاز ينافي دعوى عدم استكشاف قول المعصوم (عليه السّلام)، و عدم العلم برأيه و نظره أنّ مجرّد احتمال الاستناد إلى بعض الوجوه الضعيفة غير الصالحة للاستدلال لا يقدح في أصالة الإجماع و استكشاف رأي الإمام (عليه السّلام)، كما هو ظاهر.

و منها: مقبولة عمر بن حنظلة و حسنة أبي خديجة. ففي الأُولى «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا» «1» و في الثانية «و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا خ ل)» «2». فإنّ قوله (عليه السّلام): «منكم» في الروايتين ظاهر في اعتبار المماثلة في الإيمان و الاعتقاد بإمامتهم.

و

يرد عليه مضافاً إلى ما سيجي ء إن شاء اللّٰه تعالى من أنّ مورد الروايتين باب القضاء و فصل الخصومة، و لا ملازمة بين اعتبار شي ء في القاضي و اعتباره في المفتي أنّ تخصيص الحكم بخصوص الواجد لوصف الإيمان على ما هو المتفاهم عرفاً من

______________________________

(1) الكافي: 1/ 67 ح 1، الوسائل: 27/ 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1.

(2) الوسائل: 27/ 13، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 1 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 74

..........

______________________________

الروايتين إنّما هو لأجل كون غير الواجد لا تكون فتاواه مأخوذة عن المدارك المعتبرة عند الإمامي غالباً، فلا دلالة لهما على عدم اعتبار نظره إذا حكم بحكمهم (عليهم السّلام)، و أفتى على طبق رواياتهم و الأُصول المعتمدة في الفتوى عند المجتهد الإمامي.

و منها: رواية عليّ بن سويد المتقدّمة قال: كتب إليَّ أبو الحسن (عليه السّلام) و هو في السجن: لا تأخذنّ معالم دينك عن غير شيعتنا، فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا اللّٰه و رسوله و خانوا أماناتهم، إنّهم ائتمنوا عن كتاب اللّٰه فحرّفوه و بدّلوه «1».

و يرد على الاستدلال بها أنّ الظاهر منها كون المانع هي الخيانة الموجبة لعدم الائتمان و الوثوق و الاطمئنان لا مجرّد اعتقاد الخلاف، و إن علم باستناد فتواه إلى المدارك المعتبرة عند الإمامية، و يؤيّده أنّ الرواية شاملة للرجوع إلى راوي الحديث و أخذ الرواية منه، مع أنّه لا يعتبر فيه الإيمان بل يكفي الوثوق و الاطمئنان. هذا، مضافاً إلى ضعف سند الرواية.

و منها: رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه المتقدّمة أيضاً في أدلّة حجيّة الفتوى قال: كتبت إليه يعني أبا

الحسن الثالث (عليه السّلام) أسأله عمّن آخذ معالم ديني؟ و كتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما: فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا، و كلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء اللّٰه تعالى «2».

و يرد على الاستدلال بها مضافاً إلى ضعف السند أيضاً أنّ الأمر بالاعتماد على المسنّ في حبّهم و كثير القدم في أمرهم إنّما هو لِما ذكرنا من عدم الائتمان بغير الإمامي، مع أنّ اعتبار هذين الوصفين مخالف للإجماع القطعي؛ لأنّ غاية ما هناك اعتبار الإيمان بل العدالة كما سيجي ء. و أمّا كونه مسنّاً في الحبّ و له قدم كثير في

______________________________

(1) تقدّمت في ص 77 78.

(2) تقدّمت في ص 78.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 75

..........

______________________________

أمرهم فلا يكون بمعتبر قطعاً، مع أنّ صدر الرواية يدلّ على اعتبار الوصفين و ذيلها على كفاية وصف واحد، فلا تخلو عن شبه مناقضة، فتأمّل.

فانقدح أنّ الدليل على اعتبار الإيمان هو الإجماع الكاشف بضميمة ما يدلّ على اعتبار العدالة، فإنّ اعتبارها لا ينفك عن اعتبار الإيمان كما هو ظاهر.

الرابع: العدالة، و اعتبارها في المفتي الذي يرجع إليه للتقليد لا يكاد يستفاد من شي ء من الأدلّة الواردة في باب التقليد و حجيّة فتوى المجتهد؛ لعدم دلالة الأدلّة اللفظية على اعتبارها و عدم التعرّض لها، و السيرة العقلائيّة التي هي العمدة في الباب غايتها إفادة اشتراط الوثاقة، فإنّها و إن كان ملاكها رجوع الجاهل إلى العالم، إلّا أنّه حيث يكون الغرض من الرجوع رفع الجهل و الوصول إلى الواقع، و هذا لا يتحقّق مع عدم الوثاقة و الاعتماد، فلا محالة تكون الوثاقة معتبرة، و أمّا الزائد عليها

فلا.

و قد استدلّ على اعتبار العدالة مضافاً إلى الإجماع بالنحو الذي عرفت في اعتبار الإيمان برواية الاحتجاج الطويلة المتقدّمة في أدلّة حجيّة فتوى المجتهد عن أبي محمّد العسكري (عليه السّلام)، المشتملة على قوله (عليه السّلام) في الذيل: «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه و ذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم، الحديث «1».

و الكلام في هذه الرواية تارة من حيث السند، و أُخرى من جهة الدلالة.

أمّا من الجهة الأُولى، فقد روى الصدوق عن محمّد بن القاسم الأسترآبادي مشافهة من غير واسطة التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمّد العسكري (عليه السّلام) «2»، و أكثر من النقل عنه في أغلب كتبه الموجودة بأيدينا، و اعتمد على ما فيه، و تبعه على ذلك جملة من الأساطين، كصاحب الاحتجاج و صاحب الخرائج، و ابن شهرآشوب

______________________________

(1) تقدّمت في ص 74.

(2) التفسير المنسوب إلى أبي محمّد العسكري (عليه السّلام): 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 76

..........

______________________________

صاحب المناقب في مواضع عديدة، و المحقّق الكركي، و الشهيد الثاني، و المجلسيين.

و لكنّه ضعّف العلّامة في «الخلاصة» محمّد بن القاسم بقوله: ضعيف، كذّاب روى يعني الصدوق عنه تفسيراً يرويه عن رجلين مجهولين: أحدهما يُعرف بيوسف بن محمّد بن زياد، و الآخر بعلي بن محمّد بن يسار، عن أبيهما، عن أبي الحسن الثالث (عليه السّلام)، و التفسير موضوع عن سهل الديباجي، عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير «1».

قال المحدّث النوري في خاتمة المستدرك بعد نقل هذه العبارة: و لم يسبقه فيما بأيدينا من الكتب الرجالية و الحديث أحد سوى الغضائري، و لم يلحقه أيضاً أحد

سوى المحقّق الداماد «2». ثمّ ذكر عين عبارته و أورد عليه ما أورده المحقّقون من الطعن، ثمّ ذكر في ذيل كلامه أسامي جماعة من المعتمدين على هذا التفسير، كالأُستاذ الأكبر في التعليقة و المجلسيين و الحرّ العاملي و المحدّث الجزائري و جمع آخر، و اختار هو أنّ التفسير داخل في جملة الكتب المعتمدة.

أقول: محصّل الإشكال في هذا المجال تارة من جهة ضعف محمّد بن القاسم الأسترآبادي و جهالة الرجلين اللذين رواه عنهما، و أُخرى من جهة أنّه حكي عن صاحب المناقب في معالم العلماء أنّ الحسن بن خالد البرقي أخا محمّد بن خالد من كتبه تفسير العسكري من إملاء الإمام (عليه السّلام) مائة و عشرون مجلّداً «3». مع أنّ التفسير الموجود بأيدينا مجلّد واحد مشتمل على تفسير سورة الفاتحة و بعض سورة البقرة.

و يمكن دفع الإشكال من الحيثيّة الأُولى بأنّ اعتماد الصدوق عليه و إكثار نقله عنه في كتبه المتعدّدة يكفي في توثيقه، و تضعيف الخلاصة مستند إلى الغضائري الذي اشتهر ضعف تضعيفاته، و الرجلان اللذان روى عنهما قد حكي عن الطبرسي التصريح بأنّهما من الشيعة الإمامية.

______________________________

(1) خلاصة الأقوال: 404.

(2) خاتمة المستدرك: 5/ 192.

(3) معالم العلماء: 34، رقم 189.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 77

..........

______________________________

و من الحيثيّة الثانية بأنّ الظاهر كون التفسير الموجود جزءاً من ذلك التفسير الكبير لا مغايراً له، فإنّ ابن شهرآشوب الذي هو الأصل في النسبة إلى البرقي ينقل في مناقبه عن التفسير الموجود الذي رواه الأسترآبادي، فيظهر من ذلك عدم انحصار السند بالأسترآبادي، و مع ذلك كلّه فلا يحصل للنفس اطمئنان بالكتاب المذكور، خصوصاً مع ملاحظة اشتماله على ما لا يوجد في غيره من المعاجز

الغريبة و القصص الطويلة.

و أمّا من جهة الدلالة فربّما يقال كما قيل بأنّ الرواية لا تدلّ على اعتبار أزيد من الوثاقة؛ لأنّها وردت في مقام بيان ما هو الفارق بين عوامنا و عوام اليهود في تقليدهم علماءهم، نظراً إلى أنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح و أكل الحرام و الرشا و تغيير الأحكام، و التفتوا إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على اللّٰه و لا على الوسائط بين الخلق و بين اللّٰه، و مع هذا قلّدوهم فلذلك ذمّهم اللّٰه، ثمّ بين (عليه السّلام) أنّ عوامنا أيضاً كذلك إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر و العصبية الشديدة و التكالب على الدنيا و حرامها، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود «فأمّا من كان من الفقهاء» إلخ، فحاصل كلامه (عليه السّلام): أنّه إنّما يجوز ممّن هو مورد الوثوق و مأمون عن الخيانة و الكذب، و لا دلالة له على اعتبار أزيد من الوثاقة بوجه.

و لكنّه يرد على هذا القول بأنّ صدر الرواية و إن كان في مقام مذمّة اليهود و مذمّة عوامنا إذا كانوا مثل عوامهم، إلّا أنّ ذيلها و هو قوله (عليه السّلام): «فأمّا من كان من الفقهاء» إلخ، في مقام إفادة ضابطة كلّية و قاعدة عامّة لمورد جواز التقليد، و من الواضح أنّ القيود المأخوذة في هذه الضابطة لا تكاد تنطبق على أقلّ من العدالة المصطلحة، و مع ملاحظة هذا الذيل المشتمل على الضابطة لا محيص عن الالتزام باعتبار العدالة؛ لعدم المنافاة بينه و بين صدره الوارد في مقام مذمّة اليهود و مذمّة عوامنا إذا كانوا مثلهم كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ على اعتبار العدالة المستلزم

لاعتبار العقل و الإيمان بل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 78

..........

______________________________

البلوغ أيضاً بأنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة الواصل ذلك إليهم يداً بيد عدم رضى الشارع بزعامة من لا عدالة له، فضلًا عمّن لا إيمان له أو لا عقل له، فإنّ المرجعية في التقليد من أعظم المناصب الإلٰهية بعد الولاية، و كيف يرضي الشارع الحكيم أن يتصدّى لمثلها من لا قيمة له لدى العقلاء و الشيعة المراجعين له، خصوصاً بعد ملاحظة عدم رضى الشارع بإمامة من هو كذلك في الجماعة، حيث اشترط في إمام الجماعة العدالة، فما ظنّك بالزعامة العظمى التي هي من أعظم المناصب بعد الولاية.

و مرجع هذا الوجه إلى الأولويّة القطعيّة بالإضافة إلى اعتبار العدالة في الزعامة و المرجعية، التي هي الفضيلة المتوسّطة بين منصب الولاية، الذي يعتبر فيه العصمة، و بين منصب الإمامة للجماعة الذي لا يكفي فيه أقل من العدالة المصطلحة، فإذا كانت العدالة معتبرة فيه قطعاً فاعتبارها في المنصب الذي هو فوق هذا المنصب بدليل اعتبار الاجتهاد و ملكة الاستنباط بطريق أولى.

لا يقال: الأولوية ممنوعة، و السند عدم اعتبار العدالة في الراوي الذي هو مستند المجتهد باعتبار روايته في الوصول إلى الحكم و استنباطه، فإذا كان مجرّد الوثاقة كافياً في الراوي كما هو الحقّ ففي المجتهد أيضاً كذلك، و يؤيّده عدم اعتبار أزيد من الوثاقة في السيرة العقلائيّة التي هي الأساس في باب التقليد و رجوع الجاهل إلى العالم، كما مرّ مراراً «1».

فإنّه يقال: قياس المرجعية بباب الراوي و الرواية مع الفارق، فإنّه لا يعتبر في الراوي بما هو راوٍ أزيد ممّا يعتبر في سائر الإخبارات و الحكايات، فإنّ الرواية مصداق من مصاديق الخبر

و الحكاية، و لا يعتبر فيه عند العقلاء و الشارع أزيد من الوثاقة الموجبة للاعتماد بصدق الراوي، و عدم تعمّده للكذب و بيان خلاف الواقع، و أمّا المرجعية في الفتوى فهي من المناصب الإلهية، و لها خصوصيّات و شرائط زائدة على الخصوصيّات المعتبرة عند العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم، فإذا كانت العدالة معتبرة في

______________________________

(1) في ص 61 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 79

..........

______________________________

منصب الإمامة للجماعة مع أنّه منصب جزئيّ لا يبلغ من الأهميّة منصب المرجعيّة بوجه، فاعتبارها في المرجع بطريق أولى.

فالإنصاف تمامية هذا الوجه و عدم جواز المناقشة في اعتبار العدالة في المجتهد الذي يرجع إليه للتقليد و أخذ الفتوى.

الخامس: الرجوليّة، غير خفي أنّ السيرة العقلائيّة التي هي الأساس في باب التقليد و العمدة في جوازه لا فرق فيها بين أن يكون العالم الذي يرجع إليه الجاهل رجلًا أو امرأة، فلا بدّ في إثبات الاختصاص بالرجل في الشرع من إقامة دليل رادع عن هذه الطريقة و إعمالها في الشريعة، و ما يمكن أن يكون رادعاً أُمور:

أحدها: مشهورة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال أبو عبد اللّٰه جعفر بن محمّد الصادق (عليه السّلام): إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا خ ل) «1».

و قد أُورد على الاستدلال بها لاعتبار الرجولية تارة بأنّ ذكر «الرجل» لا دلالة فيه على دخالته و اعتباره؛ لأنّ ذكره إمّا يكون لأجل كونه أحد المصاديق، كما في قوله رجل شك بين الثلاث و الأربع و أشباهه، و إمّا لأجل أنّ الغالب المتعارف في القضاء هو الرجوليّة، بل

لم تستعهد قضاؤه النساء و لو في مورد واحد، فأخذ عنوان الرجوليّة من باب الغلبة لا من جهة التعبّد و إفادة الحصر، و أُخرى بأنّ الرواية واردة في باب القضاء، و لم يقم دليل على ثبوت الملازمة بينه و بين باب الإفتاء فضلًا عن الأولويّة، كما لا يخفى.

و يمكن الجواب عن الإيراد الأوّل بأنّ ذكر «الرجل» في مقام إلقاء الضابطة

______________________________

(1) تقدّمت في ص 86.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 80

..........

______________________________

الكليّة و إفادة القاعدة العامّة ظاهر في الاختصاص و الدخالة، و احتمال كونه أحد المصاديق، أو كون ذكره من باب الغلبة لا مجال له مع ظهور القيد في الاحتراز، كما هو الأصل في باب القيود المأخوذة في الموضوعات. و بالجملة مع احتمال مدخلية القيد لا وجه لرفع اليد عن الظهور إلّا أن يقوم دليل على العدم، كما في المثال المذكور.

و أمّا الإيراد الثاني فالظّاهر وروده، فإنّ اعتبار الرجولية في القاضي الذي يرجع إليه المترافعان و لازمه تحقّق التشافه لا دلالة فيه على اعتبارها في المرجع الذي لا يكون المهم إلّا آرائه و أنظاره، و ربّما تكون مجموعة في رسالة منتشرة لا يحتاج المقلِّد إلى الرجوع إلى شخصه طيلة حياته، مع أنّ القاضي لا بدّ و أن يكون رجلًا حتى يمكن له حفظ التعادل، و لا يقع متأثّراً عن دعوى المدّعى أو إنكار المنكر، و النساء بعيدة عن المتانة و عدم التأثّر بمراحل، و أين هذا من المرجعية التي لا يعتبر فيها شي ء من ذلك، فقيام الدليل على اعتبار الرجولية في القاضي لا يلازم الدلالة على اعتبارها في باب الإفتاء بوجه.

ثانيها: مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة. و فيها: ينظران من

كان منكم ممّن قد روى حديثنا «1».

و يرد على الاستدلال بها مضافاً إلى ما عرفت من عدم الملازمة بين باب القضاء و باب الإفتاء عدم الدلالة على اعتبار الرجولية في باب القضاء أيضاً، فإنّ قوله (عليه السّلام): «من كان» مطلق لا اختصاص له بالرجال، و ضمير الجمع المذكور لا يفيد ذلك بوجه؛ لأنّ النظر إنّما هو إلى اعتبار المماثلة في الإيمان و الاعتراف بالولاية و الإمامة، كما هو غير خفيّ.

______________________________

(1) تقدّمت في ص 85 86.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 81

..........

______________________________

ثالثها: قوله (عليه السّلام) في رواية الاحتجاج المتقدّمة: فأمّا من كان من الفقهاء صائناً «1» إلخ، فإنّ فرض الموضوع الفقيه المذكور باعتبار الجمع يمكن أن يقال بدلالته على الاختصاص، و عدم سعة دائرة التقليد بنحو يشمل النساء أيضاً، فتأمّل.

رابعها: و هو العمدة، الأولوية القطعية للمقام بالإضافة إلى باب الإمامة للجماعة، الذي لم يرض الشارع فيه بإمامة المرأة للرجال في صلاة الجماعة، فإنّه إذا لم يجز للمرأة التصدّي لمنصب الإمامة مع أنّه من المناصب التي لا يبلغ من الأهميّة و العظمة منصب المرجعية و الزعامة، فعدم جواز تصدّيها لذلك المنصب بطريق أولى.

نعم، نتيجة هذا الدليل عدم جواز رجوع الرجال إليها في أخذ الفتوى و العمل عليها، و أمّا عدم جواز رجوع النساء أيضاً مع أنّه يجوز لها الإمامة للنساء فلا بدّ من الاستدلال له بعدم القول بالفصل في المقام قطعاً، ضرورة أنّه لم يحتمل أحد الفرق في المقام بين رجوع الرجال و رجوع النساء، كما لا يخفى.

فانقدح من جميع ذلك اعتبار الرجوليّة في المرجعيّة، خصوصاً مع وضوح مذاق الشارع بالإضافة إلى هذه الطائفة التي لا تكون الوظيفة المرغوبة منهنّ إلّا

التستّر و الجهات الراجعة إلى الأُمور البيتيّة الداخلية، لا الاجتماعية المطلوبة من الرجال.

السادس: الحريّة، و قد حكي عن جماعة، منهم: الشهيد الثاني (قدّس سرّه) «2» اعتبارها بل نسب إلى المشهور «3». و نسبه صاحب العروة «4» إلى القيل مشعراً بتردّده فيه، بل ميله إلى العدم، و هو الأقوى؛ لعدم ثبوت الردع عن السيرة العقلائيّة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم، بلا فرق بين أن يكون العالم حرّا أو مملوكاً.

و قد مرّ مراراً أنّها هي الأساس و العمدة في باب التقليد و رجوع العامي إلى المجتهد في الأحكام الشرعيّة «5»، و مجرّد كون المملوك غير قادر على شي ء كما وصف

______________________________

(1) في ص 74.

(2) الروضة البهية: 3/ 62، مسالك الأفهام: 13/ 330.

(3) راجع الروضة البهية: 3/ 62، مسالك الأفهام: 13/ 330، رياض المسائل: 9/ 244.

(4) العروة الوثقى: 1/ 9 مسألة 22.

(5) في ص 61 64، 82، 87، 92.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 82

..........

______________________________

اللّٰه تبارك و تعالى إيّاه بقوله عزّ من قائل ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ «1» لا دلالة فيه على عدم صلاحيّته للمرجعيّة، فإنّ عدم القدرة مرجعه إلى عدم الاستقلال و افتقار أعماله و أفعاله إلى رضا المولى و إذنه أو إجازته، و عدم الاستقلال لا يلازم عدم الصلاحيّة لها، كما أنّه ليس منقصة موجبة للسقوط عن الوقار و الأنظار؛ لعدم مدخلية الرقية في تنقيص الجهات الكمالية الدنيويّة أو الأُخرويّة، كما هو ظاهر.

السابع: كونه مجتهداً مطلقاً، لا خفاء في أنّ المجتهد المتجزئ بناءً على إمكان التجزي في الاجتهاد و جواز حصول مرتبة من ملكة الاستنباط بحيث يقتدر بها على استنباط بعض المسائل كما هو

الحقّ يجوز له بل يجب عليه أن يعمل على طبق آرائه و أنظاره، و لا يجوز له الرجوع فيما استنبطه أو فيما يقدر على استنباطه من المسائل على الخلاف المتقدّم «2» إلى الغير؛ لعدم وجود ملاك التقليد فيه، فإنّ مناطه رجوع الجاهل إلى العالم لا العالم إلى مثله، خصوصاً مع اختلافهما في النظر و اعتقاد خطأ الغير و اشتباهه.

و أمّا جواز رجوع العامي إلى المتجزئ في خصوص ما استنبطه من الأحكام فمحلّ إشكال، و قد صرّح صاحب العروة (قدّس سرّه) بعدم الجواز «3»، و هو ظاهر سيدنا العلّامة الأستاذ الماتن دام ظلّه فإنّ ظاهر اعتبار كونه مجتهداً هو اعتبار كونه مجتهداً مطلقاً، و لكنّه لا بدّ في هذا الأمر كسائر الأُمور المتقدّمة من إقامة الدليل على ثبوت الردع عن السيرة العقلائيّة في محيط الشريعة بالإضافة إلى هذه الخصوصيّة، و مع عدم ثبوته يكون مقتضى السيرة عدم الفرق بين المطلق و المتجزئ، ضرورة أنّ العقلاء يرجع جاهلهم في شي ء إلى العالم بذلك الشي ء، و لا يعتبرون العلم بغيره أصلًا، بل ربّما يرجّحون المتجزّئ على غيره فيما إذا كان أعلم فيما استنبطه من

______________________________

(1) النحل: 75.

(2) في ص 21 24.

(3) العروة الوثقى: 1/ 9 مسألة 22.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 83

..........

______________________________

المطلق لممارسته فيه، و صرف عمره في الجهات و الخصوصيّات الراجعة إليه.

و بالجملة: لا إشكال في عدم الفرق من جهة السيرة بين المطلق و المتجزئ، فلا بدّ للقائل بالفرق من إقامة دليل على الردع.

فنقول: ما يمكن أن يكون رادعاً أُمور:

الأوّل: آية النفر «1» المتقدّمة الدالّة على اعتبار إنذار «الفقيه» و ترتيب الأثر على قوله ورائه. و فيه: بعد الغضّ عن

عدم دلالة الآية على جواز التقليد بالكيفيّة التي هي محلّ البحث، كما أسلفنا فيه الكلام مفصّلًا «2»-:

أوّلًا: أنّ غاية مفاد الآية حجيّة قول الفقيه، و لا دلالة لها على حصر الحجيّة فيه حتى تصلح للردع عن السيرة، و مجرّد إثبات الحجيّة لرأي الفقيه لا ينافي ثبوتها لرأي غيره من المتجزي الذي استنبط واحداً أو اثنين من الأحكام الإلٰهيّة إلّا إذا استفيد الانحصار، و الآية بعيدة عن إفادته.

و ثانياً: أنّ المراد من «الفقيه» المذكور في الآية ليس إلّا العارف بكثير من المسائل الفقهية، لا خصوص المجتهد المطلق الذي يكون له ملكة استنباط جميع المسائل. و بعبارة أُخرى: النسبة بين عنوان «الفقيه» و عنوان «المجتهد المطلق» عموم و خصوص من وجه، ضرورة أنّه ربّما لا يكون الفقيه مجتهداً مطلقاً، كما فيما إذا لم تكن له تلك الملكة، و ربّما لا يكون المجتهد المطلق فقيهاً، كما فيما إذا لم يتصدّ المطلق للاستنباط أصلًا، و إن كانت الملكة حاصلة له.

و دعوى أنّ الملكة تتوقّف على الاستنباط فكيف يمكن حصولها بدونه، مدفوعة بأنّ الاستنباط يتوقّف على الملكة، فلو كانت الملكة متوقّفة عليه لدار، من دون فرق في هذه الجهة بين المطلق و المتجزئ، فكما أنّ الملكة في الثاني تكون

______________________________

(1) سورة التوبة: 9/ 122.

(2) في ص 64 و بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 84

..........

______________________________

متقدّمة على الاستنباط فكذلك في الأوّل، و عليه فلا دلالة للآية على اعتبار الاجتهاد المطلق بوجه.

الثاني: آية السؤال المتقدّمة «1» أيضاً، و دلالتها على وجوب السؤال عن خصوص أهل الذكر، و إن كانت ظاهرة باعتبار ظهور الوجوب في الوجوب التعييني عند دوران الأمر بينه و بين التخييري كما حقّق في

محلّه من الأصول إلّا أنّه يرد على الاستدلال بها تارة عدم دلالتها على حجيّة فتوى الفقيه و رأي المجتهد بوجه، لا بلحاظ سياقها الظاهر في كون المراد بأهل الكتاب هم علماء اليهود و النصارى، و لا بلحاظ ما ورد في تفسيرها من كون المراد به الأئمّة الطاهرين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين «2». و ثانياً عدم ملازمة الأهلية للذكر للاجتهاد المطلق؛ لما بيّنا من أنّ النسبة بين العنوانين عموم من وجه.

الثالث: رواية الاحتجاج المتقدّمة المشتملة على قوله (عليه السّلام): «و أمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه إلخ» «3» و قد مرّ الكلام في سندها و ما يتعلّق بالتفسير المنسوب إلى العسكري (عليه السّلام) «4» و أمّا دلالتها فربّما يقال: إنّ دلالتها على الحصر مورد المناقشة؛ لأنّ الرواية ليست بصدد بيان أنّ المقلَّد بالفتح يعتبر أن يكون فقيهاً، و إنّما هي بصدد بيان الفارق بين علماء اليهود و علمائنا، و عوامهم و عوامنا، و أنّ عوامهم مع أنّهم كانوا يعرفون علماءهم بأنواع الفسق و الفجور، و التفتوا إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز تقليده و اتّباعه، قد قلّدوهم و اتّبعوا آراءهم، و لذلك ذمّهم اللّٰه سبحانه و أمّا عوامنا فلا يكونون مثلهم إلّا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر، و مع ذلك لم يرفعوا يدهم عن تقليدهم، فهم أيضاً

______________________________

(1) في ص 68

(2) الكافي: 1/ 210، باب أنّ أهل الذكر .. هم الأئمّة (عليهم السّلام).

(3) في ص 74.

(4) في ص 88 89.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 85

..........

______________________________

مثل عوام اليهود، فالرواية بصدد بيان الفارق من هذه الجهة و ليست بصدد بيان اعتبار الفقاهة بوجه.

و الجواب

عن هذا الكلام ما ذكرنا سابقاً «1» من أنّ اشتمال الرواية على بيان قصّة علماء اليهود و عوامهم، و الفرق بين عوامنا و عوامهم لا يلازم عدم كون ذيلها متعرّضاً لبيان ضابطة كليّة و قاعدة عامّة لمن يجوز الرجوع إليه و تقليده في المسائل. و الظاهر كونه مسوقاً لذلك و أنّه بصدد بيان القاعدة حتى تكون هي المرجع في الباب، و من الواضح أنّ أخذ الفقاهة في الموضوع ظاهر في الخصوصيّة و المدخلية، و أنّه لا يجوز تقليد غير الفقيه و الرجوع إليه في آرائه.

نعم، يرد على الاستدلال بها ما ذكرنا في آية النفر من عدم ملازمة الفقاهة للاجتهاد المطلق، و كون النسبة بين العنوانين عموماً من وجه «2».

الرابع: مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة، المشتملة على قوله (عليه السّلام): ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا فليرضوا به حكماً «3» فإنّ المصدر المضاف و كذا الجمع المضاف يفيدان العموم، فاللازم حصول الملكة المطلقة التي يقتدر بها على استنباط جميع الأحكام من أدلّتها، و دلالتها على الحصر واضحة بعد كونها بصدد بيان القيود المعتبرة فيمن يجوز أن يرضوا به حكماً.

و لكنّه يرد على الاستدلال بها مع الغض عن الكلام في سندها و عن عدم دلالتها على حكم المقام لورودها في باب القضاء الذي لا ملازمة بينه و بين باب الإفتاء أنّه لا مجال لحمل الرواية على كون المراد بها هو معرفة جميع الأحكام و النظر في جميع المحلّلات و المحرّمات، ضرورة امتناع المعرفة الفعلية و النظر الفعلي في جميعها، و حمل المعرفة و النظر على قوّة المعرفة و ملكة النظر مع أنّه مناف لظاهر هذين اللفظين

مخالف لقوله: «روى حديثنا». فإنّه من الواضح أنّه ليس المراد منه إلّا الرواية الفعلية لا الصلاحيّة للرواية و القابلية لها، كما لا يخفى.

فاللازم بعد عدم كون المراد به هو رواية الحديث و لو واحداً، و النظر في الحلال و الحرام كذلك حمل الرواية على كون المراد هو الذي ينطبق عليه عُرفاً أنّه

______________________________

(1) في ص 90.

(2) تقدّمت في ص 96.

(3) الكافي: 1/ 67 ح 10، الوسائل: 27/ 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 86

..........

______________________________

راوي أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام) و الناظر في حلالهم و حرامهم، و العارف بأحكامهم، و هو يصدق بالنظر في جملة معتدّ بها من المسائل و معرفة شي ء كثير من أحكامهم، و عليه فلا دلالة لهذه الرواية أيضاً على اعتبار الاجتهاد المطلق أصلًا.

ثمّ إنّه ربّما يقال: بأنّه يعارض المقبولة في نفس موردها حسنة أبي خديجة المعروفة المتقدّمة أيضاً، المشتملة على قول أبي عبد اللّٰه جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السّلام): «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه» «1».

نظراً إلى أنّها تدلّ على أنّ العلم ببعض أحكامهم و قضاياهم كاف في باب القضاء، لظهور كلمة «من» في التبعيض، و لا يمكن أن تكون بيانية؛ لأنّه مع مخالفته لظاهر مثل هذا التعبير كما هو غير خفي يلزم على هذا التقدير أن يقال: «أشياء من قضايانا» أو بنحو الجنس كما في قوله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ «2».

و بالجملة: لا مجال للمناقشة في دلالة الرواية على كفاية العلم بالبعض نظراً إلى

كلمة «من». و لا فرق من هذه الجهة بين ما ورد على طريق الشيخ في التهذيب «3» من قوله: «من قضايانا» و ما ورد على طريق الكليني «4» و الصدوق (قدّس سرّهما) «5» من قوله: «من قضائنا». ضرورة أنّ كلمة «القضاء» بنحو الإفراد لا ظهور فيها في خصوص الحكم في مقام الترافع، بل هو بمعنى طبيعة الحكم و ماهيّته، فالاختلاف بينه و بين قوله: «قضايانا» إنّما هو في الإفراد و الجمع كما هو غير خفي. و بالجملة: فالحسنة تعارض المقبولة بحسب الظاهر.

و لكن مقتضى الجمع العرفي بين الروايتين بعد عدم ظهور المقبولة في اعتبار المعرفة بجميع الأحكام كما عرفت، و عدم دلالة الحسنة على تقدير التبعيض أيضاً على كفاية مجرّد العلم ببعض الأحكام و لو واحداً أو اثنين؛ لأنّه مضافاً إلى عدم المناسبة حينئذٍ بين الحكم و الموضوع، ضرورة أنّ مجرّد العلم بحكم واحد لا يوجب

______________________________

(1) الوسائل كتاب القضاء أبواب صفات القاضي الباب الأول ح 5

(2) سورة الحجّ: 22/ 30.

(3) التهذيب: 6/ 219 ح 8.

(4) الكافي: 7/ 412 ح 4.

(5) الفقيه: 3/ 2 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 87

..........

______________________________

صلاحية العالم به لأن يصير حكماً، يكون المتفاهم عرفاً من هذا التعبير بعد كون أحكامهم و علومهم كثيرة جدّاً، بل غير متناهية بالإضافة إلى غيرهم من البشر، هو العلم بجملة معتدّ بها من أحكامهم كما في نظائر المقام، فإنّه لا يقال لمن عنده درهم: إنّ عنده شيئاً من المال، و لمن عرف مسألة واحدة من علم النحو مثلًا أنّه لا يكون خالياً عن هذا العلم أن يقال: إنّه لا بدّ من أن يكون عنده مقدار من أحكامهم بحيث

يصدق عليه عنوان «الراوي لحديثهم» و «الناظر في حلالهم و حرامهم» و «العارف بأحكامهم» فلا معارضة بين الروايتين أصلًا، بل الجمع العرفي موجود، و لكنّهما كما مرّت الإشارة إليه مراراً واردان في باب القضاء الذي لا ملازمة بينه و بين باب الإفتاء، مع عدم دلالتهما على اعتبار الاجتهاد المطلق الذي هو المدّعى في المقام.

و انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لم يثبت الردع عن السيرة العقلائيّة الجارية على عدم الفرق بين المطلق و المتجزّئ في مقام الرجوع. نعم، لو كان هناك إجماع على عدم الجواز بالإضافة إلى المتجزّئ في محيط الشريعة، و إلّا فمقتضى القاعدة و الأدلّة عدم الفرق.

نعم، لا يبعد أن يقال: إنّ المستفاد من مجموع الأدلّة المتقدّمة مع عدم خلوّ شي ء منها عن المناقشة سنداً أو دلالة اعتبار الفقاهة و النظارة و معرفة جملة معتدّ بها من الأحكام، بحيث تنطبق عليه هذه العناوين بنظر العرف، و أنّه لا يجوز تقليد المتجزّي الذي لم يتجاوز استنباطه عن مسألة واحدة أو اثنتين أو الثلاث و نظائره.

الثامن و التاسع: من شرائط المفتي الذي يجوز الرجوع إليه و تقليده: الحياة و الأعلمية، و سيأتي البحث عن كلّ واحد منهما مفصّلًا إن شاء اللّٰه تعالى «1»، فانتظر.

العاشر: أن لا يكون متولّداً من الزنا.

أقول: لم يقم دليل خاصّ على اعتبار هذا الأمر في المرجع، و مجرّد كونه

______________________________

(1) في ص 121 و 166.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 88

..........

______________________________

منقصة لا يقتضي ذلك، مع أنّه لو أُريد بها المنقصة الدينيّة كما هو الظاهر فلا نعني بها إلّا عدم الصلاحية لبعض الشئون و المناصب، و هو أوّل الكلام في المقام، ضرورة أنّ البحث بعد فرض

إسلامه و عدالته و ترتّب أحكام المسلمين عليه، و إن كان المراد بها المنقصة الدنيوية الراجعة إلى انحطاط مقامه و شأنه بالإضافة إلى غيره، فكونها مانعة عن ذلك لم يدلّ عليها دليل، و إلّا يلزم عدم صلاحية مثل الأعمى للمرجعيّة أيضاً.

نعم، الدليل على ذلك الأولويّة القطعيّة الثابتة للمقام بالإضافة إلى الإمامة للجماعة، فإذا ثبت أنّ الشارع لم يرض بإمامته لهم في الجماعة مع أنّه منصب جزئيّ فكيف يرضى بصلاحيّته للرجوع إليه و زعامته، مع أنّه من المناصب المهمّة الإلهيّة كما لا يخفىٰ.

الحادي عشر: أن لا يكون مقبلًا على الدنيا و طالباً لها، مكبّاً عليها، مجدّاً في تحصيلها.

و هذه العناوين مقتبسة من العناوين المأخوذة في رواية الاحتجاج المتقدّمة «1»، و ظاهر الماتن دام ظلّه أنّ مفادها أمر زائد على العدالة، و قد مرّ البحث عن سند الرواية مفصّلًا، و أمّا دلالتها فربما يقال بأنّ ما يمكن أن يستفاد منه أمر زائد على العدالة هو قوله (عليه السّلام): «مخالفاً لهواه»؛ لأنّ سائر العناوين لا يدلّ على أزيد من العدالة بوجه.

و ربّما يورد عليه بأنّه إن كان المراد به هي المخالفة للهوى و لو في المباحات الشرعيّة فلا مساغ للأخذ به؛ لعدم تحقّق الاتّصاف بذلك في غير المعصوم (عليه السّلام) إلّا بنحو الشذوذ غايته، و إن كان المراد المخالفة للهوى فيما نهى عنه الشارع فهو عبارة أُخرى عن العدالة و لا يكون أمراً زائداً عليها.

و لكنّ الظاهر إنّ المراد به هي المخالفة للهوى في خصوص المباحات، و لكن

______________________________

(1) تقدّمت في ص 74.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 89

[العدول من مجتهد إلىٰ آخر]

مسألة 4: لا يجوز «1» العدول بعد تحقّق التقليد من الحي إلى الحي

المساوي على الأحوط، و يجب العدول إذا كان الثاني أعلم على الأحوط (1).

______________________________

لا يصدق على من ارتكب مباحاً واحداً أو متعدّداً أنّه لم يخالف هواه، ضرورة أنّ المتفاهم عرفاً من ذلك أن يكون عبداً لهواه تابعاً له في كلّ ما يشتهيه و يتلذّذ به، و مجرّد الإتيان بجملة من المباحات لا ينافي المخالفة له بوجه.

فالإنصاف أنّ هذه الجملة تدلّ على أمرٍ زائد على العدالة، و لا توجب انحصار الدائرة في أفراد يكونون في غاية القلّة و الشذوذ، فاللازم بناءً على اعتبار سند الرواية الالتزام بذلك و لا مانع منه، فإنّ المرجعيّة من المناصب المهمّة الإلٰهيّة، مرجعها إلى الزعامة الكبرى و الرئاسة العظمى في عصر الغيبة، فالأحوط بملاحظة ما ذكرنا اعتبار هذا الأمر أيضاً.

(1) أقول: ينبغي قبل الورود في هذه المسألة التكلّم في مسألة التخيير بين المجتهدين المتساويين في الفضيلة التي تعرّض لها سيّدنا العلّامة الأُستاذ الماتن دام ظلّه في المسألة الثامنة.

فنقول: إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة، أو كان كلّ منهما محتمل الأعلمية فلا إشكال في ثبوت التخيير بينهما من جهة التقليد فيما إذا لم تعلم المخالفة بينهما و احتملت الموافقة في الرأي و الاعتقاد، و أمّا مع العلم بالمخالفة فالمعروف بين الأصحاب هو التخيير أيضاً، و ما قيل أو يمكن أن يقال في وجهه أُمور:

الأوّل: شمول إطلاقات أدلّة التقليد و حجيّة فتوى المجتهد ورائه لكلا المجتهدين و كلا الرأيين و النظرين، و نتيجته ثبوت التخيير بينهما.

و أُورد عليه بأنّ فساد هذا الوجه مستغن عن البيان؛ لأنّ إطلاق أدلّة الاعتبار لا يمكن أن يشمل المتعارضين؛ لأنّ شمولها لأحدهما من غير مرجح، و شمولها لهما معاً

______________________________

(1) التعبير بلا يجوز مطابق للطبعة الاولى من التحرير

و الشرح ناظر إليه، و في الطبعات الأخيرة التعبير يجوز.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 90

..........

______________________________

يستلزم الجمع بين النقيضين أو الضدّين «1».

و يمكن النظر في هذا الإيراد مضافاً إلى ما صرّح به المورد في آخر كلامه من ثبوت معنى معقول للحجّية التخييريّة. غاية الأمر عدم الدليل عليه في مقام الإثبات، فإنّ مرجع ذلك إلى إمكان شمول الدليل في ذلك المقام، فينافي دعوى عدم الإمكان في هذا المقام كما هو ظاهر «2» بأنّه لا مانع من شمول الإطلاقات بالنحو الذي سيأتي في البحث عن معنى الحجيّة التخييريّة «3».

الثاني: السيرة العقلائيّة الجارية على التخيير في مثل المقام فإنّهم لا يتوقّفون عن العمل بقول الطبيب مثلًا، و ترتيب الأثر عليه و لو علموا بالمخالفة بينه و بين طبيب آخر في كيفيّة العلاج أو في أصل تشخيص المرض، بل السيرة المتشرعيّة أيضاً جارية على ذلك؛ لأنّهم يرون أنفسهم مخيّرين عند تساوي أصحاب الآراء من الفقهاء و المجتهدين في العلم و الفضيلة.

و أُورد عليه بأنّ جريان سيرة العقلاء على التخيير مع العلم بالمخالفة ممنوع، و مثال الطبيب أقوى شاهد على ذلك، فإنّهم في مثله يحتاطون مع إمكان الاحتياط، أو يتوسّلون إلى وجود مرجّح لا محالة، و السيرة المتشرعيّة لم يحرز كونها متّصلة بزمان المعصومين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين إذ لم يصل إلينا وجود مثل ذلك في زمانهم، و لم يردع الأئمّة (عليهم السّلام) عنه حتى يكون ذلك كاشفاً عن الرضا و الإمضاء، و من الجائز أن تكون السيرة ناشئة من فتوى المفتين من الأصحاب بالتخيير.

و يمكن دفع هذا الإيراد بأنّ اتّصال سيرة المتشرّعة بزمانهم (عليهم السّلام) و رضاهم بذلك يستفاد من الإرجاع إلى أشخاص

متعدّدين، و رجوع المسلمين بأنفسهم إلى أصحابهم، مع العلم بتساوي جمع منهم في الفضيلة و ثبوت الاختلاف إجمالًا.

و بالجملة: بعد ما كان التقليد أمراً ثابتاً في زمن الأئمة (عليهم السّلام) كما تدلّ عليه الروايات الكثيرة «4»، لا مجال لدعوى اختصاصه بما إذا كان المفتي من الأصحاب

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 167.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 170.

(3) في ص 107 110.

(4) تقدّمت هذه الروايات في ص 74 79.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 91

..........

______________________________

محرز الأعلمية أو لم تعلم المخالفة بينه و بين غيره في الرأي و الاعتقاد، كما هو واضح.

فالإنصاف وجود السيرة المتشرعيّة على ذلك و اتّصالها بزمانهم بحيث يكون كاشفاً عن رضاهم، بل التأمّل في تلك الروايات من حيث السؤال و الجواب في بعضها يعطي مفروغيّة التخيير، فتأمّل.

الثالث: دعوى الإجماع على ثبوت التخيير في المسألة، و تؤيّدها الشهرة المحقّقة بين الأصحاب على ذلك.

و أُورد عليه بأنّه إجماع منقول بخبر الواحد و لا يمكن الاعتماد عليه، مع أنّ الاتّفاق غير مسلّم؛ لأنّ المسألة من المسائل المستحدثة، و لم يتعرّض لها الفقهاء في كلماتهم، بل لو فرض العلم باتّفاقهم أيضاً لا يمكن الاعتماد عليه؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى أحد الوجوه المذكورة في المسألة، فلا يكون كاشفاً عن موافقة المعصوم (عليه السّلام) «1».

و الجواب عن هذا الإيراد أنّ نقل الإجماع في المقام إنّما يكون على نحو تكون المسألة مورداً للتسالم بين الأصحاب، و أرسلها الناقل إرسال المسلّمات، و في مثل ذلك لا مجال لدعوى أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد لا يمكن الاعتماد عليه. و دعوى كون المسألة من المسائل المستحدثة غريبة جدّاً؛ لأنّها

عبارة عن خصوص المسائل التي لم يكن لها موضوع في الأزمنة السابقة، بل حدث موضوعها تكويناً في القرون المتأخّرة، و من المعلوم في المقام خلاف ذلك، و عدم تعرّض الفقهاء في كتبهم لا دلالة فيه على كونها كذلك؛ لأنّ عدم التعرُّض إنّما هو لوضوح الحكم في المسألة كما هو المرتكز في ذهن المتشرّعة، بحيث لا يحتمل واحد منهم خلاف ذلك، و احتمال الاستناد إلى أحد الوجوه المذكورة.

مع ما عرفت من جريان السيرة العقلائيّة على خلافه و كون إرسالها على نحو إرسال المسلّمات غير معتنى به.

فالإنصاف أنّه لا مجال للمناقشة في هذا الوجه بل هو العمدة في الباب.

الرابع: دعوى الإجماع كما في كلام بعضهم، على أنّ العامي لا يجب

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 168.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 92

..........

______________________________

عليه الاحتياط، بل يجوز له الاستناد دائماً إلى فتوى المجتهد مع وجوده.

و أُورد عليه بأنّه من الإجماع المنقول بخبر الواحد و هو ممّا لا اعتبار به، مع أنّه على تقدير تحقّقه و انعقاده لا يقتضي الالتزام بالتخيير؛ لأنّ عدم العمل بالاحتياط كما يجتمع مع ثبوت التخيير في المقام، كذلك يجتمع مع سقوط كلتا الفتويين عن الاعتبار، و اختيار العمل على وفق أحدهما من جهة تنزّل العقل إلى الامتثال الاحتمالي عند عجز المكلّف عن الامتثال الجزمي بمعنى عدم لزوم الاحتياط عليه و عدم ثبوت حجّة لديه و لو تخييراً «1».

الخامس: عموم الأخبار العلاجية «2» الواردة في الخبرين المتعارضين، الدالّة على ثبوت التخيير في المتكافئين، و فيما إذا لم يكن مرجّح في البين و شمولها للمجتهدين المتساويين، إمّا لأجل كون المقام من مصاديق موضوعها؛ لأنّ مرجع الفتوى إلى

الرواية. غاية الأمر أنّها رواية منقولة بالمعنى كما صرّح به المحدّث الجزائري (قدّس سرّه) في عبارته التي سيأتي نقلها «3»، و إمّا بدعوى إلغاء الخصوصيّة نظراً إلى أنّ الفتوى و إن كانت مغايرة للرواية إلّا أنّه لا خصوصيّة للخبرين المتعارضين في الحكم بالتخيير، بل يشمل تعارض مطلق الحجّتين المتكافئتين و لو لم تكونا خبرين، فتدلّ على ثبوت التخيير في المقام أيضاً.

و الجواب عن هذا الوجه أنّ دعوى كون الفتوى من مصاديق الرواية غاية الأمر أنّه رواية منقولة بالمعنى ممنوعة جدّاً، كما ستعرف في البحث عن جواز تقليد الميّت «4»، كما أنّ دعوى إلغاء الخصوصيّة أيضاً كذلك؛ لوضوح الفرق بين الفتوى و الرواية، فكيف يمكن تعميم الحكم بالتخيير الثابت فيها، خصوصاً مع كون الحكم في موطنه على خلاف القاعدة العقلية، المقتضية للتساقط في مورد التعارض و عدم وجود المرجّح.

مضافاً إلى أنّ لازم ذلك إعمال المرجّحات في ذلك الباب في المقام أيضاً،

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 171.

(2) الوسائل: 27/ 106 124، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9.

(3) في ص 169.

(4) في ص 168 169.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 93

..........

______________________________

فترجّح الفتوى المخالفة للعامّة مثلًا على الفتوى الموافقة لهم، و غير ذلك من المرجّحات، و من الواضح عدم ثبوت ذلك في باب الفتاوى و الآراء، فهذا الوجه غير صحيح.

السادس: خصوص موثّقة سماعة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمره و الآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه «1».

بتقريب أنّ مورد السؤال ليس الاختلاف

في مجرّد نقل الرواية، بل الاختلاف في الفتوى و النظر الناشئ من الاختلاف في الرواية، فإنّ التعبير بالأمر و النهي إنّما يناسب مقام الإفتاء و لا يلائم مع نقل الرواية، فإنّ الراوي بما هو راوٍ ليس له الأمر و النهي، فمورد الموثّقة اختلاف الفتوى و النظر، و سياق السؤال يعطي عدم ثبوت مزية في البين و اشتراك الرجلين في الجهات الموجبة للرجوع إليهما، كما لا يخفى، فالحكم بالسعة في الجواب المساوق للتخيير وارد في المقام.

و الجواب: أنّ مورد السؤال و إن كان ما ذكر إلّا أنّ الجواب لا دلالة فيه على التخيير بوجه، بل مرجعه إلى لزوم التأخير إلى أن يلقى من يخبره، و عدم ثبوت ضيق و استحقاق عقوبة عليه بالنسبة إلى التأخير حتى يلقاه، فدلالته على عدم الاعتناء بكلا الرجلين و عدم الأخذ بشي ء من النظرين و عدم ترتيب الأثر على الأمر و النهي أقرب من دلالته على التخيير، و الإنصاف أنّه لا يستفاد من هذه الرواية حكم المقام نفياً و إثباتاً.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ الحكم بالتخيير في المجتهدين المتساويين نظراً إلى الإجماع و ثبوت السيرة ممّا لا مجال للمناقشة فيه أصلًا.

نعم، يبقى الكلام في معنى الحجيّة التخييرية، فنقول:

ذكر بعض الأعلام في شرح العروة على ما في تقريراته أنّ الحجيّة

______________________________

(1) الكافي: 1/ 66 ح 7، الوسائل: 27/ 108، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 94

..........

______________________________

التخييرية ممّا لا يعقل في مقام الثبوت، و محصّل ما أفاده في وجهه أنّه يحتمل فيها وجوه أربعة:

أحدها: جعل الحجيّة التخييريّة بمعنى جعل الحجيّة على هذا و ذاك، و هو مستلزم للجمع

بين النقيضين أو الضدّين؛ لأنّ مرجعه إلى أنّ الشارع قد اعتبر المكلّف عالماً بالحرمة و عالماً بعدمها، أو عالماً بحرمة شي ء و عالماً بوجوبه، و لأجله لا تشمل أدلّة الحجيّة لشي ء من الفتويين.

ثانيها: جعلها بمعنى جعل الحجيّة على الجامع بين الفتويين؛ و هو عنوان أحدهما الذي هو عنوان انتزاعي، و هو أيضاً غير معقول في المقام و إن كان متصوّراً في غيره، و لأجله التزمنا في الواجبات التخييريّة بأنّ التكليف فيها إنّما تعلّق بعنوان «أحدهما» و أنّ الفعل المأتي به في الخارج فرد للواجب و مصداق له لا أنّه الواجب بنفسه.

وجه عدم المعقولية في خصوص المقام أنّ مرجعه إلى ما ذكرنا من اعتبار المكلّف عالماً بالنقيضين أو الضدّين و هو غير متصوّر. مضافاً إلى أنّه لو سلّم التصوّر في مقام الثبوت فلا ينبغي الترديد في عدم إمكانها بحسب الإثبات؛ لأنّ الأدلّة لا تساعدها بوجه؛ لأنّ مقتضاها حجيّة فتوى كلّ فقيه متعيّنة لا حجيّة إحدى الفتاوى.

ثالثها: جعلها بمعنى جعل الحجيّة على كلّ منهما مشروطاً بعدم الأخذ بالآخر، فيكون كلّ منهما حجّة تعيينيّة مشروطة بعدم الأخذ بالآخر، و هو أيضاً كسابقه، فإنّ مثل ذلك و إن كان متصوّراً في باب التكاليف؛ لأنّه من الترتّب من الجانبين، و هو يلازم في الجواز مع الترتّب من جانب واحد، إلّا أنّ ذلك في الحجيّة غير معقول؛ لأنّ لازمه اتّصاف كلّ منهما بالحجيّة الفعلية إذا ترك المكلّف الأخذ بهما معاً، لحصول شرط حجيّة كلّ واحدة منهما، و جعل الحجيّة على كلتيهما مستلزم للمحال كما ذكر.

رابعها: جعلها بمعنى جعلها على كلّ منهما مشروطاً بالأخذ به، و هذا أمر معقول

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 95

..........

______________________________

بحسب

مقام الثبوت، و لا يترتّب عليه المحذور المتقدّم، إلّا أنه لا دليل عليه في مرحلة الإثبات؛ لأنّ ما دلّ على حجيّة فتوى الفقيه لا يكون مقيّداً بالأخذ بها، و عليه فمقتضى إطلاقها و شمولها لكلتيهما هو الجمع بين النقيضين أو الضدّين كما عرفت «1»، انتهى ملخّصاً.

و يرد عليه مضافاً إلى عدم انطباق الدليل على المدّعى؛ لأنّ المدّعى هو عدم معقوليّة الحجيّة التخييريّة في مقام الثبوت بوجه، و الدليل المشتمل على بيان الاحتمالات يدلّ على ثبوت المعقولية في هذا المقام على بعض الوجوه و الاحتمالات، و هو الاحتمال الرابع كما صرّح به.

أوّلًا: أنّ عدم مساعدة الأدلّة بحسب مقام الإثبات مع تسليم التصوّر في مقام الثبوت إنّما يتمّ لو كان الدليل على الحجيّة التخييريّة هي الإطلاقات الواردة في أصل مسألة التقليد الدالّة على حجيّة الفتوى و جواز الرجوع إلى المفتي، و أمّا لو كان الدليل هو الإجماع القائم في خصوص المقام على التخيير، أو السيرة العملية الجارية عليه في مثل المقام فلا مجال لهذه الدعوى أصلًا و قد عرفت تماميّتهما «2»، و أنّ المستند للقول بالتخيير إنّما هو الإجماع و السيرة لا الإطلاقات.

و ثانياً: أنّه يمكن أن يقال بالفرق بين حال التعارض في مثل المقام و بين حاله في مثل الخبرين، نظراً إلى أنّ الطبيعة في حجيّة خبر الثقة إنّما أُخذت بنحو الوجود الساري؛ لأنّ كلّ فرد من أفراد طبيعة الخبر مشمول لدليل الحجيّة تعييناً، و يجب على المجتهد الأخذ به و تصديق مخبره و ترتيب الأثر عليه، و لأجله لا يعقل أن يكون كلّ من المتعارضين فيه حجّة كذلك، فلا مناص إلّا القول بعدم شمول دليل الحجيّة و إطلاقه لحال التعارض، و أمّا في المقام فحجيّة

قول الفقيه إنّما أُخذت بنحو البدلية.

ضرورة أنّه لا يعقل أن يجعل قول كلّ فقيه حجّة بنحو الطبيعة السارية و الوجوب التعييني حتى يكون المكلّف في كلّ واقعة مأموراً بأخذ قول جميع الفقهاء و ترتيب الأثر عليه، بل من الواضح أنّه إذا أخذ بقول واحد منهم فقد أطاع، و حينئذٍ فلا مانع

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 168 169.

(2) في ص 60 64، 103 105، 107.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 96

..........

______________________________

من دعوى إطلاق دليل الحجيّة و شموله لحال التعارض بخلاف الخبرين المتعارضين، حيث لا يعقل شمول الإطلاق لهما لما عرفت.

فانقدح من ذلك أوّلًا معنى الحجيّة التخييريّة في المقام، و أنّ مرجعها ليس إلى جعل الحجيّة بنحو يكون مشروطاً بالأخذ به، بل إلى الحجيّة البدلية المساوقة لجواز الأخذ بكلّ من الفتويين. و ثانياً عدم اقتضاء شمول الإطلاق لأن يقع فيه قيد «الأخذ» و شبهه، كما لا يخفى.

إذا عرفت ما ذكرنا يقع الكلام في أصل المسألة؛ و هي مسألة العدول، فنقول:

بعد ما ظهر لك ثبوت التخيير للعامي ابتداء تصل النوبة إلى البحث عن أنّ التخيير الثابت هل يكون تخييراً بدوياً فلا يجوز له العدول عمّن قلّده إلى الآخر المساوي له في الفضيلة، أم استمرارياً فيجوز له العدول عنه إليه؟ قولان، فالمحكي عن ظاهر التهذيب «1» و شرحه و الذكرى «2» عدم الجواز، و عن غير واحد دعوى الإجماع عليه «3»، و اختاره شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) في محكيّ رسالة الاجتهاد و التقليد «4»، و حكي التصريح بجوازه عن المحقّق و الشهيد الثانيين في الجعفرية و المقاصد العلّية تبعاً للمحكي عن النهاية، و اختاره المحقّق الأصفهاني (قدّس سرّه)

في رسالة الاجتهاد و التقليد و هو الظاهر، و قد استدلّ له بوجهين:

أحدهما: الإطلاقات؛ لأنّ ما دلّ على حجيّة فتوى المجتهد و جواز الأخذ بها غير مقيّد بما إذا لم يرجع إلى غيره، بل مقتضى إطلاقها الحجيّة و إن رجع إلى الغير و أخذ بفتياه.

و أورد عليه بعض الأعلام في شرح العروة على ما في تقريراته؛ بأنّه لا يعقل شمول الإطلاق للمتعارضين؛ لأنّه يستلزم الجمع بين المتنافيين، و لا يشمل أحدهما المعيّن لأنّه ترجيح بلا مرجّح، و لا أحدهما غير المعيّن لأنّ الحجيّة التخييريّة ممّا

______________________________

(1) تهذيب الوصول: 293/ 2.

(2) ذكرى الشيعة: 1/ 43 44.

(3) مستمسك العروة: 1/ 25، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 119.

(4) رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 86.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 97

..........

______________________________

لا تمكن المساعدة عليه «1».

و أنت خبير بأنّ البحث في هذه المسألة مسألة العدول إنّما هو بعد الفراغ عن أصل التخيير و ثبوته بدواً و معقولية الحجيّة التخييرية، ضرورة أنّه مع عدم المعقولية أو عدم مساعدة الأدلّة على أصل التخيير لا مجال للبحث عن كونه استمرارياً أو لا، فدعوى أنّ الحجيّة التخييريّة ممّا لا تمكن المساعدة عليه لا ارتباط لها بهذه المسألة، كما هو واضح.

نعم، يمكن المناقشة في التمسّك بالإطلاق في المقام بعدم كون المطلقات في مقام البيان من جهة الاستمرار و عدمه، بل إنّما هي بصدد إثبات أصل التخيير، و إن ذكر المحقق الأصفهاني (قدّس سرّه) في مقام دفع هذه المناقشة ما لفظه: الإنصاف أنّه يعني الإطلاق في المقام كسائر الإطلاقات التي يتمسّك بها في غير المقام، و احتمال تعيّن الحكم بمجرّد الأخذ بأحد الخبرين أو إحدى

الفتويين كسائر الاحتمالات التي لا يُعتنى بها في رفع اليد عن الإطلاق.

و الذي يقرّ به هو أنّه لا شبهة في إطلاق أدلّة الترجيح و التخيير لما إذا أُخذ بأحد الخبرين فيما إذا جاءه خبر فعمل به ثمّ جاءه آخر أرجح أو ما يعادله و يساويه، فكما لا شبهة في الحكم بالترجيح و التخيير هناك من دون احتمال الإهمال من حيث العمل بالخبر الأوّل فكذلك هنا، مضافاً إلى أنّ مصلحة التخيير كما في الخبر «2» هو التسليم لما ورد عنهم (عليهم السّلام)، و مصلحة التسليم لا تختص بحال دون حال كما أفاد شيخنا الأستاذ (قدّس سرّه) «3»، و نعم ما أفاد «4».

ثانيهما: و هو العمدة الاستصحاب نظراً إلى أنّ المكلّف كان قبل الأخذ بفتوى أحدهما مخيّراً بين الأخذ بهذا أو ذاك؛ لأنّ المفروض تساوي المجتهدين و حجيّة فتوى كلّ واحدٍ منها، فإذا أخذ فتوى واحد منهما و اختارها نشكّ في أنّ فتوى الآخر هل تكون باقية على حجيّتها التخييريّة، أو سقطت عن الاعتبار بسبب الأخذ بالأوّل، فيجري

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 120.

(2) الوسائل: 27/ 108، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 6 و ص 112 ذ ح 19 و ص 113 ح 21 و ص 121 ح 39.

(3) كفاية الأُصول: 508.

(4) بحوث في الأُصول، الاجتهاد و التقليد: 154 155.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 98

..........

______________________________

حينئذٍ استصحاب الحجيّة التخييريّة، و مقتضاه ثبوت التخيير في الآن اللاحق كما كان في الزمان السابق.

و ناقش في جريان هذا الاستصحاب بعض الأعلام في «شرح العروة» على ما في تقريراته من جهات لا بأس بذكرها على سبيل الإجمال، و

بيان ما يرد عليها من الإشكال ليتّضح بذلك الحال، فنقول و على اللّٰه الاتّكال-:

الجهة الاولى: أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب اتّحاد القضية المشكوكة و المتيقّنة، و لا يتحقّق هذا إلّا ببقاء الموضوع، مع أنّه لم يحرز بقاؤه في المقام؛ لأنّ الحكم بالتخيير إن قلنا: إنّ موضوعه من لم يقم عنده حجّة فعلية فلا شبهة في أنّ ذلك يرتفع بالأخذ بإحدى الفتويين؛ لأنّها صارت حجّة فعلية، فلا يبقى موضوع لاستصحاب التخيير، و إن قلنا إنّ موضوعه من تعارض عنده الفتويان، نظير من جاءه حديثان مختلفان الذي هو الموضوع للحكم بالتخيير في باب الخبر على القول به فهو لا يرتفع بالرجوع إلى إحدى الفتويين، فلو شكّ في بقاء الحكم بالتخيير و ارتفاعه لم يكن مانع من استصحابه بوجه، و لكن حيث إنّ الدليل في المقام إنّما هو الإجماع و السيرة و هما دليلان لبيان لا يبقى مجال لاستظهار أنّ الموضوع هل يكون على النحو الأوّل أو الثاني؟ و هذا بخلاف تعارض الخبرين، حيث استظهروا أنّ الموضوع للحكم بالتخيير فيهما من جاءه حديثان مختلفان و هو باق بعد الأخذ بأحدهما قطعاً، و أمّا المقام فأمر الموضوع دائر فيه بين ما هو مقطوع البقاء و ما هو مقطوع الارتفاع، و في مثله لا مجال للاستصحاب لا في الحكم لعدم إحراز بقاء موضوعه، و لا في موضوعه بوصف الموضوعيّة لرجوعه إلى استصحاب الحكم، و لا فيه بذاته لعدم الشكّ فيه لدورانه بين المقطوعين.

الجهة الثانية: أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى؛ لأنّ الاستصحاب على تقدير تماميّته إنّما يجري فيما إذا كانت الحالة السابقة هو التخيير و لا يجري فيما إذا كان

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد،

ص: 99

..........

______________________________

المجتهد الأوّل في زمان الأخذ بفتواه أعلم، فأراد الرجوع إلى الغير الذي كان دونه في الفضل ثمّ بلغ مرتبة الأوّل بحيث صارا متساويين، فإنّه حينئذٍ ليس للتخيير حالة سابقة حيي يستصحب، كما هو واضح.

الجهة الثالثة: أنّ هذا الاستصحاب من الاستصحابات الحكمية التي بيّنا في محلّه أنّها غير جارية للابتلاء بالمعارض دائماً.

الجهة الرابعة: أنّه لو سلّمنا جريان الاستصحاب في الأحكام أيضاً لم يكن مجال للاستصحاب في المقام لابتلائه بالمعارض، و هو استصحاب الحجيّة الفعلية للفتوى المأخوذ بها، و ذلك لأنّ المعنى المعقول من الحجيّة التخييريّة هو أن يكون أمر الحجيّة قد أوكل إلى اختيار المكلّف؛ بأن يتمكّن من أن يجعل ما ليس بحجّة حجّة بأخذه فتوى أحد المتساويين.

و هذا المعنى لا يكون مورداً للاستصحاب؛ لأنّ فتوى أحد المتساويين إذا اتّصفت بالحجيّة الفعلية من جهة أخذ المكلّف بها و شككنا في جواز الأخذ بفتوى المجتهد الآخر يجري فيها استصحابان متعارضان: أحدهما: استصحاب جواز الأخذ بفتوى المجتهد الآخر؛ لأنّه مسبوق بالجواز على الفرض، ثانيهما استصحاب حجّية ما اتّصف بالحجيّة الفعلية بالأخذ به، فاستصحاب بقاء التخيير معارض باستصحاب بقاء الحجيّة الفعلية فيما أُخذ به.

و ما عن الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) «1» من حكومة استصحاب التخيير على الاستصحاب الآخر فممّا لا يمكن المساعدة عليه؛ لعدم كون الحجيّة الفعلية من الآثار الشرعية المترتّبة على بقاء الحجيّة التخييريّة، بل من الآثار العقلية التي لا يترتّب على الاستصحاب بوجه.

ثمّ قال: و الصحيح أنّ استصحاب الحجيّة التخييريّة غير جار في نفسه؛ لأنّه بمعنى استصحاب الحجيّة الشأنية؛ أعني الحجيّة على تقدير الأخذ بها، و هو من

______________________________

(1) رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 87.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و

التقليد، ص: 100

..........

______________________________

الاستصحاب التعليقي و لا نقول به حتى إذا قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة في موارد الأحكام التخييريّة، و مع عدم جريان الاستصحاب إذا شككنا في حجيّة فتوى المجتهد الذي يريد العدول إليه لا مناص من الحكم بعدم حجيّتها؛ لأنّ الشكّ في الحجيّة يساوق القطع بعدمها «1».

أقول: و يرد على الجهة الأُولى:

أوّلًا: ما أفاده المحقّق الأصفهاني (قدّس سرّه) ما ملخّصه: أنّه لا بدّ من ملاحظة موضوع أدلّة التقليد اللفظية و غيرها، أمّا موضوع قضية الفطرة و الجبلة فهو الجاهل، و من المعلوم أنّه لم يرتفع جهله حقيقة بالرجوع إلى العالم بل هو على حاله، و إنّما صار منقاداً له فيما يراه، و كذا موضوع السيرة العقلائيّة، و أمّا آية النفر «2» فهي تدلّ على حجيّة الفتوى إذا كان التفقّه موقوفاً على إعمال النظر، و من الواضح أنّ مقابل الفقيه بهذا المعنى هو من ليس له قوّة إعمال النظر.

و أمّا آية السؤال «3» فموضوع وجوب السؤال و إن كان هو الجاهل في قبال العالم بالحكم الفعلي؛ لِما مرّ منّا من أنّ ظاهرها السؤال لكي يعلموا بالجواب لا بأمر زائد عليه، و بعد حصول العلم الشرعي بسبب الجواب لا موضوع لوجوب السؤال، و مقتضاه عدم جواز العدول لعدم دليل على تقليد الغير بعد تقليد الأوّل، إلّا أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه؛ لأنّ موضوع وجوب السؤال و إن كان هو الجاهل بذلك المعنى، لكن موضوع وجوب التقليد عملًا كان أو التزاماً هو العالم بعد السؤال، و لذا لو سأل شخصين من أهل الفتوى كان له العمل بفتوى أيّ واحد منهما، و هذا الموضوع باق بعد العمل، و إن لم يكن موضوع السؤال كذلك.

و أمّا مثل

قوله (عليه السّلام): «فللعوام أن يقلِّدوه» «4» فمن الواضح أنّ العامي في قبال ما فرضه مرجعاً و هو الفقيه، فحاله حال آية النفر إشكالًا و جواباً .. و أمّا عنوان المتخيّر و من ليس له طريق إلى مقصده و من لم يختر و من لم يأخذ بشي ء فكلّها عناوين انتزاعية باجتهاد منّا في تنقيح موضوع الحكم بالتخيير ببعض المناسبات لا دخل لها بما أُخذ

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 120 124.

(2) سورة التوبة: 9/ 122.

(3) سورة الأنبياء: 21/ 7.

(4) تقدّم في ص 74.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 101

..........

______________________________

شرعاً في موضوع الدليل «1».

و ثانياً: أنّه لو سلّم عدم إحراز الموضوع بالإضافة إلى دليل التخيير الذي هو الإجماع و السيرة فذلك لا يمنع عن جريان الاستصحاب، و ذلك لأنّه لو أُريد إجراء الاستصحاب في الحكم الكلّي الثابت بمقتضى الدليل فعدم إحراز الموضوع قادح في جريانه، و أمّا بعد انطباق الحكم الكلّي على مورد لأجل تحقّق موضوعه في ذلك المورد، فإذا شكّ في بقائه فيه فلا مانع من إجراء الاستصحاب في خصوص المورد الذي ثبت فيه الحكم.

مثلًا إذا دلّ الدليل على أنّ الماء المتغيّر أحد أوصافه بالنجاسة نجس، و شكّ في بقاء النجاسة في الماء الخارجي الذي زال تغيّره من قبل نفسه، و ارتفع فيه الوصف العرضي الحاصل من قبل النجاسة؛ فتارة يراد استصحاب الحكم الكلّي الثابت لعنوان «الماء المتغيّر» إذا شكّ في بقائه من جهة، فهذا لا يستقيم إلّا مع حفظ الموضوع و بقاء عنوان «الماء المتغيّر»، و أمّا إذا انطبق هذا العنوان على الماء الخارجي الموجود في حوض مخصوص، و صار ذلك الماء متّصفاً بالنجاسة

لصيرورته مصداقاً لذلك العنوان، فإذا شكّ في بقاء نجاسته لأجل زوال التغيّر من قبل نفسه و احتمال دخالة التغيّر فيه بقاءً كدخالته حدوثاً فأيّ مانع من جريان الاستصحاب بالإضافة إلى هذا الماء الخاص.

و لا وجه لدعوى عدم إحراز بقاء الموضوع بعد كون الموضوع للنجاسة هو نفس الماء الباقية بعد زوال التغيّر قطعاً، و في المقام أيضاً لا مانع من جريان استصحاب التخيير بالإضافة إلى شخص المقلّد، الذي كان الحكم بالإضافة إليه بمقتضى دليل التخيير و هو الإجماع و السيرة هو التخيير، و شكّ في بقائه من جهة احتمال كون التخيير بدوياً لا استمرارياً، فبمعونة الاستصحاب يثبت الاستمرار و يجوز له الرجوع إلى المجتهد الآخر، و إن كان قد رجع إلى المجتهد الأوّل كما لا يخفى.

______________________________

(1) بحوث في الأُصول، الاجتهاد و التقليد: 152 154.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 102

..........

______________________________

و على الجهة الثانية: أنّها و إن كانت واردة على إطلاق عبارة مثل «العروة» «1» إلّا أنّه لا وجه لورودها فيما هو المهمّ المفروض في المقام من تساوي المجتهدين ابتداء و استدامة.

و على الجهة الثالثة: أنّ الاستصحابات الحكمية أيضاً جارية بمقتضى دليل الاستصحاب، و التحقيق في محلّه.

و على الجهة الرابعة عدم ابتلاء استصحاب التخيير بالمعارض، لا لأجل عدم كون المعارض في رتبته و كونه محكوماً بالإضافة إليه، كما ادّعاه الشيخ المحقّق الأنصاري (قدّس سرّه) «2». بل لأجل أنّه ليس هنا إلّا استصحاب واحد؛ و هو استصحاب الحجّية الثابتة بنحو البدلية و صرف الوجود، ضرورة أنّه مع الرجوع إلى أحد المجتهدين لا تتبدّل عن البدلية و لا تتّصف بالفعلية، فإذا قال المولى: «أكرم رجلًا» فالواجب بمقتضى أمر المولى هو إكرام فرد من

طبيعة الرجل بنحو البدلية، فإذا أكرم زيداً مثلًا لا يصير إكرام زيد واجباً فعليّاً، بل هو على ما كان من الوجوب البدلي، و في المقام كان الثابت مجرّد الحجيّة البدلية، و الآن نشكّ في بقائها فتستصحب، و ليس هنا استصحاب آخر حتى يكون معارضاً له أو محكوماً بالإضافة إليه كما هو ظاهر.

ثمّ على تقدير وجود كلا الاستصحابين لا مناص عن الالتزام بما أفاده الشيخ (قدّس سرّه) من حكومة استصحاب التخيير على استصحاب الحجيّة الفعلية؛ لخصوص الفتوى المأخوذ بها، و ما أورده عليه من أنّ عدم الحجيّة الفعلية ليس من الآثار الشرعيّة المترتّبة على بقاء الحجيّة التخييرية، بل هو من الآثار العقلية التي لا تترتّب على الاستصحاب بوجه مخدوش؛ بأنّ عدم ترتّب الآثار العقلية إنّما هو فيما إذا كان المستصحب من الموضوعات الخارجية التي لها أحكام شرعية و لوازم عقلية أو عادية، و أمّا إذا كان المستصحب نفس المجعول الشرعي و الأثر المضاف إلى الشارع فلا محالة يترتّب على استصحابه جميع الآثار، لتحقّق موضوعها بتمامها، فيترتّب على استصحاب

______________________________

(1) العروة الوثقى: 1/ 6 مسألة 11.

(2) رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 87.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 103

..........

______________________________

وجوب صلاة الجمعة مثلًا وجوب الإطاعة و الموافقة الذي هو حكم عقلي.

و في المقام يكون التخيير المستصحب حكماً شرعياً قد دلّ عليه الدليل من الإجماع أو السيرة كما هو المفروض، فيترتّب عليه الآثار مطلقاً و لو كانت عقلية، و من جملتها عدم الحجيّة الفعلية لخصوص الفتوى المأخوذ بها، كما لا يخفى.

فانقدح من جميع ما ذكرنا الجواب عن الجهات الأربع و تماميّة استصحاب التخيير بالنحو الذي ذكرنا، و مقتضاه جواز العدول، و قد

مرّ أنّه هو العمدة في الباب «1» و المهمّ للقائل بالجواز.

و أمّا أدلّة القول بعدم جواز العدول:

فمنها: الاستصحاب، و تقريبه أنّه تارة تستصحب الحجيّة الفعلية الثابتة في حقّ المقلّد بالأخذ بفتوى المجتهد الذي عدل عنه، و أُخرى يستصحب الحكم الواقعي الذي استكشف من فتواه، حيث تكون طريقاً إليه و كاشفة عنه، و ثالثة يستصحب الحكم الظاهري المجعول عقيب كلّ أمارة و طريق، و منها فتوى الفقيه.

و الجواب: أمّا عن استصحاب الحجيّة فما عرفت من أنّه ليس هنا إلّا الحجيّة الثابتة بنحو البدلية، و استصحابها ينتج جواز العدول و عدم تعيّن فتوى المجتهد الأوّل، و أمّا الاستصحابان الآخران فسيأتي الجواب عنهما مفصّلًا إن شاء اللّٰه تعالى في مسألة البقاء على تقليد الميّت «2»، فانتظر.

و منها: أنّ جواز العدول يستلزم العلم بالمخالفة القطعية العملية في بعض المواضع، كما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب القصر على من سافر أربعة فراسخ و لم يرد الرجوع ليومه، و الآخر بوجوب التمام فيه فقلّد المكلّف أحدهما فقصّر ثمّ عدل إلى الآخر فأتمّ، فإنّه يستلزم العلم بتحقّق المخالفة و بطلان صلواته المقصورة أو غيرها إجمالًا، بل لو وقع ذلك في الصلاتين المترتّبتين كما في الظهرين مثلًا يعلم تفصيلًا ببطلان الثانية، إمّا لبطلانها من جهة نفسها، و إمّا لبطلانها من جهة بطلان

______________________________

(1) في ص 111.

(2) في ص 185 187.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 104

..........

______________________________

الأُولى و عدم ترتّب الثانية عليها.

و الجواب: أمّا أوّلًا: فبالنقض بموارد وجوب العدول، كما إذا فرضنا أنّ المجتهد الثاني يكون أعلم، أو أنّ الأوّل خرج عن صلاحيّة التقليد بموت أو جنون أو فسق مثلًا.

و أمّا ثانياً: فبعدم انطباق الدليل على المدّعى، فإنّ

المدّعى عدم جواز العدول و تعيّن المجتهد الأوّل، و اتّصاف فتواه بوصف الحجيّة فقط، و الدليل يدلّ على عدم جواز الاقتصار على مجرّد ترتيب الأثر على كلتا الفتويين، للزوم المخالفة العملية القطعية إجمالًا أو تفصيلًا.

فلقائل أن يقول بلزوم إعادة أعماله السابقة على طبق فتوى المجتهد الثاني حتى لا يلزم ذلك التالي الفاسد، كما أنّ القاعدة أيضاً تقتضي ذلك، إلّا أن يقوم دليل على صحّته و جواز الاجتزاء به، كحديث لا تعاد «1» في خصوص باب الصلاة، حيث يدلّ على عدم وجوب إعادتها في غير الخمسة المستثناة فيه، بناءً على عدم اختصاصه بالناسي، و التحقيق في محلّه كالتحقيق في باب القضاء من جهة كونه بأمر جديد، و من جهة موضوعه. و بالجملة فبطلان جملة من الأعمال و عدم جواز الاقتصار عليها لا يرتبط بمسألة جواز العدول و عدمه أصلًا.

و منها: دعوى الإجماع من المحقّق القمّي (قدّس سرّه) «2» على ما حكي عنه على عدم الجواز.

و الجواب عنها واضح.

و منها: قاعدة الاشتغال؛ لحكم العقل بالتعيين في موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير في مثل المقام، و هو مسألة الحجيّة، فإنّ فتوى المجتهد الأوّل حجّة قطعاً، و فتوى الثاني مشكوكة الحجيّة. و قد اشتهر أنّ الشكّ في الحجيّة مساوق

______________________________

(1) الفقيه: 1/ 181 ح 857، الوسائل: 4/ 312، كتاب الصلاة: أبواب القبلة ب 9 ح 1.

(2) قوانين الأُصول: 2/ 264.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 105

..........

______________________________

للقطع بعدمها.

و الجواب: أنّ هذه القاعدة إنّما تجري فيما إذا لم يكن هناك أصل شرعي مثبت للتخيير دالّ على ثبوت الحجيّة لمشكوكها، و قد عرفت جريان استصحاب التخيير و خلوّه عن جميع المناقشات «1»، و لأجل

هذه الجهة يفترق المقام عن المسألة الآتية؛ و هي جواز الرجوع عن الميّت على تقدير جواز البقاء على تقليده حيث إنّه لا يجري هناك استصحاب التخيير إلّا في بعض فروضه، كما إذا كان المجتهد الحي الذي يريد الرجوع إليه موجوداً في حياة المجتهد الميّت حينما أراد المكلّف الرجوع إليه و الأخذ بفتواه، و مع عدم جريانه كما في غير مثل هذا الفرض لا محيص عن الرجوع إلى قاعدة الاشتغال و حكم العقل بأصالة التعيين، و أمّا في مثل المقام من موارد جريان استصحاب التخيير فلا يبقى مجال لتلك القاعدة العقلية، كما هو واضح.

فانقدح من جميع ما ذكرنا جواز العدول إلى المجتهد الثاني، و إن كان مساوياً للأوّل في الفضيلة و العلم، و أنّ الحكم بعدم الجواز بنحو الاحتياط الوجوبي كما في المتن مبنيّ على قاعدة الاشتغال، و حكم العقل بأصالة التعيين في موارد دوران الأمر بين التخيير و التعيين أمّا مطلقاً أو في خصوص باب الحجيّة كما عرفت، و قد ظهر لك أنّه لا مجال للقاعدة إلّا في موارد عدم جريان استصحاب التخيير، و أنّه لا مانع من جريانه في المقام أصلًا. هذا كلّه في العدول إلى المجتهد المساوي.

و لو كان الثاني أعلم، فإن قلنا بقيام الدليل على تعيّن تقليد الأعلم فالظّاهر وجوب العدول إلى الأعلم، و إن قلنا بلزومه من باب قاعدة الاحتياط و حكم العقل بأصالة التعيين عند دوران الأمر بينه و بين التخيير فالظاهر جواز العدول دون وجوبه، و لأجله يجتمع الحكم بجواز العدول إلى الأعلم مع الحكم بلزوم تقليد الأعلم من باب الاحتياط كما في «العروة» «2». و أمّا سيّدنا العلّامة الأُستاذ الماتن دام ظلّه فيمكن الإيراد عليه بأنّه لا يكاد

يجتمع الحكم بعدم جواز العدول إلى المساوي بنحو الاحتياط اللزومي مع

______________________________

(1) في ص 111 117.

(2) العروة الوثقى: 1/ 6 مسألة 12.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 106

تقليد الأعلم

مسألة 5: يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط، و يجب الفحص عنه، و إذا تساوى المجتهدان في العلم أو لم يعلم الأعلم منهما تخيّر بينهما، و إذا كان أحدهما المعيّن أورع أو أعدل فالأولى الأحوط اختياره، و إذا تردّد بين شخصين يحتمل أعلمية أحدهما المعيّن دون الآخر تعيّن تقليده على الأحوط (1).

______________________________

الحكم بوجوب العدول إلى الأعلم كذلك، و كون أصل اللزوم أيضاً من باب الاحتياط اللزومي، كما سيصرّح به في المسألة الآتية.

توضيح الإيراد، أنّ هنا تجري قاعدتا الاشتغال و الاحتياط، إحداهما في مسألة العدول، و هي تقتضي عدم الجواز احتياطاً، و الأُخرى في مسألة تقليد الأعلم، و هي تقتضي تعيّنه كذلك، فإذا أراد العدول إلى خصوص الأعلم يكون مقتضى القاعدة الأُولى العدم، و مقتضى القاعدة الثانية لزوم العدول، و حيث لا مرجّح لإحداهما على الأُخرى فلا محيص عن الحكم بجواز العدول، و لا يبقى مجال لوجوبه كما في المتن، فتأمّل جيّداً.

(1) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في تعيّن تقليد الأعلم و عدمه.

فنقول: لا خفاء في أنّ هذه المسألة كأصل مسألة التقليد لا تكون تقليديّة، بمعنى أنّ الذي يحمل العامي على الرجوع إلى الأعلم حينما يريد التقليد و الرجوع إلى الغير ليس إلّا حكم عقله و إدراكه، و إلّا فالحامل له عليه ليس فتوى المجتهد بلزوم الرجوع إلى الأعلم للزوم الدور، فتأمّل. فإذا تعيّن عليه الرجوع إلى حكم عقله، فإن احتمل تعيّن تقليد الأعلم و اختصاص جواز الرجوع

به فلا مناص له عن الرجوع إليه؛ لدوران الأمر بين التعيين و التخيير، و حكم العقل بلزوم الاحتياط فيه و الأخذ بالذي يحتمل فيه التعيّن؛ لأنّه بالأخذ به لا يكون الضرر و العقاب محتملًا أصلًا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 107

..........

______________________________

و أمّا مع الرجوع إلى غير الأعلم يكون احتمال العقاب الذي هو الموضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موجوداً، فهذه القاعدة العقلية تحكم عليه بلزوم الرجوع إلى الأعلم.

و إن لم يحتمل تعيّن تقليد الأعلم، و لم يقع في ذهنه هذا الاحتمال أصلًا، بل حكم عقله بالتساوي فلا يكون هنا أيّ ملزم على الرجوع إلى الأعلم، بل يسوغ له أخذ فتوى غيره و الرجوع إليه فإن حكم بلزوم تقليد الأعلم فالواجب حينئذٍ بمقتضى فتواه العدول عنه إلى الأعلم، و إن لم تكن فتواه تعيّنه بل كان الرجوع إلى الغير جائزاً عنده، و بقي العامي على تقليده للتالي فلا مجال لمؤاخذته بوجه أصلًا، كما لا يخفى هذا بالنسبة إلى ما هو المستند للعامي و الحامل له.

و أمّا بالنسبة إلى ما يستنبطه المجتهد من الأدلّة الاجتهادية، فتارة يظهر له منها أحد طرفي المسألة من التعيّن و عدمه، و أُخرى لا يظهر له ذلك بل يبقى متردّداً شاكّاً.

فإن بقي متردّداً فاللازم الحكم بالتعيّن من باب الاحتياط اللازم، الذي يحكم به العقل عند دوران الأمر بين التعيين و التخيير في باب الحجيّة، ضرورة أنّه مع وجود الأعلم و احتمال تعيّنه تكون فتوى غير الأعلم مشكوكة الحجيّة، و الشكّ فيها يساوق القطع بعدمها، و منه يظهر أنّه لا مجال لقياس المقام على الدوران بين التعيين و التخيير في باب التكاليف، كما إذا دار الأمر بين

عتق خصوص الرقبة المؤمنة و التخير بينه و بين عتق الرقبة الكافرة، حيث إنّه مجرى البراءة، نظراً إلى أنّ أصل التكليف بالإعتاق معلوم، و الشكّ في كلفة زائدة و ضيق آخر و هو عتق خصوص الرقبة المؤمنة، فتجري البراءة العقلية الناشئة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان و المؤاخذة بلا برهان.

و ذلك أي وجه بطلان القياس ما عرفت من أنّ الشكّ في مثل المقام إنّما هو في اتّصاف فتوى غير الأعلم بالحجيّة، و ما لم يقم دليل عليها في هذا الحال نقطع بعدمها

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 108

..........

______________________________

و عدم ترتّب شي ء من آثار الحجيّة عليها، فالقياس مع الفارق. هذا حكم صورة الشكّ و التردّد.

و أمّا بالنظر إلى الأدلّة الاجتهادية فنقول إنّ للمسألة صوراً:

إحداها: ما إذا كانت فتوى الأعلم مخالفة لغيره و علمت المخالفة بين الفتويين.

ثانيتها: ما إذا علمت الموافقة بينهما.

ثالثتها: ما إذا لم تعلم الموافقة و المخالفة بينهما.

و ليعلم أنّ محلّ الكلام في جميع الصور إنّما هو ما إذا كان الأعلم مشخّصاً من غيره، و أمكن الرجوع إليه و الأخذ بقوله و تطبيق العلم على فتواه، فإنّه حينئذٍ وقع الخلاف في تعيّن فتواه للحجيّة و عدمه على قولين، و لا بدّ من التعرّض لما استدلّ به كلا الطرفين ليظهر ما هو الحقّ في البين، فنقول:

أمّا الصورة الأُولى: فقد استدلّ للقول بلزوم الأخذ بفتوى الأعلم فيها بوجوه:

الأوّل: دعوى الإجماع عليه، حيث ادّعاه صريحاً المحقّق الثاني (قدّس سرّه) في محكي حاشية الشرائع «1». و عن الذريعة لعلم الهدى (قدّس سرّه) أنّه من المسلّمات عند الشيعة «2». و عن صاحب المعالم هو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم «3». و

جعله في محكي التمهيد هو الحقّ عندنا «4». بل لم ينقل الخلاف في ذلك عمّن تقدّم على الشهيد الثاني (رحمه اللّٰه)، فإنّ التخيير و القول به إنّما حدث لجماعة ممّن تأخّر عنه، وفاقاً للحاجبي «5» و العضدي «6» و القاضي «7». و اختار التخيير أيضاً صاحب الفصول (رحمه اللّٰه) «8»، و بالجملة: فالظاهر اتّفاق من تقدّم عليه على تعيّن الأعلم للتقليد.

و الجواب عن هذه الدعوى واضح؛ لعدم صلاحيّة الإجماع المنقول للاستناد، خصوصاً مع ملاحظة كون المسألة خلافية، بحيث حكي عن «المسالك» أنّه نسب هذا القول إلى الأشهر «9» و هو مشعر بعدم كون القول الآخر متّصفاً بالشذوذ و الندرة، و مع

______________________________

(1) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 10/ 4.

(2) الذريعة إلى أُصول الشريعة: 2/ 325، و حكاه في الجواهر: 40/ 45.

(3) معالم الدين: 246.

(4) تمهيد القواعد: 321.

(5) راجع مختصر المنتهي: 2/ 309، شرح مختصر الأُصول: 484، المستصفى للغزالي: 2/ 391.

(6) راجع مختصر المنتهي: 2/ 309، شرح مختصر الأُصول: 484، المستصفى للغزالي: 2/ 391.

(7) راجع مختصر المنتهي: 2/ 309، شرح مختصر الأُصول: 484، المستصفى للغزالي: 2/ 391.

(8) الفصول الغرويّة: 423.

(9) مسالك الأفهام: 13/ 343.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 109

..........

______________________________

ذلك لا يبقى مجال لاستكشاف موافقة المعصوم (عليه السّلام)، خصوصاً مع قوّة احتمال أن يكون مستند المجمعين هو أحد الوجوه المذكورة لهذا القول، فالإجماع في مثل هذه المسألة لا أصالة له بوجه و لا اعتبار له أصلًا.

الثاني: أنّ مشروعيّة التقليد في الأحكام الشرعيّة إنّما ثبتت بالكتاب و السنّة و بغيرهما، و من المعلوم أنّ المطلقات الواردة في الكتاب و الأخبار لا تشمل المتعارضين، فإذا سقطت فتوى غير الأعلم عن الحجيّة بالمعارضة

يتعيّن الرجوع إلى الأعلم؛ للعلم بعدم وجوب الاحتياط، و كذا لو كان الدليل على المشروعيّة دليل الانسداد، فإنّه لا يمكن أن يستنتج منه جواز تقليد غير الأعلم؛ لأنّ النتيجة لا تكون كلّية، بل هي عبارة عن حجيّة فتوى عالم ما، و القدر المتيقّن فتوى الأعلم، و قد استدلّ بهذا الوجه بعض الأعلام في «شرح العروة» على ما في تقريراته «1».

و يرد عليه مضافاً إلى ما عرفت «2» من عدم امتناع شمول الإطلاقات للمتعارضين في مثل المقام ممّا كانت الحجيّة ثابتة بنحو البدلية و صرف الوجود لا بنحو الوجود الساري أنّه ليت شعري أنّه ما الفرق بين المقام و بين تعارض المجتهدين المتساويين في الفضيلة، حيث اختار هناك التساقط و وجوب الرجوع إلى الاحتياط مع إمكانه، و لم يعتن بما مرّ من قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على المكلّف العامي، و هنا اختار تعيّن الرجوع إلى الأعلم نظراً إلى العلم بعدم وجوب الاحتياط عليه.

الثالث: و هو العمدة استمرار السيرة العقلائيّة و استقرارها على الرجوع إلى العالم الذي له مزيّة على غيره في العلم و الفضيلة، و لتوضيحه لا بدّ من ملاحظة خصوصيّات ما هو المفروض في المقام؛ ليظهر تعيّن الأعلم لديهم للرجوع إليه و الانقياد له و الأخذ بقوله و تطبيق العمل عليه، فنقول:

لا بدّ من فرض المورد فيما إذا كان هناك عالم و أعلم، و أُحرز الاختلاف بينهما في الرأي و الاعتقاد و النظر و الفتوىٰ، و أمكن الوصول إلى الأعلم و الرجوع إليه و الأخذ بقوله، و كان المورد من الموارد الخطيرة التي

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 142.

(2) في ص 109 110.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

الاجتهاد و التقليد، ص: 110

..........

______________________________

لا مجال للمسامحة فيها بوجه، و لا للإغماض عنها من جهة، كما إذا كان المريض مشرفاً على الهلاك، بحيث يكون علاجه مؤثّراً في بقاء حياته و عدمه موجباً للاطمئنان بموته، ففي مثل هذا المورد لا خفاء في استمرار سيرتهم و جريانها على الرجوع إلى الطبيب المعالج الذي يكون أعلم من غيره في معالجة مثل هذا المرض، بحيث لو رجع واحد منهم إلى غيره فلم يتحقّق العلاج و مات المريض بسبب مرضه لا يكون معذوراً عندهم، و هذا بخلاف ما لو رجع إلى الأعلم فلم يؤثّر علاجه، فإنّه حينئذٍ يكون معذوراً بلا إشكال.

و بالجملة: لا مجال للمناقشة في أصل جريان السيرة العقلائيّة التي كانت هي الأساس في باب التقليد و رجوع العامي إلى المجتهد على تعيّن الرجوع إلى الأعلم مع حفظ الخصوصيّات المذكورة المفروضة في محلّ الكلام و مورد النقض و الإبرام، فإذا لم يثبت ردع الشارع عن هذه الطريقة في محيط الشريعة فلا بدّ من الالتزام بها و إعمالها فيها.

فالإنصاف أنّ هذا الوجه خال عن الإشكال لو لم يتمّ ما استدلّ به على عدم تعيّن تقليد الأعلم من الوجوه التي سيأتي التعرّض لها إن شاء اللّٰه تعالى «1»، ضرورة أنّه مع تماميّة واحد منها يتحقّق الردع و عدم الإمضاء، كما لا يخفى.

الرابع: أنّ فتوى المجتهد إنّما اعتبرت من باب الطريقيّة إلى الأحكام الواقعية، و من المعلوم أنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غيره؛ لسعة اطّلاعه و كثرة إحاطته بما لا يطّلع عليه غيره؛ من النكات و الدقائق و المزايا و الخصوصيّات، فلا محيص عن الأخذ به و الرجوع إليه دون غيره، فهذا الوجه مركّب من صغرى و كبرى.

و

قد أُجيب عنه بمنع الصغرى و الكبرى:

أمّا الصغرى، فلأنّ فتوى غير الأعلم ربما تكون أقرب؛ لموافقتها لفتوى من

______________________________

(1) في ص 134 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 111

..........

______________________________

هو أعلم منه من الأموات، أو من الأحياء غير الواجدين لشرائط جواز الرجوع إليهم من العقل و العدالة و شبههما، بل ربما تكون موافقة لفتاوى جملة من الأحياء الواجدين لها، فيكون الظنّ بها أقوى من الظنّ الحاصل من فتوى الأفضل.

و لكنّه دفع هذا الجواب المحقّق الأصفهاني (قدّس سرّه) في رسالته بما حاصله: أنّ الفتوى إذا كانت حجّة شرعاً أو عقلًا لأجل إفادة الظنّ، و أنّها أقرب إلى الواقع من غيرها فلا محالة ليس لأجل مطلق الظنّ بحكم اللّٰه تعالى، و لذا لا يجوز للعامي العمل بظنّه، بل لأجل أنّه خصوص ظنّ حاصل من فتوى من يستند إلى الحجّة القاطعة للعذر، فالحجّة شرعاً أو عقلًا هو الظنّ الحاصل من الفتوى لا الظنّ بما أفتى به المجتهد، و إن لم يحصل من فتوى المجتهد.

و عليه، فالفرق بين الأقربيّة الداخلية و الخارجية في كمال المتانة، مضافاً إلى أنّ مطابقة فتوى المفضول لفتوى الأفضل من الأموات و إن كانت تفيد ظنّاً أقوى من الحاصل من فتوى الأفضل، إلّا أنّه لا حجّيّة لفتوى الميت حتى يكون الظنّ الحاصل من مطابقة المفضول له حجّة أقوى، فمطابقته له كمطابقته لسائر الأمارات غير المعتبرة، كما أنّ مطابقة فتوى المفضول لفتاوى جملة من الأحياء لا تفيد ظنّاً أقوى، إذ المطابقة لتوافق مداركهم و تقارب أفهامهم و أنظارهم، فالمدرك واحد و الأنظار المتعدّدة في قوّة نظر واحد، و لا يكشف التوافق عن أقوائيّة مدركهم، و إلّا لزم الخلف لفرض

أقوائيّة نظر الأفضل من غيره.

و منه يظهر بطلان قياس المقام بالخبرين المتعارضين، حيث إنّ تعدّد الحكاية في واحدٍ منهما يوجب ترجيحه لعدم كونها بمنزلة حكاية واحدة «1».

و يمكن الإيراد عليه بأنّ غرض المجيب مجرّد إنكار الأقربيّة مطلقاً، بمعنى أنّ فتوى الأعلم لا تكون أقرب في جميع الموارد، و ليس الغرض إثبات أقربية غير الأعلم في بعض الموارد بنحو يعتمد عليه و يحتجّ به، فإثبات عدم حجيّة الأقربية الحاصلة

______________________________

(1) بحوث في الأُصول، الاجتهاد و التقليد: 53.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 112

..........

______________________________

بالإضافة إلى فتوى المفضول لا مدخل له فيما هو المهمّ.

و بالجملة: الغرض في هذا المقام مجرّد تحقّق الصغرى و عدمه، ضرورة أنّ الأقربية الحاصلة لفتوى الأعلم تكون حجّيتها أوّل الكلام، فالبحث ليس في مقام الاحتجاج بل في أصل وجود الأقربية و عدمها، فالفرق بين الأقربية الداخلية و الخارجية خارج عمّا هو المهمّ في البحث عن الصغرى، كما لا يخفى.

و أمّا الكبرى، فقد أجاب عنها المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) في الكفاية؛ بأنّ ملاك حجّية قول الغير تعبّداً و لو على نحو الطريقيّة لم يعلم أنّه القرب من الواقع، فلعلّه يكون ما هو في الأفضل و غيره سيّان، و لم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلًا. نعم، لو كان تمام الملاك هو القرب كما إذا كان حجّة بنظر العقل لتعيّن الأقرب قطعاً «1».

و قد اعترض على هذا الجواب المحقّق الأصفهاني (قدّس سرّه) بما حاصله: أنّه إن أُريد أنّ القرب إلى الواقع لا دخل له أصلًا فهو خلاف الطريقيّة، و إن أُريد أنّه ليس بتمام الملاك فغير ضائر بالمقصود؛ لأنّ فتوى الأفضل و إن ساوت فتوى غيره في بعض الملاك؛

لكنّها تترجّح عليها في بعضه الآخر و هو الأقرب إلى الواقع؛ لأنّه ليس المراد بالأعلم من هو أقوى معرفة بحيث لا تزول بتشكيك المشكّك، بل المراد به من كان أقوى نظراً في تحصيل الحكم من مداركه الشرعية و العقلية من حيث مبادئ تحصيله و كيفيّة تطبيقه على مصاديقه، فهو أكثر إحاطة بالجهات الموجبة لاستنباط الحكم من غيره، فالتسوية بينه و بين غيره ترجع إلى التسوية بين العالم و الجاهل «2».

و يرد عليه أنّ الأعلمية بالمعنى الذي أفاده إن كانت مؤثّرة في أصل الاستنباط و تحقّق الاجتهاد، كما ربّما يؤيّده تعبيره عن غيره بالجاهل الغافل عن الجهات الموجبة لاستنباط الحكم، فاللازم حينئذٍ عدم جواز تقليد غيره مطلقاً، و لو مع فقده و وجوب رجوعه إليه أيضاً كسائر العوام، و إن لم تكن مؤثّرة في أصله بل في حسن

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 544.

(2) بحوث في الأُصول، الاجتهاد و التقليد: 54 55.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 113

..........

______________________________

الاستنباط و جودته، فاللازم إقامة الدليل على مرجّحيّة حسن الاستنباط في مقام التقليد و رجوع العامي إليه، و ليس في كلامه (قدّس سرّه) ما يدلّ على ذلك.

فالإنصاف أنّ هذا الدليل المركّب من الصغرى و الكبرى ممّا لا يتمّ الاستدلال به بوجه أصلًا.

الخامس: طائفة من الروايات التي تمكن استفادة هذا الأمر منها:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة التي رواها المشايخ الثلاثة، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى أن قال: فإنْ كان كلّ واحد اختار رجلًا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرَين في حقّهما، و اختلفا فيما حكما، و كلاهما اختلفا في حديثكم؟ (حديثنا خ

ل) فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يُفضَل (ليس يتفاضل خ ل) واحد منهما على صاحبه؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من رواياتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا و يترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه إلى أن قال:- فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السنّة و خالف العامّة فيؤخذ به، و يترك ما خالف حكمه حكم الكتاب و السنّة و وافق العامّة.

قلت: جعلت فداك أ رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنّة، و وجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة و الآخر مخالفاً لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد. فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل؛ حكّامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات «1».

______________________________

(1) الكافي: 1/ 67 ح 10، الفقيه: 3/ 6 ح 18، التهذيب: 6/ 301 ح 845، الوسائل: 27/ 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 114

..........

______________________________

و في رواية الصدوق: «و خالف العامّة فيؤخذ به قلت: جعلت فداك وجدنا أحد الخبرين».

و المروي في الكافي إنّما هو صدر المقبولة «1»، المشتمل على النهي

عن التحاكم إلى الطاغوت و وجوب الرجوع إلى قاضي الشيعة، كما أنّ المروي في الفقيه إنّما هو ذيلها، المشتمل على السؤال عن اختلاف الحكمين إلى آخر المقبولة، و ليس التهذيب و الاستبصار موجودين عندي فعلًا حتى أراجعهما.

و قد أوضح تقريب الاستدلال بها المحقّق الرشتي (قدّس سرّه) في رسالته في مسألة تقليد الأعلم، قال بعد ذكر المقبولة: دلّت على تقديم قول الأفقه و الأصدق في الحديث على قول غيرهما عند الاختلاف في حكم اللّٰه تعالى.

لا يقال: المراد بالحكم هو فصل الخصومة بقرينة السؤال في منازعة الرجلين في دين و ميراث، فلا دلالة لها على تقديم فتوى الأفقه، لأنّا نقول:

أوّلًا: أنّ الظاهر عدم القول بالفصل بين الحكم و الفتوى، فكلّ من قال بتقديم حكم الأعلم قال بتقديم فتواه أيضاً إلى أن قال: فالظاهر أنّ إنكار هذا الإجماع مكابرة واضحة اعترف به شيخنا دام ظلّه العالي و هو كذلك. نعم، الظاهر أنّه لا عكس، فإنّ من يقول بوجوب تقليد الأعلم لعلّه لا يقول بوجوب المرافعة عند الأعلم، و إن كان الحقّ خلافه كما ستعرف.

و ثانياً: أنّ المراد بالحكم في الرواية ليس ما هو المصطلح عليه عند الفقهاء أعني القضاء، بل الظاهر أنّ المراد به المعنى اللغوي المتناول للفتوى، مثل قوله تعالى في غير موضوع وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ الآية «2». يدلّ على ذلك زيادة على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ الحكم قول الراوي: «و كلاهما اختلفا في حديثكم». فإنّ المتبادر كونه بياناً لاختلاف الحكم، و من الواضح أنّ الاختلاف في نفس القضاء ليس اختلافاً في الحديث.

نعم، الاختلاف في فتوى رواة عصر الإمام (عليه السّلام) اختلاف في الحديث، نظراً إلى

______________________________

(1) أي في الكافي: 7/

412 ح 5، و لكن في الكافي: 1/ 67 ح 10 تمام المقبولة.

(2) سورة المائدة: 5/ 45.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 115

..........

______________________________

اشتراك الفتاوى و رواياتهم في الاستناد إلى السماع عن الإمام (عليه السّلام) عموماً أو خصوصاً، فيكون الاختلاف في الفتوى اختلافاً في الحديث. و كذا يدلّ عليه قول الإمام (عليه السّلام): «الحكم ما حكم به .. أصدقهما في الحديث» فإنّ صِدق الحديث إنّما يناسب ترجيح الفتوى التي هي بمنزلة الحديث دون القضاء، و لا دلالة في منازعة المتحاكمين على كون المراد به القضاء؛ لأنّ المتنازعين ربّما ينشأ نزاعهما من جهة الاشتباه في الحكم الشرعي، فيرجعان إلى من يحكم بينهما بالفتوى دون القضاء، و الظاهر أنّ نزاع الرجلين كان من هذه الجهة لا من جهة الاختلاف في الموضوع، و مرجعه إلى الادّعاء و الإنكار، و إلّا لَما كان لاختيار كلّ منهما حكماً وجه، فإنّ فصل الخصومة حينئذٍ يحصل من حكم واحد.

ثمّ قال: و اعلم أنّ جمع الحكمين أو الحكّام في مسألة أو نزاعٍ يتصوّر على وجوه:

الأوّل: أن يكون المقصود من اجتماعهم صدور الحكم منهم أجمع.

و الثاني: أن يكون المقصود صدور الحكم من أحدهم، و يكون المقصود من حضور الباقين إعانتهم للحاكم في مقدّمات الحكم لئلّا يخطأ.

و الثالث: أن يكون الحكم مقصود الصدور من بعض، و من الباقين إنفاذ حكمه و إمضائه.

و لا ريب أنّ الغرض الغالب المتعارف من جمع الحكّام دائر بين الصورتين الأخيرتين، و أمّا الصورة الأُولى فبعيدة في الغاية، و لم يسمع وقوع ذلك في شي ء من الأزمنة، و لو حملنا الحكم في الرواية على الحكم المصطلح لم تكد تنطبق على شي ء من الصور. أمّا على الأخيرتين

فواضح؛ لأنّ صريح الرواية صدور الحكم من كلّ من الحكمين، و المفروض في هاتين الصورتين عدم صدور الحكم إلّا من أحدهما، و أمّا على الصورة الأُولى فمع ما فيه من تنزيل الرواية على فرض نادر ينافيه ما فيها بعد

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 116

..........

______________________________

ذكر المرجّحات. قال: «فقلت: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يُفضَّل واحد منهما على صاحبه، قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك» فإنّ الأمر بالنظر إلى مدرك الحكمين من الروايات و الأخذ بالمشهور لا يلائم تعارض الحكم المصطلح من وجهين:

أحدهما: أنّ شغل المترافعين ليس النظر في مدرك الحكمين و الاجتهاد في ترجيح أحدهما على الآخر إجماعاً.

الثاني: أنّه إذا تعارض الحكمان و لم يكن في أحد الحاكمين مزيّة على الآخر في شي ء من الأوصاف المزبورة فالمرجع حينئذٍ هو أسبق الحكمين، بل لا يبقى بعد صدور الحكم من أحد الحكّام محلّ لحكم الآخر، و لو حملت الرواية على ما إذا كان الحكمان قد صدرا دفعة واحدة فمع بعده و إمكان القطع بعدمه عادة، يدفعه أنّ الحكمين يتساقطان حينئذٍ، فلا وجه للأخذ بالمرجّحات «1» انتهى كلامه، نقلناه بطوله لاشتماله على فوائد.

و لكنّه يرد عليه مضافاً إلى أنّ فرض الشبهة حكمية، و جعل التنازع بين الرجلين في حكم كلّي شرعي لا يلائم مع كونهما غير مجتهدين، كما هو الظاهر من مفروض السؤال، فإنّ النزاع في الحكم الكلّي ليس من شأن العامي، بل وظيفته الرجوع إلى من يقلّده، و إلى أنّ حمل الرواية على الفتوى لا يناسب النظر في مدرك الفتوى، فإنّ العامي ليس من شأنه النظر في

مدرك فتوى المجتهد و لا يكون أهلًا لذلك، كما أنّه ليس للمترافعين النظر في مدرك الحكم و ترجيح أحد المدركين على الآخر.

أوّلًا: أنّ ظاهر الرواية كون مجموع الأوصاف الأربعة مرجّحاً واحداً لا خصوص كلّ واحد من الأعدليّة و الأفقهيّة و الأصدقية و الأورعية، و هو لا ينطبق على المدّعى من كون المزيّة مجرّد الأفقهية و الأعلمية.

و ثانياً: أنّ المزيّة المفروضة في المقبولة مجرّد الأعلمية و الأفقهية الإضافية؛

______________________________

(1) رسالة في تقليد الأعلم للمحقّق الرشتي: 31 35.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 117

..........

______________________________

يعني الأعلميّة بالإضافة إلى خصوص الطرف الآخر لا الأعلمية المطلقة التي هي المدّعى، ضرورة أنّ مجرّد الأعلمية الإضافية لا يكفي في ترجيح أحد المجتهدين على الآخر، كما هو واضح.

هذا كلّه مضافاً إلى الإشكال «1» في سند الرواية من حيث عدم كون الراوي و هو عمر بن حنظلة وارداً فيه مدح أو قدح، و اشتهارها بكونها مقبولة ليس بمثابة يمكن الغضّ عن سندها، فالاستدلال بها لتعيّن تقليد الأعلم على فرض ثبوت الدلالة غير خال عن الإشكال.

و منها: رواية داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال: ينظر إلى أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما، فينفذ حكمه و لا يلتفت إلى الآخر «2».

و منها: رواية موسى بن أكيل، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سأل عن رجل يكون بينه و بين أخ له منازعة في حقّ، فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما، فحكما فاختلفا فيما حكما، قال: و كيف يختلفان؟ قال: حكم كلّ واحدٍ منهما للذي

اختاره الخصمان، فقال: ينظر إلى أعدلهما و أفقههما في دين اللّٰه، فيمضي حكمه «3». و تقريب الاستدلال بهما و كذا الجواب يظهر ممّا ذكر في المقبولة.

و منها: ما في عهد مولانا أمير المؤمنين صلوات اللّٰه و سلامه عليه إلى مالك الأشتر من قوله (عليه السّلام): «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك» «4» حيث إنّ مفاده وجوب اختيار الأعلم للحكم الذي هو أعمّ من القضاء المصطلح، لشموله لمقام الفتوى.

و لكنّه يرد على الاستدلال به مضافاً إلى أنّ الحكم لو سلّم عمومه و عدم

______________________________

(1) و قد رجّحنا في بحث التعادل و الترجيح من الأصول صحّة سند الرواية فليراجع.

(2) الفقيه: 3/ 5 ح 17، التهذيب: 6/ 301 ح 843، الوسائل: 27 113، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 20.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، در يك جلد، دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم، قم - ايران، دوم، 1414 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد؛ ص: 117

(3) التهذيب: 6/ 301 ح 844، الوسائل: 27/ 123، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 45.

(4) نهج البلاغة: 600، كتاب 53، الوسائل: 27/ 159، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 12 ح 18.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 118

..........

______________________________

اختصاصه بالقضاء المصطلح، إلّا أنّه بملاحظة المورد لا ينبغي الارتياب في الاختصاص به، نظراً إلى أنّ تفويض أمر الحكم إلى الغير إنّما هو من جهة عدم سعة وقت الوالي للتصدّي لمقام القضاء؛ لكثرة اشتغاله بالجهات المتعدّدة الراجعة إلى إدارة المملكة و حفظ شئونها، و إلّا فمجرّد

الفتوى و بيان الحكم لا يضادّ مع سائر الاشتغالات كما هو واضح. و كذا قوله: «بين الناس» قرينة على عدم كون المراد بالحكم هو الحكم الكلّي الإلٰهي؛ لظهور هذا التعبير في الحكم الراجع إلى فصل الخصومة و النزاع الموجود بين الناس أنّ الرواية تدلّ على مرجّحيّة الأفضلية الإضافية غير الخارجة عن حدود رعيّته، و المدّعى في المقام كما مرّ آنفاً هي الأفضلية المطلقة.

و منها: ما حكي عن كتاب الاختصاص قال: قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): من تعلّم علماً ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو يصرف به الناس إلى نفسه يقول: أنا رئيسكم فليتبوّأ مقعده من النار، إنّ الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها، فمن دعا الناس إلى نفسه و فيهم من هو أعلم منه لم ينظر اللّٰه إليه يوم القيامة «1».

و مثل هذه المراسيل ممّا أسنده المرسل إلى المعصوم (عليه السّلام) من دون النسبة إلى الرواية و الحكاية، و إن كان لا يبعد القول بكونه حجّة فيما إذا كان المرسل مثل المفيد عليه الرحمة ممّن يعتمد على توثيقه و مدحه؛ لأنّ الإسناد إليه (عليه السّلام) عبارة أُخرى عن توثيق الوسائط و الاطمئنان بصدقهم و صدور الرواية عنه (عليه السّلام)، إلّا أنّ الظاهر أنّ محطّ النظر في الرواية إلى الرئاسة و الخلافة و التسلّط على الناس و أخذ أُمورهم باليد لا مجرّد المرجعيّة في الفتوى و أخذ مسائل الحلال و الحرام و معالم الدين منه، كما لا يخفى.

و منها: ما رواه أيضاً في محكي البحار [عن عيون المعجزات] عن الجواد (عليه السّلام)، أنّه قال مخاطباً عمّه: يا عم أنّه عظيم عند اللّٰه أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لم تفتي عبادي

بما لم تعلم و في الأُمّة من هو أعلم منك «2»؟

______________________________

(1) الاختصاص: 251، بحار الأنوار: 2/ 110.

(2) عيون المعجزات: 120، بحار الأنوار: 50/ 100.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 119

..........

______________________________

و لم يعلم كون المراد بالفتوى هي الفتوى المصطلحة، بل لا يبعد القول بأنّ المراد بها هي الخلافة الراجعة إلى دعوة الناس إلى نفسه مع ثبوت الأعلم بين الناس، مع أنّ سند الرواية لا يمكن الاعتماد عليه.

و قد انقدح من جميع ذلك أنّ الأدلّة التي استدلّ بها على تعيّن تقليد الأعلم كلّها مخدوشة إلّا السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إلى خصوصه، و قد تقدّم توضيحها «1».

و أمّا ما استدلّ به على عدم تعيّن تقليد الأعلم فوجوه أيضاً:

منها: التمسّك بإطلاق الأدلّة الواردة في جواز الرجوع إلى الفقيه، و حجيّة فتوى المجتهد من الآيات و الروايات «2» الدالّة على ذلك بنحو العموم، فإنّ مقتضاها أنّ موضوع الحجيّة هو إنذار الفقيه، و كون المجيب أهل الذكر، و كون الفقيه واجداً للأوصاف المذكورة في رواية الاحتجاج «3»، و إطلاقها يقتضي جواز الرجوع إلى كلّ من الأعلم و غيره مع صدق هذه العناوين من دون فرق بين صورة عدم العلم بالمخالفة بينهما و صورة العلم بها، كما لا يخفىٰ.

و الجواب بعد تسليم الدلالة على مشروعيّة التقليد و أصل حجّية فتوى المجتهد، حيث عرفت سابقاً المناقشة في ذلك إنّا و إن ذكرنا «4» أنّه لا مانع من شمول إطلاق أدلّة الحجيّة لصورة التعارض و فرض الاختلاف؛ لعدم كون الحجيّة المجعولة بنحو الوجود الساري و الطبيعة الصادقة على كلّ فرد، بل بنحو البدلية و صرف الوجود، و لا مانع حينئذٍ من الشمول للمختلفين، إلّا أنّ ذلك فرع

تماميّة الإطلاق و تحقّق شرائط التمسّك به، و وجود مقدّمات الحكمة التي عمدتها كون المتكلّم في مقام البيان، و ذكر جميع الخصوصيّات التي لها دخل في ترتّب الحكم و ثبوته.

و من الواضح عدم تحقّق هذا الشرط في الآيات؛ لوضوح أنّ آية النفر إنّما تكون بصدد بيان إيجاب النفر على طائفة من كلّ فرقة ليتفقّهوا في الدين و لينذروا

______________________________

(1) في ص 124 125.

(2) تقدّم ذكرها في ص 64 79.

(3) تقدّمت في ص 74.

(4) في ص 124.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 120

..........

______________________________

بعد الرجوع، و لازم ذلك و إن كانت هي الحجيّة، إلّا أنّها لا تكون بصدد إفادة الحجيّة المطلقة، الشاملة لصورتي وجود الأعلم و عدمه و فرضي التعارض و عدمه، و كذا آية السؤال، فإنّ غاية مفادها لزوم التداوي على الجاهل بالرجوع إلى العالم، و أمّا أنّ قول العالم حجّة مطلقاً و في جميع الموارد و الفروض فلا دلالة لها عليه بوجه.

و هذا نظير إلزام المريض بالرجوع إلى الطبيب، فإنّ النظر فيه إنّما هو بيان أنّ المريض إذا أراد الشفاء و التخلّص من مرضه يكون طريق ذلك هو الرجوع إلى الطبيب و ترتيب الأثر على قوله ورائه، و لا دلالة في هذا الكلام على لزوم تطبيق العمل على قوله، و لو مع وجود الأعلم منه و ثبوت الاختلاف بين النظرين و التعارض بين الاعتقادين.

و لعمري أنّ هذا من الوضوح بمكان، و هكذا الرواية العامّة المذكورة، فإنّ النظر فيها إنّما هو نفي جواز تقليد الفقيه غير المتّصف بالأوصاف المذكورة فيها، مثل علماء اليهود المرتكبين للمعاصي و المحرّمات، و أمّا أنّ كلّ فقيه واجد لتلك الأوصاف فهو جائز التقليد، سواء كان

الأفقه موجوداً أم لا، و التعارض بين الفتويين ثابتاً أم لا، فلا دلالة له عليه كما هو غير خفيّ، فالتمسّك بالإطلاق مخدوش من هذه الجهة.

و منها: و هو العمدة في الباب، الروايات الكثيرة الدالّة على أنّ الأئمة (عليهم السّلام) قد أرجعوا جماعة من الشيعة إلى جمع من أصحابهم؛ كزرارة، و يونس بن عبد الرحمن، و محمّد بن مسلم، و أبي بصير، و زكريا بن آدم، و غيرهم «1»، و التمسّك بهذه الطائفة من جهتين:

الجهة الأُولى: أنّ الإرجاع إلى غيرهم من الأصحاب مع وجود أنفسهم الشريفة بين الناس دليل على عدم تعيّن تقليد الأعلم، و إلّا لما جاز الإرجاع مع وجود أنفسهم كما هو ظاهر.

الجهة الثانية: أنّ الإرجاع إلى متعدّدين مع ثبوت الاختلاف بينهم من حيث

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 27/ 136 151، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 121

..........

______________________________

الفضيلة أوّلًا، و من حيث النظر و العقيدة ثانياً، كما هو الغالب فيهما دليل على عدم تعيّن تقليد الأعلم، و إلّا لكان اللازم الإرجاع إلى خصوص الأعلم من الأصحاب.

و الجواب: أنّ الظاهر عدم ثبوت الاختلاف بين الأصحاب و كذا بينهم و بين الإمام (عليه السّلام) في الرأي و الاعتقاد؛ لأنّا و إن قلنا بثبوت الاجتهاد و الاستنباط في زمن الأئمة (عليهم السّلام)، إلّا أنّه حيث تكون المدارك في ذلك الزمان معلومة غالباً؛ لعدم ثبوت الواسطة بينهم و بين أئمّتهم (عليهم السّلام)، فالاختلاف لا يكاد يتحقّق إلّا نادراً، و الإرجاع إنّما هو لأجل ذلك.

مضافاً إلى أنّ مفروض الكلام إنّما هي صورة وجود الأعلم و إمكان الوصول إليه و أخذ الفتوى منه، و هذا لا يتحقّق غالباً في

ذلك الزمان؛ لأنّ الوصول إلى الإمام (عليه السّلام) كان أمراً متعسّراً غالباً لأجل بعد الأمكنة و كثرة الفواصل و قلّة الوسائل، أو لأجل الجهات السياسيّة الموجبة للتقيّة و المحدوديّة، خصوصاً في بعض الأزمنة كما يشهد به التاريخ و غيره.

فالإنصاف أنّ هذه الطائفة من الروايات لا دلالة فيها على عدم تعيّن تقليد الأعلم فيما هو مفروض الكلام.

و منها: دعوى جريان سيرة المتشرّعة على الرجوع إلى المجتهد الواجد للشرائط من غير الفحص عن كونه متّصفاً بالأعلمية، و لو كان تقليد الأعلم متعيّناً لما جرت السيرة بهذه الكيفيّة.

و الجواب: مضافاً إلى أنّ هذه الصورة خلاف مفروض الكلام من صورة وجود الأعلم و غيره، و العلم بالاختلاف بينهما في الفتوى أنّ جريان السيرة بهذا النحو ممنوع جدّاً، و سيأتي البحث عن الفحص في المقام الآتي إن شاء اللّٰه تعالى «1».

و منها: أنّ وجوب تقليد الأعلم عسر على المكلّفين؛ لأجل عدم تشخيص مفهوم الأعلم أوّلًا، و عدم الطريق إلى تشخيص مصداقه ثانياً، و عدم إمكان الاطّلاع

______________________________

(1) في ص 145.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 122

..........

______________________________

على آرائه و فتاويه نوعاً ثالثاً.

و الجواب عنه: مضافاً إلى ما عرفت من أنّه خلاف ما هو المفروض في المقام أنّ مفهوم الأعلم في الفقه لا يغاير مفهومه في سائر الفنون و الصنائع و الحرف و العلوم، فإنّ المراد به ليس إلّا مَن كان أعلم بالقواعد التي يتركّب منها العلم، و أجود استنباطاً، و أحسن سليقة في تطبيق الكبريات على صغرياتها، و تشخيص المورد لها، فإنّ الأعلم في الطبّ مثلًا ليس إلّا من كان أعلم بقواعد هذا العلم، و أحسن في تشخيص المورد و تطبيق القاعدة عليه، فكذا في

علم الفقه.

غاية الأمر اختلاف علم الفقه مع سائر العلوم في كون قواعده محتاجة إلى الاستنباط و إعمال دقّة النظر؛ لعدم ابتنائه على الأُمور المحسوسة كأكثر العلوم، و هذا لا يوجب الخفاء في مفهوم الأعلم كما هو غير خفي، و تشخيص مصداقه ليس أشدّ حرجاً و أكثر صعوبة من تشخيص أصل الاجتهاد، و كون الرجل بالغاً إلى ذلك الحدّ، بل يثبت كلّ منهما بالعلم الوجداني و بالشياع و بالبيّنة، كما سيأتي البحث عند تعرّض الماتن دام ظلّه له «1» و الاطّلاع على رأي الأعلم، خصوصاً في مثل هذه الأزمنة التي تداول فيها جمع الفتاوى في رسالة، و طبعها و انتشارها ممكن كما هو ظاهر.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ مقتضى الدليل تعيّن تقليد الأعلم في الصورة الأُولى؛ و هي ما إذا علم الاختلاف بينه و بين غيره، و أنّ الدليل هو جريان سيرة العقلاء على الرجوع إلى الأعلم في الموارد الجامعة للخصوصيّات المفروضة في محلّ البحث و عدم ثبوت الردع عن هذه الطريقة في الشريعة؛ لِما عرفت من عدم تماميّة شي ء ممّا استدلّ به على عدم تعيّن تقليد الأعلم، فبقيت السيرة بلا رادع، و هو الدليل الوحيد في هذا الباب.

و قد عرفت «2» أنّه مع عدم دلالة الدليل يكون مقتضى حكم العقل بأصالة التعيين في دوران الأمر بينه و بين التخيير في باب الحجيّة هو تعيّن تقليد الأعلم أيضاً. غاية الأمر

______________________________

(1) في ص 216 و ما بعدها.

(2) في ص 122.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 123

..........

______________________________

أنّه لو كان الوجوب بنحو الفتوى يكون مقتضاه التعيّن في جميع الموارد و الفروض، و أمّا لو كان بنحو الاحتياط كما هو

مقتضى حكم العقل و مختار سيّدنا العلّامة الأستاذ الماتن دام ظلّه يكون لازمه عدم التعيّن في بعض الموارد.

ففي الحقيقة تترتّب ثمرة عملية على كون المستند في وجوب تقليد الأعلم هو الدليل أو حكم العقل بالاحتياط، و ذلك فيما إذا كان هناك مجتهد واحد قلّده المكلّف العامي في برهة من الزمان ثمّ وجد من هو أعلم منه، أو كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة اختار المكلّف واحداً منهما ثمّ صار الآخر أعلم، فإنّه إذا كان المستند في وجوب تقليد الأعلم هو حكم العقل و الاحتياط العقلي لما كان له أي لحكم العقل مجال في هذين الفرضين، فإنّ أصالة التعيين إنّما تجري فيما إذا لم يكن هناك أصل شرعي مثبت لجواز الأخذ بالطرف الآخر.

ضرورة أنّه مع جريان الأصل الشرعي لا يكون الأمر دائراً بين التعيين و التخيير حتى يحكم فيه العقل بالاحتياط و الأخذ بالمعين، مع أنّه في الفرض الأوّل يكون مقتضى الاستصحاب بقاء حجيّة فتوى المجتهد الأوّل الذي قلّده، فيجوز البقاء على تقليده و إن وجد من هو أعلم منه، و في الفرض الثاني يكون مقتضى الاستصحاب بقاء الحجيّة التخييريّة الثابتة قبل بلوغ الآخر إلى مقام الأعلمية، فيجوز البقاء على تقليد الأوّل.

و أمّا لو كان المستند هو الدليل و كان الوجوب بنحو الفتوى لما كان مجال للاستصحاب في الفرضين؛ لأنّه مع قيام الدليل على تعيّن تقليد الأعلم لا يجري الاستصحاب و لا غيره من الأُصول العملية، كما هو المحقّق في محلّه.

و قد اعترضنا سابقاً «1» على سيّدنا العلّامة الأستاذ الماتن دام ظلّه بأنّه لا يكاد يجتمع الحكم بلزوم تقليد الأعلم من باب الاحتياط مع الحكم بعدم جواز العدول إلى المساوي احتياطاً، و الحكم بوجوب العدول إلى

الأعلم كذلك، و ذكرنا أن مقتضى لزوم تقليد الأعلم احتياطاً هو جواز العدول إليه إذا كان مبنى عدم جواز العدول إلى

______________________________

(1) في ص 120.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 124

..........

______________________________

المساوي أيضاً هو حكم العقل، و مقتضى ذلك ترتّب ثمرة عملية أخرى على كون المستند في لزوم تقليد الأعلم هو الدليل أو حكم العقل بالاحتياط، فإنّه في الصورة الأُولى يجب العدول إلى الأعلم في الفرض المذكور، و في الصورة الثانية يجوز العدول إليه من دون أن يكون واجباً؛ لأنّ مبنى كلا الحكمين على الاحتياط و حكم العقل، من دون أن يكون هناك مرجّح في البين، فلا يبقى مجال إلّا للجواز كما لا يخفى. هذا تمام الكلام في الصورة الأُولى.

الصورة الثانية: ما إذا علمت الموافقة بينهما في الفتوى، و لا يترتّب في هذه الصورة على القول بتعيّن تقليد الأعلم ثمرة أصلًا؛ لما ستعرف من عدم لزوم الاستناد بوجه.

الصورة الثالثة: ما إذا لم تعلم الموافقة و المخالفة بينهما، و نقول: حكم هذه الصورة عند الشكّ و عدم دلالة الدليل على أحد الطرفين حكم الصورة الأُولى، ضرورة أنّ حكم العقل بالاحتياط يجري في هذه الصورة أيضاً، من دون فرق بينها و بين الصورة الأُولى. و أمّا مع ملاحظة الأدلّة فلا خفاء في أنّه لو لم نقل بتعيّن تقليد الأعلم في الصورة الأُولى لكان لازمه القول بعدم التعيّن هنا بطريق أولى، فالنزاع في هذه الصورة يختص بالقائل بالتعيّن في الصورة الأُولى، كما هو ظاهر، فنقول:

قد استدلّ على تعيّن تقليد الأعلم في هذه الصورة بما استدلّ به عليه في تلك الصورة من الأدلّة الكثيرة المتقدّمة «1»؛ من الإجماع و السيرة و الأقربية و الروايات

المتعدّدة من المقبولة و غيرها «2»، بدعوى أنّ مقتضاها عدم الفرق بين ما إذا كانت المخالفة بين الأعلم و غيره معلومة أو كانت مشكوكة، و عدم اختصاص تلك الأدلّة من حيث مفادها بخصوص صورة العلم بالمخالفة، فالصورتان مشتركتان من حيث الدليل.

أقول: أمّا ما عدا السيرة من تلك الأدلّة فقد عرفت عدم نهوضها على لزوم تقليد الأعلم في الصورة الأُولى فضلًا عن المقام؛ لما مرّ من المناقشة أو المناقشات فيها، و على تقدير تسليم صلاحيّتها للاستدلال بها في تلك الصورة لا مجال لدعوى شمولها

______________________________

(1) في ص 123 و ما بعدها.

(2) تقدّم ذكرها في ص 128 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 125

..........

______________________________

للمقام، فإنّ الإجماع لا إطلاق لمعقده يشمل المقام، بل القدر المتيقّن هي صورة العمل بالمخالفة و تحقّق الاختلاف، و الأقربية غير محرزة في المقام؛ لأنّها فرع المخالفة و هي مشكوكة، و المقبولة موردها صورة العلم باختلاف الحكمين و مستند الرأيين، و كذا ما يشابهها من الروايتين، فلا تغفل.

و أمّا السيرة، فالظاهر جريانها في المقام أيضاً، فإنّه إذا رجع المريض إلى الطبيب غير الأعلم مع وجود من هو أعلم منه، و إمكان الوصول و المراجعة إليه و احتمال الاختلاف بينهما في النظر و الرأي و كيفيّة المعالجة و التداوي، و كون المرض ممّا لا يجوز عند العقلاء التسامح فيه و في علاجه لكونه من الأمراض المهلكة، فإنّه مع ذلك إذا رجع إلى غير الأعلم و لم يؤثّر علاجه بوجه فهل يكون معذوراً عند العقلاء؟! و هل يصحّ الاحتجاج بمجرّد احتمال عدم اختلاف رأيه مع رأي الأعلم؟! الظاهر العدم، بل يستحقّ الملامة و التوبيخ، و لا يعدّ معذوراً

بوجه.

فالإنصاف أنّ السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إلى الأعلم في الصورة الأُولى موجودة في المقام. غاية الأمر أنّه لا بدّ من ملاحظة أدلّة القائل بعدم لزوم تقليد الأعلم في هذه الصورة، فإن تمّت تكون رادعة عن السيرة، و إلّا يكون عدم الردع كاشفاً عن الرضا و الإمضاء، كما استكشفناه في الصورة الأُولى.

و أمّا ما استدلّ به على عدم التعيّن في هذه الصورة فأمور:

الأول: إطلاقات الأدلّة القائمة على حجيّة فتوى الفقيه من الآيات و الروايات المتقدّمتين «1»، و قد خرجنا عنها في صورة العلم بالمخالفة، و بقيت صورة العلم بالموافقة و صورة الشكّ في المخالفة مشمولتين لها باقيتين تحتها، فمقتضى الإطلاقات حينئذٍ جواز الرجوع إلى غير الأعلم، كما هو ظاهر.

و قد نوقش فيه بأنّه لا مجال للتمسّك بالإطلاقات بعد خروج صورة العلم بالمخالفة؛ لأنّه من التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد، و هو كالتمسّك بالعام في الشبهة

______________________________

(1) تقدّم ذكرها في ص 64 79.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 126

..........

______________________________

المصداقيّة للمخصّص غير جائز، كما حقّق في بحث العام و الخاص من الأُصول.

و أُجيب عن هذه المناقشة بأنّ التمسّك بالعموم و كذا بالمطلق في الشبهة المصداقيّة و إن كان غير جائز، إلّا أنّ ذلك إنّما هو فيما إذا كان المخصّص أو المقيّد لفظياً، و أمّا إذا كان لبِّياً كما إذا كان الدليل عليه هو الإجماع أو حكم العقل فلا مانع عن التمسّك به، و الأمر في المقام كذلك، فإنّ صورة العلم بالمخالفة إنّما خرجت من المطلقات من جهة أنّ شمولها لها يستلزم الجمع بين الضدّين أو النقيضين، فالمخصّص إنّما هو حكم العقل، فلا مانع حينئذٍ من التمسّك بالعموم.

و أُورد على هذا

الجواب بأنّه لا فرق في عدم الجواز بين أن يكون المخصّص لفظيّاً أو لبِّياً؛ لأنّ التقييد و التخصيص يوجبان تَعنون المطلق و العام لا محالة بعنوان ما؛ لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت، و عليه لا يحرز أنّ العنوان المقيّد صادق على المورد المشكوك فيه.

و ربّما يقال: إنّ الصحيح في الجواب أن يُقال: إنّ المناقشة غير واردة في نفسها؛ لأنّ الشبهة و إن كانت موضوعيّة مصداقيّة، إلّا أنّ هناك أصلًا موضوعيّاً يحرز به أنّ المورد المشتبه من الأفراد الباقية تحت العموم، إذ لا فرق في إحراز الفردية بين أن يكون من طريق الوجدان أو بالتعبّد، و في المقام يجري استصحاب عدم المخالفة بين المجتهدين بالعدم الأزلي؛ لأنّ المخالفة أمرٌ حادث مسبوق بالعدم، نظير أصالة عدم القرشية في المرأة التي يشكّ في قرشيّتها، الحاكمة بدخولها تحت الأدلّة الدالّة على أنّ المرأة تحيض إلى خمسين، بل يمكن ذلك بالاستصحاب النعتي أيضاً؛ لأنّ المجتهدين كانا في زمان و لم يكونا مخالفين في الفتوى، و لو من جهة عدم بلوغهما مرتبة الاجتهاد، و مقتضى الأصل أنّهما الآن كما كانا سابقاً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 127

..........

______________________________

أقول: و في جميع ما ذكر نظر.

أمّا الاستدلال بالإطلاقات فيرد عليه ما مرّ منّا من أنّه ليس في هذا الباب إطلاق يصحّ الاحتجاج به و الاستناد إليه «1»؛ لعدم كون المطلقات في مقام البيان من هذه الحيثيّة، فلا مجال للتمسّك بها.

و أمّا المناقشة فيه بأنّه من قبيل التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد، فيرد عليها أنّ دعوى المستدل إنّما ترجع إلى أنّ الخارج من الإطلاقات خصوص صورة العمل بالمخالفة، و الشكّ في خروج صورة الشكّ إنّما هو من الشكّ

في تقييد زائد، و هو كالشكّ في تخصيص زائد لا يرجع فيه إلّا إلى الإطلاق.

و بعبارة أُخرى لو كان مدّعى المستدل راجعاً إلى أنّ الخارج هي صورة المخالفة الواقعيّة بين الفتويين لكان التمسّك في فرض الشكّ من ذلك القبيل، و أمّا مع صراحة دعواه في أنّ الخارج هي صورة العلم فلا مجال للمناقشة في دليله بكون التمسّك في صورة الشكّ إنّما هو من ذلك القبيل، و هذا كما لو كان الخارج عن عموم «أكرم العلماء» خصوص معلوم الفسق منهم، فإنّه مع الشكّ في تحقّق الفسق و عدمه و عدم ثبوت الحالة السابقة لأحد الطرفين لا محيص عن الرجوع إلى العام، كما هو واضح.

و أمّا الجواب عن المناقشة بأنّه إذا كان المخصّص لُبِّياً لا مانع من الرجوع، و المقام من هذا القبيل، فيرد عليه بأنّه لو سلّمنا أنّ الخارج عن المطلقات إنّما هي صورة المخالفة الواقعيّة، و التمسّك بها مع الشكّ في المخالفة من قبيل التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد؛ لكنّه نقول: إنّ خروج المخالفة ليس لأجل حكم العقل بلزوم اجتماع النقيضين أو الضدّين حتى يكون المخصّص لُبِّياً، فإنّه على هذا التقدير لا يبقى فرق بين صورة اختلاف المجتهدين في الفضيلة و تساويهما، بل لأجل خصوص

______________________________

(1) في ص 135.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 128

..........

______________________________

ما يدلّ على خروج صورة مخالفة المجتهدين مع اختلافهما في الفضيلة و دوران الأمر بين العالم و الأعلم.

و بعبارة أُخرى محلّ الكلام خروج صورة المخالفة في المقام لا مطلقاً، و من المعلوم كما مرّ أنّ الدليل على خروجها إنّما هو مثل المقبولة المتقدّمة «1»، و لا ينحصر بالأدلّة اللُّبيّة؛ لِما عرفت من الوجوه المتقدّمة

المتعدّدة الدالّة على تعيّن تقليد الأعلم مع العلم بالاختلاف «2»، فراجع.

و أمّا ما أُفيد أخيراً من إحراز الفردية بمعونة الأصل الموضوعي، فيرد عليه عدم تماميّته في المقام؛ لأنّ إجراء استصحاب عدم المخالفة نظير استصحاب عدم القرشية قد حقّقنا في الأصول عدم تماميّته؛ لعدم وجود الحالة السابقة، و إجراءه بنحو الاستصحاب النعتي أيضاً غير تامّ؛ لأنّ عدم الاختلاف في الفتوى قبل الاجتهاد أو الاستنباط إنّما هو بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، و مجرّد ثبوت الشخصين لا يصحّح النعتية بوجه، بل لا بدّ من ملاحظة وجود موضوع الاختلاف و هو الفتوى و النظر و الرأي و الاعتقاد، و ليس له حالة سابقة كما هو ظاهر. هذا، و قد عرفت الجواب عن أصل الاستدلال «3»؛ و هو منع الإطلاق كما مرّ.

الثاني: أنّ الأئمة (عليهم السّلام) قد أرجعوا عوام الشيعة إلى خواصّ أصحابهم؛ كزرارة و محمّد بن مسلم و يونس بن عبد الرحمن و زكريا بن آدم و أضرابهم، و هم على تقدير كونهم متساويين في الفضيلة، فلا أقلّ من أنّ بينهم الإمام (عليه السّلام)، الذي لا يحتمل فيه الخطأ و الاشتباه أصلًا، فالوجه في الإرجاع إنّما هو عدم معلوميّة الاختلاف بينهم و بينه (عليه السّلام).

و حينئذٍ نقول: إذا جاز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم الذي لا يجري فيه احتمال الخطأ عند عدم العلم بالاختلاف، فجوازه مع وجود الأعلم الذي يجري فيه هذا الاحتمال في هذه الصورة بطريق أولى.

______________________________

(1) في ص 128.

(2) في ص 123 و ما بعدها.

(3) في ص 135 و 143.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 129

..........

______________________________

و الجواب عنه ما مرّ سابقاً «1» من أنّ الظاهر أنّ الإرجاع إنّما هو

لأجل عدم الاختلاف بينهم و بينه لعدم الواسطة، لا لأجل عدم العلم بالاختلاف، مضافاً إلى أنّ الوصول إلى الإمام (عليه السّلام) لم يكن ميسوراً غالباً؛ لوجود موانع كثيرة و روادع متنوعة، و قد صرّح ببعضها في بعض روايات الإرجاع، كرواية الإرجاع إلى زكريا بن آدم، حيث يقول الراوي: شقتي بعيدة و لست أصل إليك في كلّ وقت «2». فلا مجال للاستدلال بهذه الروايات على حكم المقام.

الثالث: التمسّك بالسيرة العقلائيّة مع عدم العلم بالاختلاف.

و الجواب ما مرّ سابقاً «3» من أنّ السيرة قد استقرّت على الرجوع إلى الأعلم و لو مع الشكّ في المخالفة. غاية الأمر فيما إذا كانت الخصوصيّات التي ذكرناها محفوظة. فالإنصاف أنّه لا فرق في تعيّن تقليد الأعلم بين صورة العلم بالمخالفة و صورة الشكّ فيها أصلًا، و أنّ الدليل على التعيّن في المقامين واحد. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني: في وجوب الفحص عن الأعلم، و الدليل على الوجوب هو الدليل على وجوب الفحص عن المجتهد؛ لأنّه إذا لم يرد المكلّف العامي العمل على طبق الاحتياط الذي به يحصل القطع بالامتثال و تحقّق الفراغ عن عهدة التكاليف المعلومة بالإجمال، المنجّزة عليه بسبب هذا العلم، و أراد الاستناد إلى الحجّة و تطبيق العمل عليها، فلا بدّ له من الفحص عنها ليظفر بها، و كما أنّ فتوى المجتهد حجّة عليه مع الانفراد فيجب الفحص عنها، كذلك فتوى الأعلم حجّة عليه تعييناً، بناءً على تعيّن تقليده كما اخترناه، فيجب الفحص عنها، كما أنّ المجتهد يجب عليه الفحص عن الحجّة إذا لم يرد الاحتياط، و ممّا ذكرنا ظهر أنّ وجوب الفحص وجوب عقليّ إرشاديّ، و الغرض منه عدم وقوع المكلّف في معرض احتمال المخالفة المستتبعة

للعقوبة، كما هو واضح.

المقام الثالث: فيما إذا تساوى المجتهدان في العلم أو لم يعلم الأعلم منهما.

أمّا صورة إحراز التساوي فقد مرّ البحث عنها مفصّلًا في المسألة الرابعة المتعرّضة

______________________________

(1) في ص 136.

(2) اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشّي»: 595 ح 1112، الوسائل: 27/ 146، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 27.

(3) في ص 124 و 137.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 130

..........

______________________________

لبحث العدول.

و أمّا صورة عدم العلم بالأعلم منهما؛ بمعنى وجود الأعلم يقيناً بينهما و جريان احتمال الأعلمية في كلّ منهما، فالحكم فيها لا محالة هو التخيير؛ لثبوت الحجيّة لكلتا الفتويين و عدم مزية في البين؛ لجريان احتمال الأعلمية في كلا المجتهدين؛ لكنّه فيما إذ لم يكن المورد من موارد إمكان الاحتياط، إمّا لأجل عدم إمكانه بنفسه، و إمّا لأجل عدم سعة الوقت للجمع بين الفتويين، و أمّا إذا كان المورد من موارد إمكان الاحتياط فسيأتي البحث عنه في المسألة السادسة، و لا فرق بين أن تكون المخالفة بينهما معلومة أو مشكوكة.

نعم، لو كان هناك احتمال التساوي أيضاً يتحقّق فرق من جهة أنّه مع عدم هذا الاحتمال لا مجال لجريان استصحاب عدم الأعلمية بوجه؛ لأجل المعارضة و المخالفة للعلم الإجمالي بوجود الأعلم في البين، و معه لا مانع من جريانه من هذه الحيثيّة؛ لعدم وجود العلم الإجمالي، إلّا أنّه لا يترتّب عليه ثمرة؛ لأنّ الحكم بالتساوي الذي هو حكم العقل إنّما يكون موضوعه مجرّد جريان احتمال الأعلمية في كلا المجتهدين، فلا حاجة إلى إثبات التساوي بالاستصحاب، و هذا نظير حكم العقل بلزوم الإتيان بالواجب الذي شكّ في الإتيان به و تحقّق الفراغ عن عهدته، فإنّ مجرّد

الشكّ يكفي في حكم العقل بالاشتغال، و لا حاجة إلى إثبات عدم الإتيان بالاستصحاب كما هو غير خفيّ.

المقام الرابع: فيما إذا كان المجتهدان متساويين في العلم و لكنّه كان أحدهما المعيّن أورع أو أعدل، و قد حكم في المتن بأنّ الأولى الأحوط اختياره، و مرجعه إلى عدم تعيّنه؛ لعدم كون الاحتياط بنحو الوجوب، و لكنّه ربّما يقال: بأنّه يجب على المكلّف العامي اختياره، و أنّ الأورعيّة مرجّحة مثل الأعلمية، بل يظهر من العروة «1» قيام الدليل على مرجّحية الأورعيّة، و اقتضاء حكم العقل بالاحتياط مرجّحية الأعلمية و عليه فتكون الأورعيّة أقوى من الأعلمية، و كيف كان، فما يمكن أن يستدلّ به على مرجحيّة الأورعيّة أمور:

أحدها: المقبولة و ما يشابهها من الروايات الواردة في باب القضاء، الدالّة على

______________________________

(1) العروة الوثقى: 1/ 6 مسألة 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 131

..........

______________________________

الترجيح بالأورعيّة، ففي المقبولة: الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما «1».

و الجواب ما عرفت من ورودها في باب القضاء و فصل الخصومة «2»، و لم يقم دليل على أنّ كلّ ما هو مرجّح هناك فهو مرجّح في باب التقليد و الفتوى، و لا مجال لإلغاء الخصوصيّة بعد كون غرض الشارع في ذلك المقام هو فصل الخصومة و قطعها، بحيث لا يبقى نزاع بين المؤمنين الذين هم إخوة و يد واحدة، و لا مجال فيه للتوقّف أو التخيير أو أشباههما، و هذا بخلاف باب التقليد الذي مناطه رجوع الجاهل إلى العالم، و أخذ العامي بالحجّة فراراً عن الاحتياط اللازم بحكم العقل، و هذا لا ينافي التخيير بوجه.

مع أنّ ظاهر المقبولة كون الأوصاف الأربعة مرجّحة

في حال الاجتماع لا كون كلّ واحد مرجّحاً مستقلا فالاستدلال بمثل ذلك ممّا ليس له مجال.

ثانيها: دعوى الإجماع على أنّ العامي لا يجب عليه الاحتياط، بل يجوز له أن يستند في أعماله مطلقاً إلى فتوى من يجوز تقليده من المجتهدين.

و قد أُورد عليها بأنّ الإجماع المدّعى إن قلنا بأنّه تام في نفسه فلا مناص من أن تكون الأورعيّة مرجّحة في المقام؛ لأنّ العامي مكلّف بالرجوع إلى أحد المجتهدين المتساويين في الفضيلة، فإذا كان أحدهما أورع كما هو الفرض دار الأمر بين أن تكون فتوى كلّ منهما حجّة تخييريّة و أن تكون فتوى الأورع حجّة تعيينيّة، و قد مرّ أنّ الأمر في الحجيّة إذا دار بين التعيين و التخيير يجب الأخذ بما

______________________________

(1) تقدّمت في ص 128.

(2) في ص 98 99.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 132

..........

______________________________

يحتمل تعيّنه، و إن قلنا بأنّه غير تام كما هو كذلك فلا مجال لمرجّحيّة الأورعيّة أصلًا.

و يمكن الجواب عن هذا الإيراد بأنّ الإجماع على تقدير تماميّته لا يقتضي مرجّحيّة الأورعية، بل المقتضي لها كما ذكر إنّما هو حكم العقل بوجوب الأخذ بما يحتمل تعيّنه، فهذا الحكم العقلي لا ارتباط له بالإجماع، فإنّ غاية مفاده هو عدم وجوب الاحتياط، و هو يجتمع مع التخيير في المورد المفروض، إلّا أن يقال بتركّب الدليل من الإجماع على عدم وجوب الاحتياط، و حكم العقل بالتعيين عند الدوران بينه و بين التخيير، و عليه فيتّحد مع الدليل الثالث؛ لأنّ مبناه عدم وجوب الاحتياط.

ثالثها: و هو العمدة حكم العقل بلزوم الأخذ بما يحتمل تعيّنه عند دوران أمر الحجّية بين التعيين و التخيير، كما مرّ مراراً «1».

و ناقش في هذا الدليل

بعض المحقّقين بأنّ قياس الأورعيّة بالأعلمية قياس مع الفارق؛ لأنّ احتمال التعيين في الثاني مستند إلى أقوائيّة الملاك في الأعلم عن الملاك في غيره؛ لأنّ الملاك في حجّية الفتوىٰ و النظر هو العلم و الفقاهة، و أمّا الأوّل فاحتمال التعيين فيه مستند إلى أمر خارج عن الملاك، و لا يقتضي الأصل فيه التعيين؛ لتساويهما فيما هو ملاك الحجيّة الذي هو العلم، و مجرّد أورعيّة أحدهما لا دخالة فيه فيما هو الملاك أصلًا «2».

و يرد عليه: أنّه إن كان المراد من ذلك أنّه لا يجري احتمال الترجيح بالإضافة إلى الأورع بل يقطع بعدم المزية للأورعيّة نظراً إلى تساوي الملاك فيهما فهو خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّ المفروض صورة جريان هذا الاحتمال و عدم القطع بالعدم. و إن كان المراد أنّه مع جريان هذا الاحتمال نظراً إلى احتمال أن يكون الشارع قد جعل للأورع مزية و رجحاناً، و إن كان بحسب نظر العقلاء و ملاك سيرتهم لا دخالة فيه أصلًا؛ لأنّ الملاك عندهم مجرّد رجوع الجاهل إلى العالم من دون مدخلية لخصوصيّة أُخرى، إلّا أنّا نعلم بأنّ الشارع اعتبر بعض الخصوصيّات غير المعتبرة عند العقلاء؛ كالعدالة و الحريّة و الرجولية على خلاف في بعضها.

و حينئذٍ نحتمل أنّ خصوصيّة الأورعيّة كانت دخيلة في مقام الترجيح عند الشارع خصوصاً مع ملاحظة دخالتها في الترجيح في باب القضاء كما في المقبولة «3» و مع ذلك

______________________________

(1) في ص 122 و 138.

(2) بعض المحقّقين.

(3) تقدّمت في ص 128.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 133

..........

______________________________

لا يكون مرجّحاً عند ذلك البعض، فنقول: إنّه لا محيص حينئذٍ عن الأخذ بخصوص فتوى الأورع؛ لأنّها حجّة قطعاً و فتوى غيره

مشكوكة الحجيّة، فلم يبق فرق حينئذٍ بين المقام و مسألة تقليد الأعلم في المقام الأوّل.

فالإنصاف أنّ مقتضىٰ حكم العقل من باب الاحتياط بلزوم الأخذ بالمعيّن هو لزوم الأخذ بخصوص فتوى الأورع، كلزوم الأخذ بخصوص فتوى الأعلم. غاية الأمر قيام الدليل على التعيّن في الثاني، و اقتضاء أصالة التعيين العقلية له في الأوّل، عكس ما اختاره صاحب العروة (قدّس سرّه) «1»، و لا يعرف وجه لما أفاده ممّا مرجعه إلى أقوائيّة مرجّحيّة الأورعيّة بالإضافة إلى الأعلمية، كما أنّه لا وجه لما أفاده سيّدنا العلامة الأستاذ دام ظلّه لأنّ حكم العقل بالاحتياط في مسألة الأعلم يجري بعينه في هذه المسألة من دون فرق بينهما.

المقام الخامس: فيما إذا تردّد الأمر بين شخصين يحتمل أعلمية أحدهما المعيّن دون الآخر، و قد حكم في المتن بتعيّن تقليد محتمل الأعلمية على نحو الاحتياط اللزومي، و الحقّ كما أفاده؛ لدوران الأمر بين ما يكون مقطوع الحجيّة و بين ما يكون مشكوك الحجيّة، و قد مرّ «2» أنّ مقتضىٰ حكم العقل بأصالة التعيين عند دوران الأمر بينه و بين التخير في باب الحجّية هو الأخذ بالمعيّن؛ لأنّ الشكّ في الحجيّة يساوق القطع بعدمها، و عدم ترتّب شي ء من آثار الحجيّة عليه، و لا فرق فيما ذكر بين صورة إمكان الاحتياط و عدمه، و لا بين صورة العلم بالمخالفة و الشكّ فيها، و ذلك لما مرّ سابقاً «3» من عدم قصور أدلّة الحجيّة في مثل المقام عن الشمول للمتعارضين؛ لأنّ الحجيّة المجعولة إنّما هي بنحو البدلية لا الطبيعة السارية، و ما مرّ «4» أيضاً من عدم الفرق في تعيّن تقليد الأعلم بين ما إذا علم بالمخالفة أم لم يعلم بها، فلا فرق بناءً على

هذين المبنيين بين الموارد، و مقتضى حكم العقل في جميعها تعيّن الرجوع إلى محتمل الأعلمية.

نعم، ربما يقال بجريان استصحاب عدم الأعلمية بالإضافة إلى من يجري فيه

______________________________

(1) تقدّم في ص 124 و 137.

(2) في ص 122، 138، 148.

(3) في ص 109 110، 124.

(4) في ص 146.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 134

[إذا كان الأعلم منحصراً في شخصين و لم يتمكّن من تعيينه]

مسألة 6: إذا كان الأعلم منحصراً في شخصين و لم يتمكّن من تعيينه، تعيّن الأخذ بالاحتياط أو العمل بأحوط القولين منهما على الأحوط مع التمكّن، و مع عدمه يكون مخيّراً بينهما (1)

______________________________

احتمالها، فالحكم حينئذٍ هو التخيير؛ لما عرفت «1» من أنّ حكم العقل بأصالة التعيين إنّما هو فيما إذا لم يجر أصل شرعي مقتضٍ للتخيير، و عدم لزوم الأخذ بخصوص الطرف الواحد.

و قد نوقش في جريانه تارة بأنّه معارض باستصحاب عدم تحصيله قوّة مساوية لقوّة الآخر، نظراً إلى أنّ قوّة الاجتهاد إنّما تكون على نحو الكلّي المشكك، و يكون الاختلاف بين المصاديق بالشدّة و الضعف و الكمال و النقص، من دون أن يكون هناك تركّب في البين، بحيث تكون القوّة الكاملة مركّبة من القوّة الناقصة مع الزيادة حتى يكون أصل القوة معلومة و الزيادة مشكوكة يجري فيها الأصل، بل الاختلاف إنّما هو بما ذكر من الكمال و النقص، فاستصحاب عدم تحصيل القوّة الكاملة معارض باستصحاب عدم تحصيل القوّة الناقصة، للعلم الإجمالي بوجود احدى القوّتين و تحقّق احدى الملكتين. و أُخرى بأنّه مثبت؛ لأنّه لا يثبت به التساوي الذي هو الموضوع للحكم بالتخيير.

و يمكن الجواب عن هذه المناقشة بأنّ استصحاب عدم الأعلمية يكفي في نفي لزوم الأخذ بفتواه و عدم تعيّنه، و لا يلزم إثبات التساوي لعدم كون

التساوي فقط موضوعاً للحكم بالتخيير، فتدبّر.

(1) هذه المسألة تقييد لما أطلقه الماتن دام ظلّه في المسألة السابقة من الحكم بالتخيير فيما إذا لم يعلم الأعلم من الشخصين، و كان كلّ واحدٍ منهما محتمل الأعلمية، و مرجعها إلى أنّ التخيير المذكور هناك إنّما هو فيما إذا لم يتمكّن من الاحتياط، إمّا لأجل عدم إمكانه بنفسه، و إمّا لأجل عدم سعة الوقت للجمع بين الفتويين، أو الأخذ

______________________________

(1) في ص 139.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 135

[في وجوب تقليد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم]

مسألة 7: يجب على العامي أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم، فإنْ أفتى بوجوبه لا يجوز له تقليد غيره في المسائل الفرعيّة، و إن أفتى بجواز تقليد غير الأعلم تخيّر بين تقليده و تقليد غيره، و لا يجوز له تقليد غير الأعلم إذا أفتى بعدم وجوب تقليد الأعلم. نعم، لو أفتى بوجوب تقليد الأعلم يجوز الأخذ بقوله، لكن لا من جهة حجّية قوله بل لكونه موافقاً للاحتياط (1).

______________________________

بأحوطهما. و أمّا مع التمكّن من الاحتياط أو العمل بأحوط القولين منهما فالمتعيّن بمقتضى الاحتياط اللازم عقلًا هو الأخذ بالاحتياط أو العمل بأحوطهما، و ذلك لأنّ انحصار الأعلم في شخصين يوجب العلم الإجمالي بوجود الفتوى التي هي حجّة في البين، و هي فتوى الأعلم من المجتهدين، و حيث لا سبيل له إلى الوصول إليها تفصيلًا، و تطبيق العمل عليها كذلك، و المفروض تمكّنه من الأخذ بالاحتياط أو أحوط القولين، فلا بدّ له من الاحتياط المطابق للواقع قطعاً، أو الأخذ بأحوط القولين غير المخالف لفتوى الأعلم كذلك، و أمّا مع عدم التمكّن من شي ء منهما فلا مناص عن التخيير؛ لعدم ثبوت الترجيح في البين، و عدم

طريق له غير فتوى المجتهدين، كما هو ظاهر.

(1) البحث في هذه المسألة يقع في أُمور:

الأمر الأوّل أنّه يجب على العامي أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم، قد عرفت في المسألة السابقة المتعرّضة للبحث عن تقليد الأعلم أنّ مسألة وجوب تقليد الأعلم لا تكون تقليديّة كأصل مسألة التقليد «1»، بمعنى أنّ الذي يحمل العامي على الرجوع إلى الأعلم حينما يريد التقليد و الرجوع إلى الغير ليس إلّا حكم عقله و إدراكه، و إلّا فالحامل له عليه لا يكاد يمكن أن تكون فتوى المجتهد، و لو كان أعلم بلزوم الرجوع إلى الأعلم للزوم الدور، فتأمّل.

______________________________

(1) في ص 121.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 136

..........

______________________________

فإذا تعيّن عليه الرجوع إلى حكم عقله، فإن احتمل تعيّن تقليد الأعلم و اختصاص جواز الرجوع به فلا مناص له عن الرجوع إليه؛ لدوران الأمر بين التعيين و التخيير و حكم العقل بلزوم الاحتياط فيه بالأخذ بما يحتمل فيه التعيّن؛ لأنّه بالأخذ به لا يكون الضرر و العقاب محتملًا أصلًا، و أمّا مع الرجوع إلى غير الأعلم يكون احتمال العقاب الذي يكون هو الموضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موجوداً، فهذه القاعدة العقلية تحكم عليه بلزوم الرجوع إلى الأعلم. و إن لم يحتمل تعيّن تقليد الأعلم و لم يقع في ذهنه احتمال تعيّنه أصلًا، بل حكم عقله بالتساوي، فلا يكون هنا ملزم له على الرجوع إلى الأعلم، بل يسوغ له أخذ فتوى غيره و الرجوع إليه، كما هو ظاهر.

الأمر الثاني: إذا رجع بمقتضى حكم عقله إلى الأعلم فتارة يفتي الأعلم بوجوب تقليد الأعلم، و أُخرى يفتي بجواز تقليد غيره، ففي الصورة الأُولى لا يجوز له تقليد

غيره في المسائل الفرعيّة، بل يجب عليه تطبيق العمل على فتاواه في جميع المسائل، و لا وجه لجواز الرجوع إلى الغير في المسائل الفرعية أصلًا، كما هو واضح. و في الصورة الثانية يتخيّر بين الأخذ بفتاوى الأعلم في تلك المسائل و الأخذ بفتاوى غيره فيها، و لا يسمّى ذلك عدولًا حتّى لا يجوز قطعاً؛ لأنّه من العدول من الأعلم إلى غيره، بل الأصل في فتوى غيره و الأخذ بها إنّما هو تجويز الأعلم و فتواه، ففي الحقيقة يكون مقلّداً للأعلم و مستنداً إليه، فلا وجه لتحقّق العدول كما هو ظاهر.

الأمر الثالث: إذا رجع إلى غير الأعلم فتارة يفتي بعدم وجوب تقليد الأعلم، و أُخرى يفتي بوجوبه. ففي الصورة الأُولى إن كان مستند الرجوع إلى غير الأعلم هو حكم عقله بالتساوي و إدراكه عدم ثبوت المزية للأعلم بوجه فيجوز له تقليده في سائر المسائل و تطبيق العلم على فتاواه فيها، و إن كان الرجوع مع احتمال تعيّن الأعلم و ثبوت المزية له فلا يجوز له تقليده فيها و الأخذ بفتاواه في المسائل الفرعيّة؛ لِما عرفت من أنّه مع احتمال تعيّن الأعلم يكون مقتضى أصالة التعيين العقلية الجارية في دوران الأمر بين التعيين

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 137

جواز التبعيض في التقليد

مسألة 8: إذا كان مجتهدان متساويين في العلم يتخيّر العامي في الرجوع إلى أيّهما، كما يجوز له التبعيض في المسائل بأخذ بعضها من أحدهما و بعضها من آخر (1).

______________________________

و التخيير في باب الحجيّة هو الأخذ بقوله و الاستناد إلى فتاواه و تطبيق العمل عليها.

و في الصورة الثانية يجب الرجوع إلى فتاوى الأعلم و الأخذ بقوله، سواء كان ذلك مع احتمال تعيّن

الأعلم أم كان بدونه، أمّا إذا كان بدونه فلأنّ فتوى المجتهد غير الأعلم التي حكم العقل بحجّيتها و عدم ثبوت المزية لفتوى الأعلم هي وجوب الرجوع إلى الأعلم و الأخذ بقوله. نعم، بناءً على جواز العدول يمكن له أن يرجع إلى مجتهد آخر لا يفتي بوجوب الرجوع إلى الأعلم.

و أمّا إذا كان مع احتمال تعيّن الأعلم فلأنّ وجوب الرجوع إلى الأعلم ليس حينئذٍ لأجل فتوى غير الأعلم به، بل لأجل مطابقته للاحتياط اللازم عقلًا عن الدوران المذكور، فالأخذ بقوله ليس لأجل حجّية قول غير الأعلم، بل لأجل المطابقة المذكورة، فتأمّل.

(1) أمّا التخيير في التقليد فيما إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم و لم يكن لأحدهما مزية على الآخر مثل الأورعيّة، فقد تقدّم البحث عنه في المسألة الرابعة بما لا مزيد عليه، و ذكرنا هناك أنّ الحجّية التخييريّة مع كونها معقولة في مقام الثبوت بالمعنى الذي ذكرنا قام الدليل عليها من النصّ و الإجماع و السيرة في مقام الإثبات، من دون فرق بين ما إذا كانت المخالفة بينهما مشكوكة أو معلومة، فلا حاجة إلى إعادة هذا البحث.

و أمّا جواز التبعيض في المسائل و الرجوع إلى أحدهما في بعضها و إلى الآخر في البعض الآخر فلا ينبغي الإشكال فيه؛ لفرض حجيّة كلا الرأيين، و جواز الرجوع إلى كلا المجتهدين، و ليس الدليل على التخيير منحصراً بالإجماع حتى يناقش في شموله لصورة التبعيض بدعوى أنّ القدر المتيقّن منه التخيير في الرجوع بالإضافة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 138

..........

______________________________

إلى جميع المسائل لا التبعيض، هذا إذا كانت المسائل مختلفة لا ترتبط باجزاء علم واحد أو شرائطه.

و أمّا إذا كانت مرتبطة بها، كما

إذا قلّد أحدهما في عدم وجوب السورة في الصلاة، و الآخر في الاكتفاء بالتسبيحات الأربعة مرّة واحدة و صلّى بهذه الكيفيّة المركّبة من عدم السورة و التسبيحات مرّة واحدة، فهل يجوز التبعيض حينئذٍ و تكون صلاته صحيحة أم لا؟

ربّما يقال بأنّه إذا قلنا باختصاص جواز التخيير بين المجتهدين المتساويين بما إذا لم تعلم المخالفة بينهما في الفتوى فالتبعيض بهذه الكيفيّة أيضاً جائز، و أمّا إذا عمّمنا الجواز لصورة العلم بالمخالفة فلا يجوز التبعيض بالإضافة إلى مركّب واحد؛ لأنّ صحّة كلّ جزء من الأجزاء الارتباطية مقيّدة بما إذا أتى بالجزء الآخر صحيحاً، فمع بطلان جزء منها تبطل الأجزاء بأسرها، فإذا أتى بالصلاة مع الكيفيّة المذكورة و احتمل بعد ذلك بطلان ما أتي به لعلمه بمخالفة كلا المجتهدين فلا محالة يشكّ في صحّة صلاته و فسادها، و لا بدّ من أن يستند في ذلك إلى الحجّة المعتبرة، و المفروض عدمها؛ لبطلان الصلاة عند كلا المجتهدين، و إن اختلفا في مستند الحكم بالبطلان.

و يرد عليه:

أوّلًا: أنّ تجويز التبعيض بهذه الكيفيّة أيضاً بناء على الاختصاص غير واضح؛ لأنّ مجرّد عدم العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى و إن كان موجباً لجواز الرجوع إلى كلّ واحدٍ من المجتهدين، إلّا أنّ صحّة الصلاة لا بدّ و أن تكون مستندة إلى الحجّة المعتبرة القائمة عليها، و المفروض عدم إحرازها. غاية الأمر أنّ الفرق بينه و بين القول بالتعميم أنّه بناءً على الثاني يكون بطلان الصلاة عند كليهما معلوماً للمقلّد، و أمّا بناءً على الأوّل فلم يحرز حكم واحد منهما بالصحّة و إن لم يعلم الحكم بالبطلان أيضاً، و مجرّد ذلك لا يكفي، بل لا بدّ من إحراز الحكم بالصحّة كما هو ظاهر.

تفصيل الشريعة

في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 139

وجوب الاحتياط في زمان الفحص

مسألة 9: يجب على العامي في زمان الفحص عن المجتهد أو الأعلم أن يعمل بالاحتياط، و يكفي في الفرض الثاني الاحتياط في فتوى الذين يحتمل أعلميّتهم؛ بأن يأخذ بأحوط أقوالهم (1).

______________________________

و ثانياً: أنّ معنى صحّة العمل المركّب ليس إلّا اشتماله على الأجزاء المعتبرة فيه و الجهات المرعيّة وجوداً أو عدماً، فإذا فرضنا أنّه لا طريق له إلى تشخيصها غير الرجوع إلى العالم بها، و المفروض وجود عالمين متساويين لا يفضّل واحد منهما على الآخر، و ليس الحكم في مثله هو التساقط و الرجوع إلى أمرٍ آخر، فما المانع من الرجوع في تشخيص الأجزاء إلى كليهما، فيترك السورة استناداً إلى فتوى أحدهما بعدم الجزئيّة، و يترك الزائدة على الواحدة في التسبيحات الأربعة استناداً إلى فتوى الآخر بعدم لزوم الزائد، و لا وجه لاعتبار أن يكون المجموع محكوماً بالصحّة عند واحدٍ منهما، فإنّ الصحّة ليست إلّا عبارة عمّا ذكرنا، و لا معنى لعدمها بعد ثبوت التخيير في المتساويين و لو مع العمل بالمخالفة بينهما، فالأقوى بمقتضى ما ذكرنا جواز التبعيض بهذه الكيفيّة بناءً على القولين.

ثمّ إنّ التبعيض بمعنى الرجوع في كلّ واقعة إلى أحدهما، كأن يرجع في حكم صلاة الجمعة في جمعة إلى واحد، و في حكمها في جمعة أُخرى إلى آخر، يرجع إلى ما تقدّم البحث عنه مفصّلًا «1» من أن التخيير بين المجتهدين المتساويين هل يكون ابتدائيّاً أو استمرارياً، فعلى الأوّل لا مجال له، و على الثاني يكون التخيير مستمرّاً في كلّ جمعة، و قد مرّ أنّ مقتضى التحقيق هو الثاني «2».

(1) أمّا وجوب الاحتياط في زمان الفحص عن المجتهد أو الأعلم، فلِما مرّ

في المقدّمة من أنّه يحكم العقل بعد الالتفات إلى أصل التشريع، و حصول العلم بثبوت أحكام إلزاميّة كثيرة في الشريعة، و لزوم رعايتها و التعرّض لامتثالها؛ لعدم كون الناس مهملين في أُمورهم، مفوّضين إلى اختيارهم، مضافاً إلى التوعيد الثابت من الشرع قطعاً على ترك التعرّض بلزوم التخلّص عن ترتّب العقوبة و تحصيل المؤمن من العذاب، و هو

______________________________

(1) في ص 110 و ما بعدها.

(2) في ص 110 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 140

[في تقليد غير الأعلم]

مسألة 10: يجوز تقليد المفضول في المسائل التي توافق فتواه فتوى الأفضل فيها، بل فيما لا يعلم تخالفهما في الفتوى أيضاً (1).

______________________________

يحصل إمّا بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، و حيث لا يكون مجتهداً كما هو المفروض، و لم يتحصّل له فتوى المجتهد أو الأعلم؛ لأنّه بعد في زمان الفحص عن الحجّة و لم يصل إليها، فيتعيّن عليه الاحتياط حتى يتحقّق له الطريق الآخر، فيتخيّر بينهما كما لا يخفى.

و أمّا الاكتفاء في خصوص الفرض الثاني بالاحتياط في فتوى الذين يحتمل أعلميّتهم بالأخذ بأحوط أقوالهم فللعلم الإجمالي بوجوب الحجّة؛ و هي فتوى الأعلم بينهم، فالأخذ بأحوط أقوالهم يوجب الأخذ بقول الأعلم أيضاً، فلا يجب عليه الاحتياط المطلق الموافق للواقع قطعاً، بل يتخيّر بنيه و بين الأخذ بأحوط أقوالهم و هو ظاهر.

(1) قد ذكرنا في مسألة تقليد الأعلم «1» أنّ تعيّن الأعلم للتقليد و وجوب الرجوع إليه إنّما هو فيما إذا علمت المخالفة بينه و بين غيره في الفتوى، أو احتملت المخالفة. و أمّا مع العلم بالموافقة فلا مجال لتعيّنه للتقليد؛ لعدم ترتّب ثمرة عملية عليه إلّا على القول بلزوم الاستناد و وجوبه، كما قد حكي

عن بعض الأعاظم حيث ذكر: إنّ الحجج لا تكاد تتّصف بالحجيّة بوجودها الخارجي، و إنّما يكون اتّصافها بهذه الصفة فيما إذا استند المكلّف إليها في مقام العمل «2»، فإنّه على هذا التقدير يلزم على المقلِّد في مقام العمل أن يكون عمله مستنداً إلى فتوى الأعلم، التي هي الحجّة على ما هو المفروض، و لا مجال للاستناد إلى غير الأعلم بعد عدم كونه حجّة، فإذا استند إلى غير الأعلم و قلّده تصير فتوى الأعلم بلا استناد، فلا تكون حجّة، و فتوى غيره لم تكن حجّة من الأوّل على ما هو المفروض من تعيّن تقليد الأعلم، و لذا احتاط في العروة بعدم تقليد المفضول حتى في المسألة التي توافق فتواه فتوى الأفضل «3».

هذا، و لكن هذا القول و هو القول بلزوم الاستناد إلى الحجّة في مقام الامتثال-

______________________________

(1) في ص 138.

(2) حكاه في التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 114 عن أُستاذه.

(3) العروة الوثقى: 1/ 8 مسألة 18.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 141

..........

______________________________

لم يقم عليه دليل، و الاستناد لا دخالة له في الحجيّة و الأثر المترتّب عليها من التنجيز و التعذير، ضرورة أنّ الملاك في التنجيز بلوغ الحكم الواقعي إلى مرحلة استحقاق العقوبة على مخالفته، و انقطاع حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان، و المؤاخذة بلا برهان إنّما هو وجود الحجّة واقعاً و كونها في معرض الوصول، بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها، و لأجل ذلك اشتهر أنّ الاحتمال في الشبهات الحكمية قبل الفحص لا يكون مجرى أصالة البراءة و شبهها، و هكذا التعذير، فإنّ ما يصحّ أن يحتجّ به المكلّف في مقام المخالفة للتكليف الواقعي إنّما هو

وجود الحجّة المعتبرة و نهوضها على خلافه، بضميمة علم المكلّف به و عدم علمه بمخالفتها للواقع، و إن لم يستند إليه في مقام العمل و لم تكن مخالفته مستندة إلى نهوضها و ناشئة عن قيامها، كما لا يخفى.

هذا، مضافاً إلى أنّ ما أفاده بعض الأعاظم بظاهره مستلزم للدور، لأنّ الاتّصاف بهذه الصفة أي صفة الحجّية في الحجج إذا كان متوقّفاً على استناد المكلّف إليها في مقام العمل، و المفروض أنّ الاستناد أيضاً متوقّف على الحجيّة؛ لأنّه لا معنى للاستناد قبل تحقّق الاتّصاف و حصول وصف الحجيّة، فالاستناد متأخّر عن الحجيّة، فإذا كانت الحجيّة متأخّرة عن الاستناد أيضاً يلزم الدور المحال لا محالة، فتأمّل.

هذا كلّه بالإضافة إلى المسائل التي يعلم توافق الأفضل و المفضول فيها.

و أمّا فيما لا يعلم توافقهما في الفتوى فقد حكم سيّدنا العلّامة الأستاذ الماتن دام ظلّه بجواز الرجوع إلى المفضول فيها أيضاً، و لكنّك عرفت في مسألة تقليد الأعلم «1» أنّ الدليل القائم على تعيّن تقليد الأعلم في صورة العلم بالمخالفة بينه و بين غيره في الفتوى و هي السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إليه الحاكمة بتعيّنه بضميمة عدم الردع من الشارع، الكاشف عن الرضا و الإمضاء قائم على تعيّنه في صورة الشكّ في الموافقة و المخالفة أيضاً، فالإنصاف أنّ هذه الصورة ملحقة بصورة العلم بالمخالفة لا بصورة العلم بالموافقة، فتدبّر.

______________________________

(1) في ص 140 141.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 142

[في ما إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل]

مسألة 11: إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل يجوز الرجوع في تلك المسألة إلى غيره مع رعاية الأعلم فالأعلم على الأحوط (1).

______________________________

(1) و الدليل على جواز الأخذ من غير الأعلم مع عدم

ثبوت الفتوى له أنّ مبنى التقليد هو رجوع الجاهل إلى العالم، كما مرّ مراراً «1»، و مبنى تعيّن الرجوع إلى الأعلم أنّه إذا قيس رأيه مع رأي غيره و لوحظت فتواه مع فتوى غيره يكون هو الحجّة لقيام ما مرّ من الدليل عليه «2»، و من الواضح أنّ تحقّق كلا الملاكين إنّما هو فيما إذا كان للأعلم رأي و نظر، و أمّا مع عدم الرأي لِما يأتي من الجهة الموجبة للعدم فلا وجه لأخذ الفتوى منه؛ لعدم ثبوت الفتوى له أصلًا، كما أنّه لا مانع من الرجوع إلى غيره الذي يصدق عليه عنوان الفقيه و أهل الذكر و أشباههما؛ لعدم الترجيح حينئذٍ بعد عدم ثبوت الفتوى و عدم تحقّق النظر.

ثمّ إنّ عدم ثبوت الفتوى للأعلم إن كان لأجل عدم وروده في المسألة و عدم استنباط حكمها من جهة عدم كونها مورداً لابتلائه، أو احتياطه فيها على تقدير الابتلاء، فهذا لا ريب في جواز الرجوع إلى الغير فيه؛ لكونه بالإضافة إلى هذه المسألة لا يتّصف إلّا بالجهل، و لا يعدّ الرجوع إليه من رجوع الجاهل إلى العالم أصلًا.

كما أنّه لو كان عدم ثبوت الفتوى لا لأجل عدم الورود فيها رأساً، بل لأجل احتياجها إلى مزيد تتبّع و تفحّص، أو تحقيق و تأمّل كما ربّما يتّفق بالإضافة إلى بعض المسائل فلا ريب أيضاً في جواز الرجوع فيه إلى الغير ما دام لم يتحقّق منه التتبّع أو التأمّل؛ لعدم اتّصافه بكونه عالماً قبل ذلك.

و أمّا لو كان عدم الفتوى مستنداً إلى عدم تماميّة أدلّة الطرفين أو الأطراف في المسألة، أو ثبوت التعارض و التكافؤ فيها بحيث لا محيص من الرجوع إلى الاحتياط بمقتضى حكم العقل، كما إذا رأى

تعارض الأدلّة و عدم ثبوت الترجيح بينها فيما إذا

______________________________

(1) في ص 60، 87، 92.

(2) في ص 121.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 143

..........

______________________________

سافر إلى أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه، بحيث لا مجال عنده إلّا للاحتياط على ما هو مقتضى حكم العقل في موارد العلم الإجمالي بثبوت التكليف، و عدم دليل على جواز الأخذ بأحد الطرفين أو الأطراف و لو على سبيل التخيير، فالظاهر عدم جواز الرجوع حينئذٍ إلى الغير الذي تكون فتواه تعيّن أحدهما أو أحدها أو التخيير.

و ذلك لأنّ مستند رأي غير الأعلم حينئذٍ يكون باطلًا بنظر الأعلم مخدوشاً عنده، غير قابل للاستناد إليه و الحكم على طبقه، و هذا أمرٌ يكون للأعلم فيه النظر و الرأي، حيث إنّه يرى ذلك، فلا مجال حينئذٍ للحكم بجواز الرجوع إلى غيره.

و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّ ما اشتهر من جواز الرجوع إلى غير الأعلم في الاحتياطات الوجوبيّة المطلقة للأعلم ليس بتمام على إطلاقه، بل إنّما يجوز ذلك في خصوص ما إذا كان منشأ الاحتياط الوجوبي عنده عدم تماميّة الاستنباط عنده و عدم كماله لديه، لا ما إذا كان المنشأ عدم تماميّة الأدلّة أيضاً.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ عدم تماميّة الدليل عند الأعلم لا يوجب بطلان الحكم و فتوى الغير عنده، ضرورة أنّه مع ثبوت البطلان لا يبقى مجال للاحتياط، بل يوجب عدم صلاحيّته للاستناد مع احتمال كون الحكم الواقعي مطابقاً لمدلوله، و عليه فلا وجه لما ذكر من ثبوت الرأي للأعلم، فإنّه لا رأي له أصلًا، بل يمضي على طبق الاحتمال، و يجري على ما هو مقتضى حكم العقل من الاحتياط.

و بعبارة واضحة ما يجري فيه التقليد

إنّما هو النظر و الرأي بالإضافة إلى الحكم الإلٰهي، و المفروض عدم ثبوته بالنسبة إلى الأعلم، و عدم صلاحيّة الدليل للاستناد لا يصيّره ذا فتوى و صاحب النظر و الرأي فيما يجري فيه التقليد، لِما ذكرنا من أنّ بطلان الاستناد لا يوجب بطلان الحكم و الفتوى، و إلّا لا يبقى مجال للاحتياط، و عليه فيبقى ما اشتهر من جواز الرجوع إلى غير الأعلم في الاحتياطات المطلقة على إطلاقه، و لا يتحقّق فرق بين

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 144

[موارد وجوب العدول إلىٰ مجتهد آخر]

مسألة 12: إذا قلّد من ليس له أهلية الفتوى ثمّ التفت وجب عليه العدول، و كذا إذا قلّد غير الأعلم وجب العدول إلى الأعلم على الأحوط، و كذا إذا قلّد الأعلم ثمّ صار غيره أعلم منه على الأحوط في المسائل التي يعلم تفصيلًا مخالفتهما فيها في الفرعين (1).

______________________________

الموارد أصلًا. ثمّ إنّه لا خفاء فيما إذا جاز الرجوع إلى الغير في وجوب رعاية الأعلم فالأعلم؛ لعين الدليل القائم على تعيّن تقليد الأعلم كما هو ظاهر.

(1) أمّا وجوب العدول في الفرع الأوّل فلانكشاف عدم الأهليّة للفتوى و عدم كون تقليده تقليداً صحيحاً، و إن كان معذوراً لو استند في تقليده إلى طريق عقلي أو شرعي، كالعلم أو قيام البيّنة، و لكنّه ليس بعدول واقعاً؛ لعدم صحّة تقليده بوجه.

و أمّا وجوب العدول إلى الأعلم بنحو الاحتياط اللزومي في الفرع الثاني فهو مبنيّ على عدم الجزم بلزوم تقليد الأعلم، و كون تعيّنه من باب الاحتياط كما هو مختار الماتن دام ظلّه فيما تقدّم «1»، و لكنّه يرد عليه مضافاً إلى أنّ المختار تعيّن تقليد الأعلم بنحو الجزم و الفتوى و عليه فيتعيّن العدول

إنّك عرفت أنّ لازم مختاره في مسألة تقليد الأعلم و في مسألة العدول هو جواز العدول لا وجوبه «2»؛ لأنّ كلتا المسألتين مبنيّتان عنده على أصالة التعيين العقلية و لا مرجّح لإحداهما على الأُخرى، فيتخيّر بينهما.

و منه يظهر الكلام في الفرع الثالث، و يختصّ هذا الفرع بجريان استصحاب حجيّة فتوى المجتهد الأوّل، و هو يمنع عن حكم العقل بأصالة التعيين. نعم، لا مجال للاستصحاب على المختار من قيام الدليل على تعيّن تقليد الأعلم.

ثمّ إنّ تخصيص المسائل التي يجب العدول فيها احتياطاً بخصوص ما علم تفصيلًا مخالفة المجتهدين فيه مبنيّ على مختاره دام ظله من اختصاص تعيّن الرجوع إلى الأعلم بصورة العلم بالمخالفة، و أمّا بناءً على المختار لا يبقى فرق بينها و بين صورة الشك فيها، فيجب العدول في هذه الصورة أيضاً.

______________________________

(1) في ص 121.

(2) في ص 120، 139.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 145

[تقليد المجتهد الميّت]

مسألة 13: لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً. نعم، يجوز البقاء على تقليده بعد تحقّقه بالعمل ببعض المسائل مطلقاً، و لو في المسائل التي لم يعلم بها على الظاهر، و يجوز الرجوع إلى الحي الأعلم و الرجوع أحوط، و لا يجوز بعد ذلك الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً على الأحوط، و لا إلى حيّ آخر كذلك إلّا إلى أعلم منه، فإنّه يجب على الأحوط، و يعتبر أن يكون البقاء بتقليد الحيّ، فلو بقي على تقليد الميّت من دون الرجوع إلى الحيّ الذي يفتي بجواز ذلك كان كمن عمل من غير تقليد (1).

______________________________

(1) قد وقع الاختلاف بينهم في جواز تقليد الميت و عدمه، و بعبارة أُخرى في اشتراط الحياة في المفتي و من يرجع إليه و

يستند على آرائه و أنظاره في مقام العمل، و الأقوال بينهم بحسب بادئ النظر خمسة:

الأوّل: ما هو المعروف بين أصحابنا الإمامية من اشتراط الحياة في المفتي مطلقاً، و عدم جواز تقليد الميت ابتداءً و لا استدامة «1».

الثاني: ما هو خيرة الأخباريين من أصحابنا من عدم الاشتراط مطلقاً، و أنّه يجوز تقليد الميت كذلك «2»، كما هو المنسوب إلى العامّة بل المجمع عليه بينهم، حيث إنّهم يقلّدون أشخاصاً معيّنين من أموات علمائهم، و حكي عن المحقّق القمي (قدّس سرّه) الموافقة للأخباريين في موضعين من جامع الشتات، حيث إنّه سئل في أحدهما عن جواز الرجوع إلى فتوى ابن أبي عقيل، فأجاب بما حاصله: إنّ الأقوى عندنا جواز تقليد الميّت بحسب الابتداء، فلا مانع من الرجوع إليه. و قال في ثانيهما: إنّ الأحوط الرجوع إلى الحي «3».

و الظاهر أنّ الاحتياط في هذا الكلام هو الاحتياط المستحب دون الواجب.

______________________________

(1) الفصول الغروية: 419، مطارح الأنظار: 280، مفاتيح الأُصول: 618.

(2) مطارح الأنظار: 280.

(3) راجع جامع الشتات: 4/ 469 و 477 حكاه في التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 95.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 146

..........

______________________________

الثالث: التفصيل بين البدوي و الاستمراري، كما اختاره الماتن دام ظلّه و كثير من متأخّري المتأخِّرين «1»، و حكاه شارح الوافية عن بعض معاصريه «2».

الرابع: التفصيل بين وجود المجتهد الحي فلا يجوز تقليد الميت مطلقاً، و بين عدمه فيجوز، حكاه فخر المحقّقين عن والده العلّامة (قدّس سرّهما) «3»، و حكي عن الأردبيلي «4» و بعض آخر «5» أيضاً.

الخامس: ما ذهب إليه الفاضل التوني على ما حكي عنه من الجواز فيما إذا كان المفتي ممّن علم من حاله أنّه لا

يفتي إلّا بمنطوقات الأدلّة، كالصدوقين و من شابههما من القدماء، و عدم الجواز فيما إذا كان ممّن يعمل بالأفراد الخفيّة للعمومات، و اللوازم غير الجليّة للملزومات، و في هذه الصورة لا يجوز تقليده و لو كان حيّاً «6».

و الظاهر أنّ هذا ليس تفصيلًا في المسألة و ما هو محلّ النزاع، فإنّ مورد البحث يرجع إلى اشتراط الحياة فيمن يجوز تقليده من حيث هو، و هذا تفصيل في أصل التقليد، و أنّ من يجوز الرجوع إليه عبارة عن خصوص مثل الصدوقين، فهذا لا يرتبط بالمقام، كما أنّ التفصيل المحكي عن العلّامة أيضاً لا يكون كذلك، فإنّ محلّ البحث إنّما هو خصوص صورة وجود المجتهد الحي، و دوران الأمر بين الرجوع إليه و بين الرجوع إلى المجتهد الميّت، فغير هذا الفرض خارج عن المسألة.

و الظاهر أنّ منشأ تجويز المحقّق القمي (قدّس سرّه) تقليد الميّت ابتداءً إنّما هو ذهابه إلى انسداد باب العلم بالأحكام، و القول بحجيّة الظن المطلق لأجله، نظراً إلى قوله باختصاص حجيّة الظواهر بخصوص من قصد إفهامه، فإنّ دعوى الانسداد إنّما هي تبتنى على ذلك أو على القول بعدم حجيّة خبر الواحد مطلقاً، فعلى تقديره يكون ظنّ المكلّف حجّة من أيّ طريق حصل و من أيّ سبب تحقّق، فإذا حصل الظنّ من فتوى المجتهد الميّت خصوصاً إذا كان أعلم يكون الظنّ الحاصل من قوله حجّة و يجوز ترتيب الأثر عليه.

______________________________

(1) الفصول الغروية: 422، مفاتيح الأُصول: 624، نهاية الأفكار: 4/ 258 260.

(2) حكى عنه في مطارح الأنظار: 293.

(3) حكاه الشيخ علي الكركي في حاشيته على الشرائع في الصفحة الأخيرة من مخطوطة محفوظة برقم 1418 في مكتبة المدرسة الفيضيّة بقم و الصفحة 639 من مخطوطة اخرى محفوظة

برقم 1964 في المكتبة المذكورة على ما في حاشية الوافية: 300.

(4) مجمع الفائدة و البرهان: 7/ 547.

(5) منية المريد: 167، باختصار، معالم الدين: 245.

(6) الوافية: 307.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 147

..........

______________________________

و يرد عليه مضافاً إلى منع المبنى و عدم تماميّة مقدّمات دليل الانسداد، نظراً إلى حجيّة خبر الواحد بمقدار يفي بمعظم الفقه، و عدم اختصاص حجيّة الظواهر بخصوص المقصودين بالأفهام، كما حقّقنا كلا الأمرين في الأُصول منع البناء، فإنّ فرض الانسداد و تمامية مقدّمات ذلك الدليل لا يفيد إلّا حجيّة الظنّ الحاصل للمجتهد من أيّ طريق حصل، فإنّ الفرق بينه و بين الظنّ الخاصّ إنّما هو من جهة دخالة السبب الخاص في الثاني و عدم دخالته في الأوّل.

فكما أنّ حجيّة الظنّ الخاصّ مقصورة على المجتهد، و لا اعتبار له بالإضافة إلى كلّ مكلّف، فكذلك اعتبار الظنّ المطلق، و الاكتفاء به إنّما هو بالإضافة إلى خصوص المجتهد. غاية الأمر أنّه يفتي على طبق ظنّه، فيعمل المقلّد على طبق رأيه و ظنّه، فالدليل على تقدير التمامية لا جدوى فيه بالنسبة إلى المقلّد و مَن بصدد التقليد و تطبيق العمل على رأي الغير و فتواه.

و ممّا ذكرنا انقدح الخلل فيما في تقريرات بعض الأعلام؛ من أنّ عدم حجيّة الظن الحاصل للعامي إنّما هو لأجل عدم حصول الظنّ له بالحكم الواقعي من فتوى الميّت عند مخالفة الإحياء، بل الأموات أيضاً معه في المسألة، خصوصاً إذا كان الإحياء بأجمعهم أو بعضهم أعلم من الميّت، و الاختلاف في الفتوى بين العلماء ممّا لا يكاد يخفى على أحد، و معه لا يحصل للعامي ظنّ بأنّ ما أفتى به الميّت مطابق للواقع «1».

و ذلك أي وجه

الخلل ما عرفت من أنّه على فرض حصول الظنّ له لا دليل على حجيّته أصلًا.

و أمّا الأخباريّون، فالظاهر أنّ منشأ مخالفتهم و ترخيصهم تقليد الميّت ابتداءً إنّما هو إنكار مشروعية التقليد بالمعنى المصطلح، و أنّ الرجوع إلى المجتهد إنّما هو من باب الرجوع إلى الراوي. غاية الأمر أنّ المجتهد ينقل الرواية بالمعنى، و من المعلوم عدم اعتبار الحياة في الراوي بوجه.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 97.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 148

..........

______________________________

قال السيد الجزائري (قدّس سرّه): إنّ كتب الفقه شرح لكتب الحديث، و من فوائدها تقريب معاني الأخبار إلى أفهام الناس؛ لأنّ فيها العام و الخاص و المجمل و المبيّن إلى غير ذلك، و ليس يقدر كلّ أحد على بيان هذه الأُمور من مفادها، فالمجتهدون بذلوا جهدهم في بيان ما يحتاج إلى البيان و ترتيبه على أحسن النظام، و الاختلاف بينهم مستند إلى اختلاف الأخبار أو فهم معانيها من الألفاظ المحتملة، حتّى لو نقلت تلك الأخبار لكانت موجبة للاختلاف، كما ترى الاختلاف الوارد بين المحدّثين، مع أنّ عملهم مقصور على الأخبار المنقولة، و بالجملة فلا فرق بين التصنيف في الفقه و التأليف في الحديث «1».

و يرد عليهم أيضاً مضافاً إلى منع المبنى؛ لأنّ الرجوع إلى المجتهد ليس من باب الرجوع إلى راوي الحديث و ناقل الخبر، بل التقليد الاصطلاحي الذي استفيد جوازه من الأدلّة مرجعه إلى تطبيق العمل على رأي العالم و نظره؛ من جهة أنّه أهل الخبرة و الاطلاع و النظر و الاجتهاد، و لذا يعتبر فيه الفقاهة و البلوغ إلى مرتبة النظر، و لو كان الرجوع إليه من جهة كونه راوي الحديث لما

كان يعتبر فيه الفقاهة؛ لعدم مدخليّتها في الراوي بما هو راوٍ أصلًا منع البناء، فإنّه على تقدير صحّة المبنى لا مجال لجواز الرجوع إلى الميت بعد ثبوت الاختلاف بين العلماء أحيائهم و أمواتهم، خصوصاً إذا كان الترجيح مع غير من يريد الرجوع إليه من الأموات، فإنّه بناءً على ذلك تصير آراء المجتهدين بمنزلة الروايات المختلفة المتعارضة، فلا بدّ من الأخذ بذي الترجيح منها أو التخيير لو قام دليل عليه في مثل هذه الصورة أيضاً، و إلّا فمقتضى القاعدة في تعارض الأمارتين سقوطهما عن الحجيّة، كما هو المحقّق في محلّه.

إذا عرفت ذلك فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في جواز تقليد الميت ابتداءً و عدمه، و بعبارة أُخرى في

______________________________

(1) منبع الحياة: 31.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 149

..........

______________________________

اشتراط الحياة في المفتي ابتداءً و عدمه، و قبل الخوض في ذكر أدلّة الطرفين و بيان ما استدلّ به أصحاب المذهبين، و تحقيق ما هو الحقّ في البين، نقول:

لا خفاء في أنّ مقتضى الأصل على تقدير الشك و وصول النوبة إليه عدم حجيّة فتوى الميت بحسب الابتداء؛ لأنّ مرجع الشك في الاشتراط إلى الشك في أصل الحجيّة بالإضافة إليه، و مقتضى الأصل الأوّلي في كلّ أمارة مشكوكة الحجيّة عدم ترتّب شي ء من آثار الحجيّة عليها.

و لذا اشتهر أنّ الشكّ في الحجيّة مساوق للقطع بعدمها، فما يحتاج إلى الدليل إنّما هو القول بعدم اشتراط الحياة و سعة دائرة الحجيّة المجعولة، و شمولها لفتوى المجتهد الميت أيضاً، و مع ذلك فالمناسب بيان أدلّة كلا الطرفين، فنقول:

أمّا ما استدلّ به على الاشتراط و عدم جواز تقليد الميت فوجوه:

الأوّل: دعوى الإجماع على ذلك عن جملة من أعاظم

الفقهاء و أكابر العلماء رضوان اللّٰه تعالى عليهم أجمعين و لا بأس بنقل جملة من الكلمات المشتملة على هذه الدعوى؟ قال المحقّق الثاني في محكي شرح الألفية: لا يجوز الأخذ عن الميت مع وجود المجتهد الحي بلا خلاف بين علماء الإمامية «1».

و قال الشهيد الثاني في محكي المسالك: قد صرّح الأصحاب في كتبهم المختصرة و المطوّلة و في غيرها باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله، و لم يتحقّق إلى الآن خلاف في ذلك ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا، و إن كان للعامّة في ذلك خلاف مشهور «2».

و قال أيضاً في محكيّ الرسالة المنسوبة في المسألة: نحن بعد التتبّع الصادق لما وصل إلينا من كلامهم، ما علمنا بأحد من أصحابنا ممّن يعتبر قوله و يعوّل على فتواه خالف في ذلك، فعلى مدّعي الجواز بيان القائل به على وجه لا يلزم منه خرق الإجماع.

ثمّ قال: و لا قائل بجواز تقليد الميت من أصحابنا السابقين و علمائنا الصالحين، فإنّهم

______________________________

(1) حكى عنه في مطارح الأنظار: 280.

(2) مسالك الأفهام: 3/ 109.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 150

..........

______________________________

ذكروا في كتبهم الأُصولية و الفقهية قاطعين بما ذكرنا «1».

و قال صاحب المعالم في محكيّها: العمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود المجتهد الحي «2».

و عن الوحيد البهبهاني في فوائده: أنّ الفقهاء أجمعوا على أنّ الفقيه لو مات لا يكون قوله حجّة «3». و قال في موضع آخر: و ربّما جعل ذلك من المعلوم من مذهب الشيعة «4».

و عن ابن أبي جمهور الأحسائي: لا بدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه، فلو مات بطل

العمل بقوله و وجب الرجوع إلى غيره، إذ الميّت لا قول له «5»، و على هذا انعقد الإجماع من الإمامية، و به نطقت مصنّفاتهم الأُصولية لا أعلم فيه مخالفاً منهم.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مخالفة المحقّق القمي (رحمه اللّٰه) إنّما هي مبتنية على مسلكه و متفرّعة على مبناه من الانسداد الذي لا نقول به، و كذا مخالفة الأخباريين مبتنية على إنكارهم للتقليد الاصطلاحي، و على تقدير خلاف ذلك لا يضرّ بدعوى الإجماع و استكشاف رأي المعصوم (عليه السّلام) من طريق الحدس، كما هو مبنى المتأخّرين في باب الإجماع.

و قد أُورد على هذا الدليل بأنّ الإجماع المدّعى على تقدير تحقّقه ليس إجماعاً تعبديّاً موجباً لاستكشاف قول المعصوم (عليه السّلام)؛ لاحتمال أن يكون مستند المجمعين أصالة الاشتغال، أو ظهور الأدلّة في اشتراط الحياة فيمن يجوز تقليده أو غير ذلك، و مع هذا الاحتمال ينسدّ باب الحدس و استكشاف رأي المعصوم، الذي هو الملاك في الحجيّة عندنا، ضرورة عدم ثبوت وصف الحجيّة للإجماع بما هو إجماع «6»، كما قد حقّق في محلّه.

و الجواب عن هذا الإيراد أنّه و إن كان احتمال الاستناد إلى الدليل أو الأصل مانعاً عن ثبوت وصف الحجيّة للإجماع، إلّا أنّه لا مجال لهذا الاحتمال في المقام، خصوصاً بعد استقرار رأي المخالفين و استمرار عملهم على تقليد الميّت و الرجوع

______________________________

(1) رسائل الشهيد الثاني: 1/ 44.

(2) معالم الدين: 245.

(3) الفوائد الحائرية للبهبهاني: 500.

(4) الفوائد الحائرية للبهبهاني: 500.

(5) الأقطاب الفقيه: 163.

(6) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 104.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 151

..........

______________________________

إلى أشخاص معيّنين من الأموات، ففي الحقيقة يكون هذا من خصائص الشيعة و امتيازات

الإمامية.

و العجب من هذا المورد أنّه كيف يناقش في تحقّق الإجماع و استكشاف رأي المعصوم (عليه السّلام)، مع تصريحه فيما يأتي من كلامه؛ بأنّ ضرورة مذهب الشيعة تقتضي عدم الأخذ بفتوى المجتهد الميّت و لو فيما إذا كان أعلم «1»، فإنّه كيف تجتمع دعوى الضرورة و البداهة مع المناقشة في دعوى الإجماع.

الثاني: اختصاص الأدلّة الدالّة على حجيّة فتوى المجتهد و جواز الرجوع إليه و الأخذ بها بخصوص المجتهد المتّصف بوصف الحياة و عدم شمولها لغير الواجد لهذا الوصف.

أمّا قوله تعالى في آية النفر لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ «2» فلظهوره في أنّ الإنذار الذي يتعقّبه الحذر إنّما هو الإنذار الحاصل من المنذر الحيّ؛ لعدم معنى لإنذار الميّت، كما أنّه لا معنى لاتّصافه بالفقاهة فعلًا، و يُؤيّده تعليق وجوب الإنذار على الرجوع الظاهر في الحياة.

و كذا قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ «3» ظاهر فيمن يكون متّصفاً بهذا الوصف فعلًا، خصوصاً بعد إيجاب السؤال، فإنّه و إن لم يكن للسؤال مدخلية في حجيّة قول أهل الذكر و نظره، إلّا أنّ المفروض في الآية إمكان الرجوع إليه و السؤال عنه، و هذا الوصف لا يتحقّق في الميّت بوجه.

و كذا الروايات الدالّة على حجيّة فتوى المجتهد أعمّ ممّا يدلّ عليها بنحو العموم كقوله (عليه السّلام) فيما حكي عن تفسير العسكري (عليه السّلام): فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه «4» في الإرجاع إلى أشخاص معيّنين فإنّ ظهورها في الواجد للأوصاف المذكورة فيها فعلًا خصوصاً الطائفة الثانية منها واضح لا ينبغي الارتياب فيه.

______________________________

(1) يأتي في ص 174.

(2) سورة التوبة: 9/ 122.

(3) سورة الأنبياء: 21/ 7.

(4) تقدّم في ص 74.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد

و التقليد، ص: 152

..........

______________________________

و كذا السيرة العقلائية التي هي العمدة في أدلّة حجيّة فتوى الفقيه كما عرفت «1» لا تشمل فتوى المجتهد الميت.

توضيحه ما أفاده سيّدنا العلّامة الأُستاذ الماتن دام ظلّه في رسالته في الاجتهاد و التقليد، و محصّله: أنّه لا إشكال في عدم التفاوت في ارتكاز العقلاء و حكم العقل بين فتوى الحيّ و الميّت، ضرورة طريقيّة كلّ منهما إلى الواقع من غير فرق بينهما، لكن مجرّد ارتكازهم و حكمهم العقلي بذلك لا يكفي في جواز العمل، بل لا بدّ من إثبات بنائهم على العمل على طبق فتوى الميت كالحيّ، و تعارفه لديهم حتى يكون عدم ردع الشارع كاشفاً عن إمضائه، و إلّا فلو فرض عدم جريان العمل على طبق فتوى الميت و إن لم يكن يتفاوت في عالم ارتكازهم مع الحيّ أصلًا لا يكون للردع مورد حتى يكشف عدمه عن إمضاء الشارع.

و الحاصل أنّ جواز الاتّكال على الأمارات العقلائية موقوف على إمضاء الشارع لفظاً أو استكشافه من طريق عدم الردع، و ليس في المقام ما يدلّ عليه لفظاً، و استكشاف ذلك من طريق عدم الردع موقوف على جري العقلاء عملًا على طبق ارتكازهم، و مع عدمه لا محلّ لردع الشارع و لا يكون سكوته كاشفاً عن رضاه.

و من الواضح عدم تعارف الأخذ عن الميت في الصدر الأوّل؛ لعدم كون تدوين الكتب الفتوائيّة متعارفاً حتى يقال: إنّهم كانوا يراجعون الكتب، فإنّ الكتب الموجودة في تلك الأزمنة كانت منحصرة بكتب الأحاديث، ثمّ بعد أزمنة متطاولة صار بناؤهم على تدوين كتب بنحو متون الأخبار، ككتب الصدوقين و من في طبقتهما أو قريب العصر بهما، ثمّ بعد مرور الأزمنة جرت عادتهم على تدوين الكتب التفريعيّة و

الاستدلالية إلى أن انتهى تدوين الفتاوى خالية عن الدليل بنحو الرسالة العملية، فلم يكن الأخذ من الأموات ابتداءً ممكناً في الصدر الأوّل و لا متعارفاً أصلًا «2».

و في تقريرات بعض الأعلام في مقام عدم جواز الاستدلال بالسيرة ذكر: إنّ

______________________________

(1) في ص 61 64، 82، 103 105.

(2) الاجتهاد و التقليد للإمام الخميني (قدّس سرّه): 132 134.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 153

..........

______________________________

لازمه حصر المجتهد المقلَّد في شخص واحد في الأعصار بأجمعها؛ لأنّ أعلم علمائنا من الأموات و الأحياء شخص واحد لا محالة، فإذا فرضنا أنّه الشيخ أو غيره تعيّن على الجميع الرجوع إليه حسبما تقتضيه السيرة العقلائية، و ذلك للعلم الإجمالي بوجود الخلاف بين المجتهدين في الفتيا، و مع العلم بالمخالفة يجب تقليد الأعلم فقط، من دون فرق في ذلك بين عصر و عصر، و هو ممّا لا يمكن الالتزام به؛ لأنّه خلاف الضرورة من مذهب الشيعة، و لا يسوغ هذا عندهم بوجه لتكون الأئمّة ثلاثة عشر، و بهذا تكون السيرة العقلائية مردوعة في الشريعة «1».

و الجواب عن هذا الدليل، إمّا عن الآيات فلأنّها لا تنطبق على المدّعى، ضرورة أنّ المدّعى عبارة عن اشتراط الحياة في المفتي و من يجوز الرجوع إليه، و مقتضاه عدم جواز الرجوع إلى المجتهد الميّت، مع أنّها أي الآيات على تقدير دلالتها على جواز التقليد و عدم المناقشة فيها بما مرّ مفصّلًا «2» تكون غاية مفادها حجيّة فتوى المجتهد الحيّ، و لا دلالة فيها على اشتراط الحياة بنحو يفيد عدم حجيّة فتوى الميّت بوجه، فلا بدّ فيها من الرجوع إلى دليل أو أصل جارٍ في مورد الشك.

و بالجملة: الآيات ساكتة عن حجيّة فتوى غير

الحي لا نافية لها كما هو المدّعى، فلا تنطبق عليه.

و أمّا عن الروايات، فما كان منها يدلّ بنحو العموم، فهو و إن كان ظاهراً في بيان الاشتراط و عدم جواز الرجوع إلى غير المتّصف بالأوصاف المذكورة فيها، إلّا أنّها مخدوشة من حيث السند كما عرفت «3». و ما كان منها يدلّ على الإرجاع إلى أشخاص معيّنين يجري فيها ما ذكرنا في الآيات من عدم تعرّضها لفتوى غير الحي، و لا دلالة فيها على نفي الحجيّة بوجه، بل لا بدّ من الرجوع إلى دليل آخر.

و أمّا السيرة، فيرد على التقريب الذي أفاده الأستاذ دام ظلّه مضافاً إلى أنّ حكم العقل لا يحتاج إلى إمضاء الشارع، و إلّا ينسدّ باب التقليد على العامي؛ لأنّ الحامل

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 107.

(2) في ص 64 و ما بعدها.

(3) في ص 81 102.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 154

..........

______________________________

له على التقليد كما عرفت ليس إلّا إدراك عقله و حكمه برجوع الجاهل إلى العالم «1»، فلو كان حكم العقل أيضاً مفتقراً إلى الإمضاء من الشارع لكان باب التقليد منسدّاً عليه؛ لعدم اطلاع العامي على الإمضاء كما هو واضح.

أنّه إن أراد أنّ السيرة العقلائيّة غير جارية في مقام العمل على الرجوع إلى آراء الأموات و ترتيب الأثر عليها و جعلها طريقاً لرفع الجهل فمن الواضح خلافه، لما نراه بالوجدان من مراجعتهم إلى كتب الأقدمين في الفنون المختلفة في جميع الأعصار و أخذ الآراء منها و الاستفادة و ترتيب الأثر عليها، بحيث لا يفرّقون بينها و بين الكتب المصنّفة في حياتهم أصلًا، فالسيرة العملية العقلائية جارية في كلا الأمرين من دون ارتياب

في البين.

و إن أراد أنّ السيرة العقلائيّة و إن كانت عامّة في مقام العمل إلّا أنّه لا بدّ من ورودها في محيط الشرع، و جريانها في الأُمور المضافة إلى الشارع حتى يكون عدم الردع كاشفاً عن تصويبه و رضاه بذلك، فيرد عليه أنّ عدم الردع الكاشف عن الإمضاء لا يتوقّف على ذلك، بل يكفي مجرّد جريان السيرة على معنى عام يكون الأمر الشرعي أيضاً من مصاديقه، أ لا ترى أنّ حجيّة ظواهر الكتاب المستفادة من سيرة العقلاء بضميمة عدم الردع لا يكون منشؤها جريان السيرة في ظواهر الكتاب، و عدم ردع الشارع عنها، بل جريان السيرة على العمل بكلّ ظاهر، و عدم الردع عنها في الشرعيّات كاف في استكشاف رضا الشارع و إمضائه، كما لا يخفى.

و يرد على التقريب الذي أفاده بعض الأعلام أنّ انحصار مرجع التقليد في مثل الشيخ (قدّس سرّه) لا يكون مخالفاً لما هو ضروري من المذهب. غاية الأمر أنّه مخالف للإجماع؛ لانعقاده على عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً، و قد عرفت أنّه لا تجتمع دعوى الضرورة من المذهب مع المناقشة في الإجماع، و دعوى عدم كونه كاشفاً عن موافقة المعصوم (عليه السّلام) «2»؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى مثل أصالة الاشتغال.

______________________________

(1) في ص 60 و ما بعدها.

(2) في ص 172.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 155

..........

______________________________

ثمّ إن الاستلزام للانحصار إنّما هو على تقدير كون الأعلم الذي هو شخص واحد واضح الأعلمية بالإضافة إلى كلّ أحد، و إلّا فلو فرض اختلاف الأنظار في تشخيص الأعلم كما ربّما يتّفق فالانحصار لا يكاد يتحقّق بوجه، كما أنّ بطلان الانحصار لكونه مخالفاً لما هو ضروري من المذهب كما فرضه لا

يوجب الالتزام باشتراط الحياة كما هو المقصود، بل يكون له طريق آخر؛ و هو عدم تعيّن الأعلم للتقليد. و بعبارة أُخرى الانحصار مترتّب على أمرين: عدم اشتراط الحياة، و اشتراط الأعلمية، و بطلانه لما ذكر لا يوجب نفي الأمر الأوّل، بل له طريق آخر؛ و هو رفع اليد عن الأمر الثاني و اختيار عدم اشتراط الأعلمية و تساوي الأعلم و غيره من حيث جواز الرجوع إليه، و عليه فيتخيّر المكلّف بينه و بين غيره فيرتفع الانحصار.

كما أنّ ما أفاده من استلزام انحصار صيرورة الأئمّة ثلاثة عشر ممنوع جدّاً؛ لأنّ المرجعية لا تبلغ من حيث المرتبة إلى الإمامة بوجه، و لعمري انّ مثل هذا التعبير من طغيان البيان أو القلم، فإنّه من الواضح أنّ أبناء السنّة مع استمرار عملهم على الأخذ بفتاوى أشخاص معيّنين من الأموات لا يحكمون بإمامتهم و خلافتهم و وجوب الإطاعة لهم، كما يقولون به في الخلفاء.

و التحقيق أنّه لا مجال للمناقشة في أصل السيرة العقلائيّة و جري عملهم على الأخذ بالآراء مطلقاً، من دون فرق عندهم بين أن يكون صاحب الرأي حيّاً أو ميّتاً. غاية الأمر أنّها مردوعة في الشريعة؛ لقيام الإجماع الكاشف عن موافقة المعصوم (عليه السّلام) على عدم الجواز، و هو يكفي في الردع من دون حاجة إلى أمرٍ آخر.

الثالث: أنّ فتوى الميّت على تقدير كونها حجّة فإمّا أن يقال بحجيّتها فيما إذا كان الميّت مساوياً لغيره من الأموات و الأحياء في الفضيلة و المرتبة العلمية، و إمّا أن يقال بها في خصوص ما إذا كان أعلم من غيره من تلك الجهة، و لا مجال للقول بها في كلتا الصورتين:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص:

156

..........

______________________________

أمّا الصورة الأُولى: فلا دليل على الحجّية فيها؛ لأنّه مع الاختلاف بينه و بين غيره في الفتوى و النظر كما هو الغالب و المفروض يكون الدليل قاصراً عن شموله؛ لأنّ المتعارضين غير مشمولين لأدلّة الحجيّة، و القاعدة تقتضي التساقط مع التعارض كما قد تقدّم البحث عنه «1»، و الإجماع القائم على التخيير بين المجتهدين المتساويين في الفضيلة على تقدير ثبوته كما ادّعاه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) «2» لا يشمل المقام، فإنّ القدر المتيقّن منه تساوي المجتهدين من الأحياء، فإنّ الأموات أنفسهم قد ادّعوا الإجماع على عدم جواز الأخذ بآرائهم بعد انقضاء حياتهم، كما مر نقل كلمات جملة من إعلامهم «3».

و أمّا الصورة الثانية: فلأنّ مقتضى السيرة العقلائية الجارية على الأخذ برأي الميت من ناحية، و على الأخذ بقول الأعلم من المتخالفين من ناحية أُخرى و إن كان هو الجواز، إلّا أنّك عرفت «4» أنّ مجرّد جريان السيرة لا يكفي ما دام لم يكن مورداً لإمضاء الشارع لفظاً، أو مستكشفاً من طريق عدم الردع، و عدم ثبوت الإمضاء يكفي في عدم جواز ترتيب الأثر عليه، فضلًا عمّا إذا ثبت الردع من طريق الإجماع الكاشف عن موافقته لرأي المجمعين، و عدم تجويزه الأخذ برأي الميّت و الرجوع بفتواه، كما عرفت.

و ممّا ذكرنا يظهر مواضع الردّ و القبول و الخلط في هذا الدليل، فتأمّل.

و أمّا ما استدلّ به على عدم الاشتراط و جواز الرجوع إلى فتوى المجتهد الميّت ابتداءً فوجوه أيضاً:

الأوّل: إطلاق أدلّة جواز التقليد و حجيّة فتوى المجتهد من الآيات و الروايات الواردة في هذا الباب، فإنّها غير مقيّدة بحال الحياة، فكما أنّها تدلّ على حجيّة فتوى الحي، كذلك تشمل فتوى المجتهد الميّت نظراً إلى إطلاقها.

و

الجواب عنه مضافاً إلى أنّ أغلب تلك الأدلّة غير خالية عن المناقشة في الدلالة

______________________________

(1) في ص 123 124.

(2) حكى عنه في التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 106

(3) في ص 70 71.

(4) في ص 173.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 157

..........

______________________________

على أصل جواز التقليد و حجيّة الفتوى بالنحو الذي هو محلّ البحث لِما عرفت سابقاً «1» ما مرّت الإشارة إليه من أنّ العناوين المأخوذة فيها ظاهرة في الفعلية التي لا تجتمع إلّا مع وصف الحياة فكما أنّ قوله: «الخمر حرام» ظاهر في الخمر الفعلي لا ما كان خمراً سابقاً، و قوله: «العالم يجب إكرامه» ظاهر في المتّصف بالعلم فعلًا، كذلك قوله: «الفقيه المنذر» ظاهر في المتّصف بهما فعلًا، و هكذا سائر العناوين المأخوذة فيها، و إن شئت قلت: إنّ المشتقّ ظاهر في خصوص المتلبّس بالمبدإ في الحال لأنّه حقيقة فيه، و من المعلوم أنّ الاتّصاف بالفعل ملازم لوجود قيد الحياة.

نعم، قد عرفت «2» أنّه لا دلالة لهذه الأدلّة على اشتراط وصف الحياة بنحو يفيد نفي الحجيّة بالإضافة إلى الميت، بل هي ساكتة عن التعرّض لها، و من هنا ينقدح أنّه لا دلالة لها على قول النافين و لا المثبتين، بل تجتمع مع كليهما لسكوتها عن الدلالة على النفي أو الإثبات فيما هو محلّ الكلام و مورد النقض و الإبرام. نعم، قد عرفت أنّ هنا رواية واحدة عامّة ظاهرة في اشتراط الحياة ضعيفة من حيث السند «3».

الثاني: جريان السيرة المستمرّة العملية من العقلاء على الرجوع إلى آراء العلماء و أنظار المطّلعين، من دون فرق بين الأحياء و الأموات، و لا مجال للإشكال فيه كما عرفت «4».

و الجواب

عنه: أنّ حجيّة السيرة موقوفة على إمضاء الشارع و عدم ردعه عنها، و قد مرّ أنّ الإجماع الكاشف عن موافقة المعصوم (عليه السّلام) لرأي المجمعين و حكمهم بعدم جواز تقليد الميّت ابتداءً كاف في مقام الردع و عدم اتّصاف السيرة بوصف الحجيّة، كما هو ظاهر.

الثالث: استصحاب حجيّة فتوى المجتهد الميّت؛ لأنّها كانت مقطوعة قبل موته و بعده يشك في بقائها فلا مانع عن استصحابها أصلًا، و يكفي هذا الاستصحاب الذي لازمه جواز الأخذ بفتوى الميت في الخروج عن الأصل الأوّلي، الذي كان

______________________________

(1) في ص 172 173.

(2) في ص 174 175.

(3) في ص 173 175.

(4) في ص 175 177.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 158

..........

______________________________

مرجعه إلى أنّ الشكّ في الحجيّة مساوق للقطع بعدمها؛ لأنّه مع جريانه لا يبقى شك في الحجيّة كما لا يخفى.

و قد أُورد على جريان هذا الاستصحاب بوجوه متعدّدة:

منها: أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب مجعولًا شرعيّاً أو موضوعاً لأثر شرعي، و هذا الشرط متحقّق في المقام على تقدير كون الحجيّة المستصحبة متأصّلة في الجعل، بحيث يصحّ اعتبارها من مجرّد جعلها، و تترتّب عليها آثارها عقلًا من صحّة اعتذار كلّ من المولى و العبد بها، مع أنّه غير ظاهر، بل الظاهر أنّها منتزعة عن الحكم الظاهري الراجع إلى الأمر بالعمل بالواقع على تقدير المصادفة، نظير الأمر بالاحتياط في بعض موارد الشك، و إلى الترخيص على تقدير المخالفة، فإنّ ذلك هو منشأ صحّة الاعتذار و الاحتجاج.

و الجواب عنه أنّ الحجيّة كما قد حقّق في محلّه من الأحكام الوضعية القابلة لتعلّق الجعل بها مستقلا، و يصحّ انتزاعها من مجرّد جعلها، فهو مجعول شرعي لا مانع من

جريان الاستصحاب فيها بوجه.

و منها: ما أفاده المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) في الكفاية، و حاصلة: أنّ جريان الاستصحاب يتوقّف على بقاء موضوع المستصحب عرفاً، و الموضوع في المقام غير باقٍ؛ لأنّ الرأي متقوّم بالحياة بنظر العرف؛ لأنّ الموت عند أهل العرف موجب لانعدام الميّت ورائه، و إن لم يكن كذلك واقعاً؛ لتقوّم الرأي بالنفس الناطقة غير الزائلة بالموت لتجرّدها، لكنّ المدار في الاستصحاب من جهة بقاء الموضوع و عدمه هو العرف، فلا يجدي بقاء النفس عقلًا في صحّة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف.

و دعوى أنّ الاعتقاد و الرأي و إن كان يزول بالموت لانعدام موضوعه إلّا أنّه لا حاجة إلى بقاء الرأي، بل مجرّد حدوثه في حال الحياة يكفي في جواز تقليده بعد

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 159

..........

______________________________

موته، كما هو الحال في الرواية، حيث لا مدخلية لبقاء حياة الراوي في حجيّة روايته و جواز الأخذ بها.

مدفوعة بأنّه لا شبهة في أنّه لا بدّ في جواز التقليد من بقاء الرأي، و لا يكفي مجرّد الحدوث، و لذا لو زال بجنون و تبدل أو مرض أو هرم لما جاز قطعاً «1».

و يؤيّده أنّ حجية الرأي بالإضافة إلى العامي ليست بأعظم منها بالإضافة إليه نفسه، و من المعلوم أنّ حجيّة الرأي بالإضافة إلى نفسه لا يكفي فيها مجرّد الحدوث، ضرورة أنّ الحجيّة الثابتة لرأي المجتهد بالإضافة إلى نفسه موضوعها في كلّ زمان، الرأي في ذلك الزمان لا صرف الحدوث، ضرورة أنّه لو زال رأيه بشبهة و نحوها لزالت الحجيّة عنه قطعاً، مضافاً إلى أنّ الموت ملازم لارتفاع الرأي غالباً قبله و لو آناً ما، فلا مجال لاستصحابه.

و أجيب عن هذا

الإيراد بوجهين:

أحدهما: ما في المستمسك من أنّ الإجماع على عدم حجيّة رأي المجتهد مع اختلال الشرائط لو تمّ لا يقتضي عدم الحجيّة مع ارتفاع الحياة إذا كان محلّاً للخلاف، و ارتفاع الحجيّة بتبدّل الرأي إنّما هو لكون الحجيّة مشروطة بعدم ظهور الخطأ له في المستند، لا لكونها منوطة بالرأي حدوثاً و بقاء، و لذا ترى الشهادة تسقط عن مقام الحجيّة إذا ظهر للشاهد الخطأ في المستند مع أنّها حجّة بحدوثها إلى الأبد، و لا ترتفع حجيّتها بموت الشاهد أو نسيانه، و ارتفاع الرأي قبل الموت غالباً إن قام إجماع على قدحه فهو خارج عن محلّ الكلام، و الكلام في غيره من الفروض، و إن لم يقم إجماع على ذلك لم يقدح في جريان الاستصحاب.

و بالجملة: احتمال حجيّة الرأي بحدوثه إلى الأبد لا رافع له، فلا مانع من الاستصحاب «2».

ثانيهما: ما أفاده سيّدنا العلّامة الأستاذ الماتن دام ظلّه من أنّ مناط عمل

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 545 546.

(2) مستمسك العروة: 1/ 17.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 160

..........

______________________________

العقلاء على رأي كلّ ذي صنعة في صنعته هو أماريّته و طريقيّته إلى الواقع، و هو المناط في فتوى الفقهاء، سواء كان دليل اعتباره بناء العقلاء المحض أو الأدلّة اللفظية، فإنّ مفادها أيضاً كذلك، ففتوى الفقيه بأنّ صلاة الجمعة واجبة طريق إلى الحكم الشرعي و حجّة عليه، و إنّما تتقوّم طريقيّته و طريقيّة كلّ رأي خبير إلى الواقع إذا أفتى و أخبر بنحو الجزم، لكن الوجود الحدوثي للفتوى بنحو الجزم يوجب كونه طريقاً إلى الواقع أبداً، و لا ينسلخ عنه ذلك إلّا بتجدّد رأيه أو الترديد فيه، و إلّا فهو طريق إلى الواقع كان

صاحب الرأي حيّاً أو ميّتاً، فإذا شككنا في جواز العمل به من حيث احتمال دخالة الحياة شرعاً في جوازه فلا إشكال في جريان الاستصحاب و وحدة القضية المتيقّنة و المشكوك فيها، فرأي العلّامة و قوله و كتاب قواعده كلّ كاشف عن الأحكام الواقعيّة، و وجودها الحدوثي كاف في كونه طريقاً، و هو المناط في جواز العمل شرعاً ولدي العقلاء.

و إن شئت قلت: جزم العلّامة أو إظهار فتواه جزماً جعل كتابه حجّة و طريقاً إلى الواقع و جائز العمل في زمان حياته، و يشكّ في جواز العمل على طبقه بعد موته فيستصحب «1»، انتهى موضع الحاجة من كلامه دام ظلّه.

أقول: و في كلا الوجهين نظر:

أمّا الوجه الأوّل: فلأنّ التفكيك بين المقامين من جهة قيام الإجماع هناك و عدمه هنا ممنوع؛ لِما عرفت من قيام الإجماع هنا أيضاً على عدم الجواز «2»، فلا فرق بينهما، و لو فرض عدم تحقّق الإجماع في المقام فأيّ مانع من استفادة حكمه من تلك الموارد التي يكون الرأي فيها باقياً و لا يجوز للمقلّد الرجوع إليه و الأخذ به، مع أنّه في حال الحدوث كان جائز الأخذ، كما إذا عرض له الفسق مثلًا، بل لا فرق ظاهراً بين المقام و بين الموارد التي لا يكون الرأي باقياً لأجل جنون أو مرض أو هرم. نعم، في خصوص صورة التبدّل أو الترديد لا مجال لاستفادة حكم المقام منه؛ لِما أفاده صاحب الوجه، و

______________________________

(1) راجع تهذيب الأُصول: 3/ 195 196 و تنقيح الأُصول: 4/ 662 663.

(2) في ص 170 172.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 161

..........

______________________________

بالجملة: فالموارد مختلفة و الملاك في أكثرها موجود في المقام.

و أمّا الوجه

الثاني: فلأنّه لو استندنا في المقام إلى علم العقلاء و استمرار سيرتهم على الرجوع إلى الخبير في كلّ فنّ و صنعة، و استكشفنا أنّ المناط في عملهم هو الأمارية و الطريقيّة إلى الواقع، و هي متقوّمة بالوجود الحدوثي و أصل تحقّق النظر و الفتوى بنحو الجزم، فلا حاجة لنا إلى الاستصحاب، و لا يبقى شك في بقاء حجيّة الرأي بعد موت صاحبه. غاية الأمر أنّ عدم الردع على فرض تماميّته يكشف عن الرضا و الإمضاء، فالحاجة إلى الاستصحاب إنّما هو مع قطع النظر عن السيرة العقلائية و استكشاف مناط عملهم، و بهذه الملاحظة لا دليل على بقاء الموضوع عرفاً بعد ما يكون الموت عند أهل العرف موجباً لانعدام الشخص ورائه رأساً، كما هو غير خفيّ.

و منها: أنّ الحجيّة المجعولة الراجعة إلى جواز العمل على طبق فتوى المجتهد إن كانت بنحو القضية الخارجيّة؛ بمعنى أنّ كلّ مكلّف كان موجوداً جاز له الرجوع إليه فهو لا يفيد بالنسبة إلى الموجودين بعد حياته في الأعصار المتأخّرة، و إن كانت بنحو القضية الحقيقية؛ بمعنى أنّ كلّ من وجد في الخارج و كان مكلّفاً في كلّ زمان كان فتواه حجّة بالإضافة إليه، فإن أُريد إجراء الاستصحاب التنجيزي فلا وجه له؛ لعدم إدراك المتأخّرين زمان حياته، فلا يقين بالنسبة إليهم، و إن أُريد الاستصحاب التعليقي فجريانه بهذا النحو ممنوع.

و بعبارة أُخرى أنّ المراد بالحجيّة المستصحبة إن كان هي الحجيّة الفعلية فلا يقين بحدوثها؛ لأنّ الفعلية إنّما تتحقّق بوجود المكلّف العامي في عصر المجتهد، و المفروض عدم تحقّقه، و إن كان هي الحجيّة الإنشائية، فهي و إن كانت متيقّنة على الفرض إلّا أنّها ليست بمورد للاستصحاب؛ للشك في سعة دائرة الحجيّة المنشأة

و ضيقها، و عدم العلم بأنّها هي الحجيّة على خصوص من أدرك المجتهد و هو حيّ، أو أنّها تعمّ من لم يدركه كذلك، فلا علم لنا بثبوت الحجيّة الإنشائيّة بعد الممات ليمكن استصحابها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 162

..........

______________________________

و يمكن الجواب عنه؛ بأنّ جعل الأحكام على نحو القضية الحقيقيّة ليس مرجعه إلى أنّ لكلّ فرد من أفراد عنوان الموضوع إذا وجد يكون حكماً مجعولًا برأسه، بحيث يكون هناك التكثّر في الجعل حسب تكثّر المصاديق و أفراد الموضوع، بل لا يكون في القضية الحقيقيّة إلّا جعل واحد متعلّق بعنوان واحد، لكن هذا الجعل الواحد يكون حجّة بحكم العقل و عند العقلاء لكلّ من يكون مصداقاً للعنوان و منطبقاً عليه الموضوع، فقوله تعالى وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «1» لا يتضمّن إلّا جعلًا واحداً متعلّقاً بعنوان واحد؛ و هو مَن استطاع، و لكن هذا الجعل مع وحدته و عدم تكثّره حجّة على كلّ متّصف بهذه الصفة.

فحينئذٍ لو علمنا بوجوب الحجّ بهذا النحو ثمّ شككنا في بقائه من جهة طروّ النسخ، أو جهة أُخرى موجبة للشك في بقاء الحكم، كما إذا احتملنا في وجوب صلاة الجمعة مثلًا أن يكون مشروطاً بحضور الإمام (عليه السّلام)، بحيث يرتفع الوجوب بانعدام هذا الشرط و ارتفاعه، فأيّ مانع من جريان الاستصحاب، و في المقام أيضاً كذلك، و قد حقّقنا في محلّه أنّ جريان الاستصحابات الحكمية ممّا لا مانع منه أصلًا.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا المقام أي المقام الأوّل بطلان جميع الوجوه التي استند إليها للقول بجواز التقليد الابتدائي للميّت، فلا محيص عن الالتزام باشتراط قيد الحياة في

التقليد كذلك.

المقام الثاني: في جواز البقاء على تقليد الميّت و عدمه، و بعبارة أُخرى في اشتراط الحياة في المفتي بقاءً و عدمه، و الكلام فيه يقع في صورتين؛ لأنّه إمّا أن لا تعلم المخالفة بينه و بين الحيّ الذي كان يجب الرجوع إليه على فرض عدم جواز البقاء على تقليد الميت

______________________________

(1) سورة آل عمران: 3/ 97.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 163

..........

______________________________

في الفتوى و الرأي، و إمّا أن تعلم المخالفة بينهما فيها.

أمّا الصورة الأُولى: فقد استدلّ فيها على جواز البقاء بوجوه:

منها: الاستصحاب، و تقريبه أنّه تارة يستصحب الحكم الوضعي و هي الحجيّة الثابتة لفتوى المجتهد الميت قبل موته، و أُخرى يستصحب الحكم التكليفي، و على هذا التقدير تارة يستصحب الحكم الواقعي الثابت لصلاة الجمعة مثلًا، الذي تكون فتوى المجتهد الميت طريقاً إليه و كاشفة عن ثبوته و تحقّقه، و أُخرى يستصحب الحكم الظاهري بناءً على كون الحجيّة المجعولة للأمارة مستلزمة لإنشاء أحكام ظاهرية على طبق مؤدّاها مطلقاً، سواء كانت موافقة للواقع أو مخالفة له، كما نسب إلى المشهور.

أقول: أمّا استصحاب الحجيّة فلا يرد عليه شي ء من الإيرادات المذكورة في الاستصحاب المتقدّم في المقام الأوّل عدا كون الموضوع هو الرأي و النظر، و هو لا يكون باقياً بعد الموت بحسب نظر العرف و العقلاء، حيث يرون الموت موجباً لانعدام الشخص بجميع شئونه و آثاره، و ذلك لأنّ الحجيّة الفعلية تكون مجرى الاستصحاب في هذا المقام؛ لأنّ المفروض وجود المكلّف في عصر المجتهد الميت و ثبوت الحجيّة لفتواه بالإضافة إليه، فلا مانع من استصحابها إلّا على تقدير عدم جريان الاستصحابات الحكمية، أو دعوى عدم كون الحجيّة مجعولًا شرعياً و لا

موضوعاً لأثر شرعيّ، و كلاهما خلاف التحقيق.

و أمّا استصحاب الحكم الواقعي فيرد عليه اختلال كلا ركني الاستصحاب، لعدم اليقين بالحدوث و الشك في البقاء، أمّا اليقين بالحدوث فلعدم ثبوت اليقين الوجداني، و اليقين التعبّدي الذي هو نتيجة حجيّة فتوى الميت و كونها كاشفة عنه و طريقاً إليه أيضاً غير ثابت بعد الموت؛ لأنّ المفروض الشكّ في الحجيّة بعد الموت، فلا يقين بالحدوث في حال الشك في البقاء، و تنظير المقام بموارد ثبوت العلم التعبّدي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 164

..........

______________________________

في الأحكام أو الموضوعات الخارجية كما إذا دلّت الرواية المعتبرة على حكم و شك في بقائه من جهة، كبقاء وجوب صلاة الجمعة بعد ارتفاع الحضور، أو قامت البيّنة على نجاسة شي ء ثمّ شكّ في بقائها و زوالها بالتطهير، حيث يجري الاستصحاب في هذه الموارد في غير محلّه، فإنّه في تلك الموارد يكون اليقين التعبّدي في حال الشك في البقاء محفوظاً لعدم الشكّ في بقاء حجيّة الرواية و اعتبار البيّنة، و هذا بخلاف المقام.

نعم، لو فرض الشك في بقاء الحجيّة بالإضافة إليهما لا مجال حينئذٍ لاستصحاب الحكم الذي هو مفادهما، بل اللازم الرجوع إلى استصحاب الحجيّة كما في المقام.

و أمّا الشك في البقاء، فانتفاؤه ظاهر؛ لأنّ الحكم الواقعي على تقدير حدوثه و ثبوته يكون باقياً قطعاً؛ لأنّه لم يحدث شي ء يشك معه في البقاء على ما هو المفروض، فاستصحاب الحكم الواقعي ممّا لا مجال له أصلًا.

و أمّا استصحاب الحكم الظاهري، فيرد عليه مضافاً إلى أنّ استتباع الحجيّة المجعولة للأحكام الظاهرية على طبق مؤدّى الحجّة و مفادها ممنوع، بل لا يترتّب على جعل الحجيّة إلّا آثارها من المنجّزية و المعذرية بالإضافة

إلى الأحكام الواقعية؛ لعدم الفرق بين حجيّة القطع و حجيّة الظنون المعتبرة فيما يرجع إلى معنى الحجيّة و آثارها أصلًا ما أورده عليه المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) في «الكفاية» من أنّه من المحتمل بل المقطوع أنّ الأحكام التقليدية عند أهل العرف لا تكون أحكاماً لموضوعاتها بقول مطلق، بحيث عدّ من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه بسبب تبدّل الرأي و نحوه، بل إنّما تكون أحكاماً لها بحسب رأيه، بحيث عدّ من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدّل، و مجرّد احتمال ذلك يكفي في عدم صحّة استصحابها؛ لاعتبار إحراز بقاء الموضوع و لو عرفاً «1».

و هذا الإيراد يمكن وروده على استصحاب الحكم الواقعي أيضاً، فإنّ العرف

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 547.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 165

..........

______________________________

يرى الحكم الواقعي منجّزاً ما دام الرأي باقياً، فإذا زال بالموت أو بالتبدّل أو بغيرهما لا يكون منجّزاً عندهم بوجه.

و منها: إطلاق الأدلّة اللفظية الدالّة على التقليد من الآيات و الروايات الواردة فيه عموماً أو خصوصاً «1» فإنّ مقتضى إطلاقها أنّه لا فرق في حجيّة الإنذار و وجوب الحذر عقيبه، و اعتبار قول أهل الذكر و جواز تقليد من كان واجداً للأوصاف المتعدّدة، و ترتيب الأثر على قول مثل زرارة و محمّد بن مسلم و زكريا بن آدم و يونس بن عبد الرحمن، بين البقاء على الحياة بعد تحقّق الرجوع و التقليد و الأخذ و التعلّم، و عدم البقاء عليها. غاية الأمر اعتبار الحياة في الحدوث؛ لظهور العناوين في الفعلية كما عرفت «2». و أمّا بحسب البقاء فلا دلالة فيها على الاعتبار، بل مقتضى إطلاقها العدم كما هو ظاهر.

و منها: و هو العمدة في المقام السيرة

العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم في كلّ فنّ و صنعة، من دون فرق بين أن يكون العالم الذي رجع إليه باقياً على حياته عند العمل بقوله أم لم يكن كذلك، و من الواضح عدم تحقّق الردع عن هذه السيرة العملية العقلائية، و الإجماع الرادع عن السيرة في التقليد الابتدائي غير متحقّق هنا. نعم، حكي عن شيخنا الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) «3» دعوى الإجماع و استظهاره من إطلاق كلمات المجمعين، و لكنّها ممنوعة جدّاً لذهاب جمع كثير و جمّ غفير إلى جواز البقاء على تقليد الميت، فلا مجال معه لدعوى الإجماع.

هذا، و يمكن دعوى السيرة العملية من المتشرّعة في الصدر الأوّل، حيث إنّهم بعد الرجوع إلى أحد من أصحاب الأئمة (عليهم السّلام) و أخذ المعالم منه لم يكن واحد منهم متوقّفاً عن العمل حتى يثبت له بقاء حياة من رجع إليه، أو يرجع إلى الغير بعد ثبوت الممات، خصوصاً مع بعد الشقّة كما في مورد بعض الروايات المتقدّمة «4».

فالإنصاف أنّ هذا الدليل كاف في جواز الاعتماد عليه و الحكم بجواز البقاء

______________________________

(1) سبق ذكرها في ص 64 79.

(2) في ص 172 173، 178.

(3) رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 62.

(4) في ص 77.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 166

..........

______________________________

على تقليد الميت و عدم وجوب الرجوع عنه إلى الحيّ.

نعم، هنا أمران ربّما توهّم اعتبارهما في جواز البقاء:

الأوّل: العمل بفتوى المجتهد الميت على تقدير كون التقليد عبارة عن الاستناد إلى قول الغير في العمل، فإنّه على هذا التقدير لو لم يتحقّق من المقلّد عمل على طبق فتوى المجتهد الميت يكون العمل به بعد الموت تقليداً ابتدائيّاً لا محالة، و

قد مرّ أنّه غير جائز «1». و هذا بخلاف ما لو كان التقليد بمعنى الالتزام أو غيره من الأُمور التي لا يكون للعمل فيها دخل أصلًا، فإنّه لا يكون جواز البقاء على تقليد الميت مشروطاً بسبق العمل، بل يكفي مجرّد الالتزام و نحوه في جواز البقاء.

و لكن لا يخفى أنّ مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت لا تكون بهذا العنوان، و هذه العبارة واردة في دليل من آية أو رواية ليكون الحكم بالجواز دائراً مدار عنوان البقاء على التقليد، كي يلزم ملاحظة معنى التقليد أوّلًا و عنوان البقاء ثانياً، بل هذه العبارة واقعة في كلمات الفقهاء رضوان اللّٰه تعالى عليهم أجمعين و اللازم ملاحظة الأدلّة الدالّة على الجواز ليظهر أنّها هل تدلّ على اشتراط الجواز بالعمل في حال الحياة أم لا؟

فنقول: إمّا استصحاب الحجيّة فمقتضاه بقاء فتوى الميت على وصف الحجيّة الراجعة إلى التنجيز و التعذير بعد موته، فالموضوع هو رأي المجتهد و فتواه، و لا نظر له إلى حال المكلّف الذي قلّده من جهة العمل على طبق فتواه و عدمه، كما هو واضح.

و أمّا الإطلاقات فهي أيضاً كذلك؛ لأنّ الملاك في وجوب الحذر هو إنذار المنذر الحي، و في وجوب ترتيب الأثر هو كون المسئول أهل الذكر من دون مدخلية لعمل المكلّف في ذلك أصلًا.

و هكذا السيرة العقلائيّة التي هي العمدة في أصل مسألة التقليد، فإنّ عدم مدخلية العمل عند العقلاء في ترتيب الأثر على قول العالم بعد الرجوع إليه واضح لا ريب فيه.

فانقدح أنّ العمل لا دخل له في جواز البقاء. نعم، بناء على كون التقليد عبارة

______________________________

(1) في ص 167 184.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 167

..........

______________________________

عن العمل لا بدّ من تحقّق العمل في الجملة و لو ببعض المسائل، فيجوز له حينئذٍ البقاء بالإضافة إلى جميع المسائل و لو فيما لم يعمل بها، و ذلك لئلّا يلزم التقليد الابتدائي الذي قام الدليل على عدم جوازه، فالفرق حينئذٍ بين مدخلية العمل في معنى التقليد و عدمها يظهر في جواز البقاء على الثاني مطلقاً و لو لم يعمل على طبق فتوى الميت أصلًا، فلا يجب عليه العدول إلى المجتهد الحي و عدم جواز البقاء إلّا على تقدير العمل ببعض المسائل، فيجوز له البقاء و لو بالنسبة إلى ما لم يعمل بها، و في غير هذا التقدير يجب عليه العدول إلى الحيّ؛ لأنّه مع البقاء لا يتحقّق إلّا التقليد الابتدائي الذي لا يكون جائزاً، و لذا ذكر في المتن إنّ جواز البقاء إنّما هو بعد تحقّق التقليد بالعمل ببعض المسائل، فتأمّل جيّداً.

الثاني: أن يكون المقلّد ذاكراً لفتوى الميت بعد موته، بحيث لو نسيها بعد ما أخذها و تعلمها لم يجز له البقاء، و قد اختار مدخلية هذا الأمر في جواز البقاء بعض الأعلام في شرح العروة على ما في تقريراته و أفاد في وجهه: أنّه بالنسيان ينعدم أخذه السابق و رجوعه إلى الميت قبل موته؛ لأنّ المقلّد حينئذٍ إنّما يعلم أنّ الميت أفتى في مسألة العصير مثلًا إمّا بنجاسته على تقدير غليانه أو بطهارته، و هو كالعمل الإجمالي بأنّ الحكم الواقعي أمّا الحرمة أو الإباحة ليس بمورد للأثر، بل يحتاج إلى رجوع جديد، و جواز الرجوع إلى الميت حينئذٍ يحتاج إلى دليل؛ لأنّه تقليد ابتدائي للميّت، و قد تحقّق عدم جوازه «1».

و يرد عليه أنّه إن كان المراد بهذا الشرط هو الذكر في مقابل

النسيان، بحيث كان المقلّد بنفسه ذاكراً و مع عدمه لم يجز له البقاء، و إن كان الاطلاع على فتواه ممكناً بالرجوع إلى رسالته العملية أو سائر مقلّديه الذاكرين لفتواه، فلا دليل على اعتباره في جواز البقاء، و كون النسيان موجباً لأن يصير رجوعه من التقليد الابتدائي ممنوع جدّاً، فإنّ الذكر لا دخالة له في عنوان البقاء بوجه، فإنّ المقلِّد لو نسي فتوى المجتهد

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 112.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 168

..........

______________________________

في حال حياته ثمّ اطّلع عليه و تعلّمه ثانياً هل يصير ذلك موجباً لتقليد جديد في تلك الحال أم لا يكون هناك إلّا البقاء على التقليد الأوّلي؟ فإذا عمل في الحج على طبق آرائه و مناسكه ثمّ نسيها فأراد الحج ثانياً، فهل يعدّ هذا تقليداً ابتدائياً أم لا يكون إلّا بقاءً على التقليد الأوّل.

مضافاً إلى ما عرفت من أنّ البقاء بعنوانه لا دليل على جوازه «1»، بل مقتضى الأدلّة بقاء حجيّة فتوى الميّت بعد موته، و جواز الأخذ به لمن كان مقلّداً له في حال الحياة، و لا دلالة لها على اعتبار الذكر و عدم النسيان بوجه، و إلى أنّه لو كان مثل هذا يعدّ تقليداً ابتدائيّاً لم يقم دليل على عدم جواز هذا النحو من التقليد الابتدائي، فتأمّل.

و إن أريد بالذكر هو الذكر في مقابل النسيان، بحيث لا يكون الاطّلاع على فتواه ممكناً؛ لعدم وجود رسالة عملية له و عدم من كان مطّلعاً على نظره، فاعتبار هذا المعنى و إن كان مسلماً إلّا أنّه دخيل في إمكان البقاء لا في جوازه، ضرورة أنّه مع عدمه لا يعقل أن يبقى على

تقليد الميّت، فلا مجال للحكم بأنّه تقليد ابتدائي للميّت، كما هو واضح.

و أمّا الصورة الثانية: و هي ما إذا علمت المخالفة بين المجتهد الميت و الحيّ في الفتوى و النظر، فتارة تكون أعلمية أحدهما بالإضافة إلى الآخر معلومة، و أُخرى غير معلومة، ففي الفرض الأوّل يجب الرجوع إلى الأعلم الحي أو البقاء على تقليد الميت الأعلم؛ لِما عرفت من تعيّن الأعلم للتقليد «2»، و في الفرض الثاني قد يقال: بأنّه لا يكاد يشك في أنّ الفتويين ساقطتان حينئذٍ عن الاعتبار؛ لأنّ الإطلاقات لا تشمل المتعارضين، فلا حجيّة لفتوى الميت و لا الحي، و معه يتعيّن على المكلّف الاحتياط فيما إذا تمكّن منه، و مع عدم التمكّن إمّا لدوران الأمر بين المحذورين، و إمّا لعدم سعة الوقت للاحتياط، كما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب القصر في مورد، و أفتى الآخر بوجوب التمام فيه، و لم يسع الوقت للجمع بين القصر و الإتمام، فالفتويان أيضاً ساقطتان عن الحجيّة،

______________________________

(1) في ص 188.

(2) في ص 121 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 169

..........

______________________________

و الوظيفة هو الامتثال الاحتمالي؛ و هو العمل على طبق إحداهما مخيّراً؛ لأنّ المكلف إذا لم يتمكّن من الامتثال الجزمي و العلمي الإجمالي في مورد يتنزّل العقل إلى الامتثال الاحتمالي، كما لا يخفى.

أقول: هذا مبنيّ على عدم كون الحكم في المجتهدين المتساويين في الفضيلة إذا كانا حيّين هو التخيير من حيث التقليد، أو على اختصاص الدليل على التخيير بما إذا كانا كذلك، فلا يشمل مثل المقام، و أمّا لو قلنا بأنّ الحكم هناك هو التخيير و عدم اختصاصه بتلك الصورة، و شمول دليل التخيير من الإجماع أو السيرة أو

غيرهما لمثل المقام، فلا مجال للرجوع إلى الاحتياط و الحكم بوجوب الامتثال العلمي الإجمالي أوّلًا، و التنزّل إلى الامتثال الاحتمالي ثانياً، خصوصاً مع ملاحظة ما ادّعي من الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على المكلّف العامي، كما مرّ البحث عنه مفصّلًا «1».

ثمّ إن عدم العلم بأعلميّة أحدهما يجتمع مع احتمالها في خصوص واحد منهما، مع أنّك عرفت أنّه إذا كان واحد منهما على نحو التعيين محتمل الأعلمية يكون مقتضى أصالة التعيين العقلية الأخذ به «2».

بقي في هذه المسألة و هي المسألة الثالثة عشر فروع لا بدّ من التعرّض لها:

أحدها: أنّه يجوز الرجوع عن تقليد الميّت إلى الحي الأعلم، و ذكر في المتن إنّ الرجوع أحوط، و تخصيصه جواز الرجوع بما إذا كان المجتهد الحي أعلم إنّما هو مبنيّ على حكمه بعدم جواز العدول إلى المساوي احتياطاً، كما أنّ احتياطه بالرجوع إلى الحي الأعلم مبنيّ على عدم تعيّن الأعلم للتقليد، و أنّ لزوم تقليده إنّما هو من باب حكم العقل بالاحتياط في موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير في باب الحجيّة، و قد تقدّم إنّ مقتضى التحقيق جواز العدول إلى المساوي «3»، فيجوز له الرجوع عن الميت إلى الحيّ المساوي، و تقدّم أيضاً تعيّن الأعلم للتقليد لقيام الدليل عليه «4». و عليه فيجب العدول إلى الحي الأعلم.

______________________________

(1) في ص 105 و ما بعدها.

(2) في ص 150.

(3) في ص 103 و ما بعدها.

(4) في ص 121 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 170

..........

______________________________

و قد مرّ منّا الإشكال على سيّدنا العلّامة الأستاذ دام ظلّه «1» بأنّه إذا كان عدم جواز العدول مبتنياً على الاحتياط العقلي، و الحكم بلزوم تقليد الأعلم

أيضاً مبتنياً عليه، فعند دوران الأمر بينهما لا ترجيح لاختيار الأعلم، و لا مجال للحكم بلزوم تقليده كذلك و العدول إليه، بل مقتضى ما أفاده مجرّد الجواز و تخيير المكلّف بين العدول و الرجوع و بين البقاء، كما لا يخفى.

ثانيها: ما أفاده في المتن بقوله: «و لا يجوز بعد ذلك الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً على الأحوط». و الظاهر أنّ مراده دام ظلّه عدم جواز الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً بعد رجوعه إلى الحي الأعلم، و الوجه في عدم جواز الرجوع حينئذٍ واضح؛ لأنّه من الرجوع عن الأعلم إلى غيره. و بعبارة اخرى بعد ما كان الرجوع إليه واجباً و لو احتياطاً كيف يجوز العدول عنه إلى الميّت مع كونه مفضولًا، خصوصاً مع ملاحظة أنّه لا يجوز العدول إلى المساوي أيضاً عند الماتن دام ظلّه و مقتضى ما ذكرنا أنّ عدم الجواز يكون بنحو الفتوى لا على سبيل الاحتياط اللزومي.

هذا، و قد عنون في العروة هذا الفرع بقوله: إذا عدل عن الميّت إلى الحي لا يجوز له العدول إلى الميّت «2».

و قد حمل بعض الأعلام في شرحها على ما في تقريراته هذه العبارة على موردين، لدعوى اختصاص صحّة العدول بهما، حيث قال: إنّ صحّة العدول إنّما تكون في موردين: أحدهما فيما إذا كان الحي أعلم من الميّت، و ثانيهما فيما إذا كان الميّت أعلم إلّا أنّ المكلّف نسي فتواه، إذ معه لا مسوّغ للبقاء على تقليد الميّت، و المفروض أنّ عدوله إلى الحي صحيح، و مع فرض صحّة العدول لا مجوّز بوجه للعدول عنه إلى تقليد الميّت «3».

أقول: لا ينبغي الإشكال في عدم كون المراد بالعبارة هذين الموردين، بل المراد هي الصورة التي يكون المقلّد

مخيّراً في البقاء و عدمه، و هو فيما إذا كانا متساويين

______________________________

(1) في ص 120، 139، 165.

(2) العروة الوثقى: 1/ 6 مسألة 10.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 118.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 171

..........

______________________________

في الفضيلة و العلم، سواء علمت المخالفة بينهما في الفتوى أم لم تعلم. غاية الأمر أنّه لا بدّ من البحث و التكلّم حينئذٍ في الجواز و عدمه:

فنقول: الوجه في الجواز هو استصحاب التخيير الثابت قبل الرجوع عن الميّت، بمعنى أنّ المقلّد كان يجوز له اختيار فتوى المجتهد الحي الذي وقع الكلام في جواز العدول عنه، كما كان يجوز له اختيار فتوى المجتهد الميّت، فهو كان مخيّراً بين الأمرين، و له الأخذ بكلّ واحدة من الفتويين، و الآن كما كان بمقتضى دليل الاستصحاب.

و الوجه في عدم الجواز مضافاً إلى أصالة الاحتياط لكون المورد من قبيل الدوران بين التعيين و التخيير، و الإيراد عليه بأنّه لا مجال لها، إذ كما يحتمل وجوب البقاء على تقليد الميت يحتمل وجوب العدول عنه، فاحتمال التعيين موجود في كلّ من الطرفين، كما يحتمل أيضاً التخيير، و في مثله يجب البناء على التخيير بعد قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على العامي، حتى أحوط القولين المتعيّن في نظر العقل لو لا الإجماع المذكور، مندفع بأنّه لا منشأ لاحتمال وجوب العدول عن الميّت بعد ملاحظة كون المفروض صورة تساوي المجتهدين في الفضيلة، و كون البقاء على تقليد الميّت جائزاً بمقتضى الاستصحاب أو غيره من الأدلّة، فمع لحاظ هذين الأمرين لا مجال لاحتمال وجوب العدول و تعيّن المجتهد الحيّ، فالمورد من قبيل الدوران بين التعيين و التخيير الذي يحكم العقل فيه

بأصالة التعيين.

كما أنّ الإيراد عليه بأنّه لو فرضنا تساوي الميّت و الحي مع العلم بالمخالفة بينهما يكون مقتضى القاعدة سقوط فتواهما عن الاعتبار للمعارضة، و لا يبقى معه الدوران بين التعيين و التخيير، مندفع أيضاً مضافاً إلى أنّ محلّ البحث أعمّ من صورة العلم بالمخالفة بينهما؛ لما عرفت من أنّ مورد البحث صورة تساوي المجتهدين في الفضيلة، سواء علمت المخالفة أم لم تعلم، بأنّ هذا مبنيّ على ما هو المشهور، و مقتضى التحقيق من ثبوت التخيير في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 172

..........

______________________________

مثل هذا المورد، و عدم سقوط كلتا الفتويين عن الاعتبار كما تقدّم البحث عنه «1» هو كون العدول عن الحي إلى الميت تقليداً ابتدائياً للميت، و قد قام الإجماع على عدم الجواز و المنع عنه، اللّهم إلّا أن يمنع شموله لمثل المقام ممّا كان المكلّف مقلِّداً للميّت في برهة من الزمان.

ثمّ إنّه لا يختلف الحكم بعدم جواز العدول عن الحي إلى الميّت بالاختلاف في معنى التقليد و أنّه هو الالتزام و شبهه، أو العمل استناداً إلى قول الغير؛ لِما ذكرنا من أنّ مبنى عدم جواز العدول هو كونه تقليداً ابتدائيّاً للميّت، فحمل الحكم بعدم الجواز على مبنى كون التقليد هو الالتزام ممّا لا وجه له أصلًا.

نعم، هذا الاختلاف إنّما يثمر في أصل موضوع العدول، حيث إنّ العدول على تقدير كون التقليد بمعنى الالتزام يتحقّق برفع اليد عن الالتزام الأوّل، و الالتزام بالرجوع إلى آخر ثانياً، و أمّا على تقدير كونه بمعنى العمل فهو لا يتحقّق إلّا بالعمل، فإذا أفتى أحدهما بوجوب صلاة الجمعة مثلًا، و الآخر بحرمتها، فالعدول عن تقليد القائل بالحرمة إنّما يتحقّق بالإتيان بها

استناداً إلى فتوى القائل بالوجوب، فالاختلاف في معنى التقليد إنّما يثمر في موضوع العدول لا في حكمه من الجواز و عدمه، فتدبّر جيّداً.

ثالثها: ما ذكره في المتن بقوله: «و لا إلى حيّ آخر كذلك إلّا إلى أعلم منه، فإنّه يجب على الأحوط» و المقصود أنّه بعد ما رجع عن الميّت إلى الحيّ لا يجوز له العدول عن الحيّ إلى حي آخر احتياطاً، إلّا إذا كان أعلم من الحي الأوّل، فإنّه يجب العدول إليه احتياطاً، و قد ظهر ممّا ذكرنا وجه ما أفاده، كما أنّه ظهر أنّ المختار جواز العدول في المستثنى منه إذا كانا متساويين، و وجوبه في المستثنى بنحو الفتوى.

رابعها: إنّه لا بدّ و أن يكون البقاء على تقليد الميت مستنداً إلى فتوى الحي الذي بجواز ذلك، بحيث لو بقي على تقليد الميّت من دون الرجوع إلى الحي كان كمن عمل من غير تقليد، و هذا إنّما هو فيما إذا احتمل المكلّف العامي ارتفاع

______________________________

(1) في ص 191.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 173

[تعاقب تقليد الأموات]

مسألة 14: إذا قلّد مجتهداً ثمّ مات فقلّد غيره ثمّ مات فقلّد في مسألة البقاء على تقليد الميّت من يقول بوجوب البقاء أو جوازه، فهل يبقى على تقليد المجتهد الأول أو الثاني؟ الأظهر البقاء على تقليد الأوّل إن كان الثالث قائلًا بوجوب البقاء، و يتخيّر بين البقاء على تقليد الثاني و الرجوع إلى الحي إن كان قائلًا بجوازه (1).

______________________________

الحجيّة يفتي عن الفتوى بالموت حتى يجب عليه الرجوع إلى العالم، و أمّا لو فرض ثبوت القطع له ببقاء الحجيّة لا يبقى مجال للرجوع إلى الحي في ذلك كما هو واضح، كما أنّه ربّما يكون الحامل

له على الرجوع إلى الحي فتوى المجتهد الميّت بأنّه يعتبر في البقاء الرجوع إلى الحيّ، فإنّه مع ملاحظة هذه الفتوى إذا أراد البقاء لا بدّ و أن يرجع إلى الحي؛ لأنّ لازم البقاء على تقليد الميّت في جميع فتاواه التي منها اعتبار الرجوع إلى الحي في البقاء الرجوع إلى الحيّ، و هو ظاهر.

(1) المفروض في هذه المسألة ما إذا لم يكن المجتهد الثاني الذي قلّده بعد موت الأوّل قائلًا بوجوب البقاء على تقليد الميّت؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد من تقليده إيّاه هو تقليده في جميع المسائل لا خصوص مسألة البقاء على تقليد الميّت، و القول بعدم وجوب البقاء و إن كان يجتمع مع القول بحرمة البقاء إلّا أنّ الظاهر أنّ المراد غير هذه الصورة، فينحصر في القول بالجواز.

وجه الظهور أنّ الظاهر كون المراد من تقليد الثاني هو تقليده اختياراً، بحيث كان للمكلّف العامي الرجوع إليه و تقليده، و كان له البقاء على تقليد الأوّل، و قد اختار المقلّد الشقّ الأوّل، فالمفروض في العبارة ظاهراً هو ما إذا كان الثاني قائلًا في مسألة البقاء بجوازه، و لكنّه لا مانع من توسعة دائرة البحث و التكلّم فيما إذا كان قائلًا بالحرمة أيضاً فهنا فرضان:

الفرض الأوّل: ما إذا كان المجتهد الثاني قائلًا بجواز البقاء، و اختار المكلّف

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 174

..........

______________________________

عدمه و الرجوع إلى الحيّ في سائر المسائل، و قد مرّ أنّه المقصود من العبارة، و فيه صورتان:

إحداهما: ما إذا كان المجتهد الثالث أيضاً قائلًا بالجواز، و الأُخرى ما إذا كان الثالث قائلًا بالوجوب.

أمّا الصورة الأُولى: فلا إشكال فيها في جواز البقاء على تقليد الثاني في سائر المسائل؛ لأنّ

المفروض أنّ المكلّف قد قلّده بعد موت الأوّل، و الثالث الحيّ قائل بجواز البقاء على تقليد الميّت، فيجوز له البقاء على تقليد الثاني بعد موته، كما أنّه يجوز له الرجوع إلى الثالث بلا ريب، و أمّا جواز البقاء على تقليد الأوّل فيبتني على ملاحظة أنّ فتوى الثالث بجواز البقاء هل يجوز أن تشمل البقاء على تقليد الميّت في مسألة جواز البقاء كما تشمل سائر المسائل أم لا يمكن شمولها له، فعلى تقدير الإمكان لا مانع من البقاء على تقليد الأوّل؛ لأنّه يجوز للمكلّف استناداً إلى فتوى الثالث الحي البقاء على تقليد الثاني في جميع المسائل التي منها مسألة البقاء، التي حكم الثاني فيها بالجواز، كما أنّه على تقدير عدم الإمكان لا مجال له للبقاء؛ لأنّ البقاء على الأوّل يصير بلا مستند؛ لأنّ المفروض أنّ فتوى الثالث لا تشمل مسألة البقاء، و فتوى الثاني و إن كانت هي الجواز لكنّه حيث اختار المكلّف عدمه و الرجوع إليه يكون البقاء على الأوّل حينئذٍ عدولًا، كما إذا أراد العدول إلى الأوّل في حياة الثاني، و قد مرّ عدم جواز هذا النحو من العدول «1».

و الظاهر عدم إمكان الشمول، من دون فرق بين ما إذا كان نظر الثاني و الثالث متّحداً فيما هو الموضوع للحكم بالجواز و متّفقاً من حيث الإطلاق و التقييد أم لا، و من دون فرق أيضاً في صورة الاختلاف من هذه الجهة بين ما إذا كان نظر الثالث أوسع من الثاني، كما إذا كان البقاء جائزاً عنده مطلقاً و لو فيما لم يعمل به من المسائل أو لم يتعلّم، و كان جواز البقاء عند الثاني مقيّداً بما إذا عمل مثلًا، و بين ما إذا كان

نظر الثاني أوسع من الثالث.

______________________________

(1) في ص 192 195.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 175

..........

______________________________

و الدليل على عدم الشمول أمران:

أحدهما: اللغوية و تحصيل الحاصل، و ذلك لأنّ شمول فتوى الثالث الحيّ بجواز البقاء لفتوى الثاني الميّت بالجواز لا يترتّب عليه أيّ فائدة؛ لأنّ الشمول إن كان بلحاظ استفادة الجواز في نفس هذه المسألة فمن الواضح أنّه بعد حكم الحي بالجواز لا حاجة إلى استفادة الجواز من فتوى غيره أيضاً، و إن كان بلحاظ استفادة الجواز بالإضافة إلى سائر المسائل الفرعية فمن الواضح أنّها أيضاً لا تحتاج إلى الحكم بالجواز ثانياً؛ لأنّ فتوى الحيّ بالجواز صارت موجبة لاتّصاف فتوى الميت فيها بالحجيّة، فلا تفتقر إلى الاتّصاف بالحجيّة ثانياً من طريق فتوى الميّت بجواز البقاء التي صارت حجّة لأجل فتوى الحي بالجواز، بل لا يعقل ذلك؛ لأنّ الحجيّة بعد الحجّيّة، و المنجّزية بعد المنجّزية، و المعذريّة بعد المعذريّة غير معقولة.

و هذا فيما إذا كان النظران متّحدين أو كان نظر الحيّ أوسع واضح. و أمّا مع كون نظر الميت أوسع بحيث كان الجواز عند الحي مقيّداً بصورة العمل مثلًا، و المفروض أنّه لم يعمل بجميع المسائل، فالوجه في عدم الشمول مضافاً إلى ما ذكر عدم تحقّق العمل بفتوى الميّت في هذه المسألة؛ لأنّ المفروض أنّه لم يبق على تقليد المجتهد الأوّل حتى يكون بقاؤه عليه عملًا بفتوى الثاني بالجواز.

و دعوى أنّ الرجوع إلى الثاني و تقليده أيضاً عمل بفتواه بالجواز في مسألة البقاء؛ لأنّ اختيار أحد الطرفين لا يوجب عدم تحقّق العمل بوجه، مدفوعة بأنّه يكون كذلك إذا كان مختاره الطرف الآخر؛ و هو البقاء الذي لا يجتمع مع الحكم بالحرمة و

أمّا إذا كان مختاره الرجوع إلى الثاني و تقليده إيّاه في المسائل فلا يعدّ هذا عملًا بفتواه بالجواز، ضرورة أنّ الرجوع إليه يجتمع مع الحكم بالحرمة أيضاً فكيف يكون عملًا بالجواز، فتدبّر جيّداً.

ثانيهما: استحالة أخذ الحكم في موضوع نفسه، نظراً إلى أنّ جواز البقاء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 176

..........

______________________________

الذي هو حكم كيف يعقل أن يؤخذ في موضوع نفسه و يقال بأنّه يجوز البقاء في جواز البقاء.

و دعوى أنّ المستحيل إنّما هو أن يؤخذ حكم في موضوع شخصه، نظراً إلى أنّ مرجعه إلى كون الحكم مفروض التحقّق حين جعله و إنشائه، و أمّا في مثل المقام فلا مانع منه، نظراً إلى أنّه لا مانع من أن تكون حجيّة فتوى الميت بجواز البقاء مترتّبة على حجيّة فتوى الحيّ به؛ لأنّهما فتويان، مدفوعة جدّاً بأنّه ليس البحث في حجيّة فتوى الحيّ، بل في إمكان شمول فتواه التي لا إشكال في حجيّتها لفتوى الميت بجواز البقاء، و من المعلوم أنّ جواز البقاء ليس إلّا حكماً واحداً. غاية الأمر اتّحادهما في هذا الحكم و اتّفاقهما في هذه الفتوى، فكيف يعقل حينئذٍ أن يصير الحكم موضوعاً في نفسه، بحيث يصير جواز البقاء ظرفاً و متعلّقاً لنفس جواز البقاء، كما هو ظاهر.

و لعلّه لما ذكرنا اختار سيّدنا العلّامة الأستاذ دام ظلّه في المتن أنّ العامي مخيّر بين أن يبقى على تقليد الثاني، و بين أن يرجع إلى الثالث الحي فيما إذا كان قائلًا بجواز البقاء، و قد عرفت أنّ الظاهر كون المفروض في العبارة ما إذا كان الثاني أيضاً قائلًا بالجواز، و لازم ما أفاده عدم جواز البقاء على تقليد الأوّل في هذه الصورة

بوجه.

و أمّا الصورة الثانية: و هي ما إذا كان الثالث قائلًا بالوجوب، و قد اختار دام ظلّه في هذه الصورة تعيّن البقاء على تقليد الأوّل، و الوجه فيه أنّ رجوعه إلى الثاني بعد موت الأوّل كان باطلًا بمقتضى فتوى الثالث بوجوب البقاء؛ لأنّ وظيفة المكلّف كانت من أوّل الأمر البقاء على تقليد الأوّل و لم يكن له الرجوع إلى الثاني بعد موت الأوّل. غاية الأمر أنّه كان معذوراً في ذلك ما دام كان الثاني موجوداً، و الآن ارتفع العذر و يجب عليه البقاء على التقليد الذي كان صحيحاً؛ و هو تقليد الأوّل فقط.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 177

..........

______________________________

نعم، فيما إذا فرض مجتهدان فقط مات أحدهما و الآخر حيّ، و قد قلّد العامي الأوّل و هو معتقد بجواز البقاء، و الآن يكون الحي قائلًا بوجوب البقاء، وقع البحث في أنّه هل تشمل فتوى الحي بالوجوب فتوى الميّت بالجواز، و مرجعه حينئذٍ إلى التخيير بين البقاء و بين العدول إلى الحيّ، فيجوز له العدول إلى الحي و أخذ فتاواه في سائر المسائل الفرعية، أو أنّها لا تشمل إيّاها فيجب عليه البقاء على تقليد الميّت في غير هذه المسألة من سائر المسائل؟

ربّما يقال بالعدم، نظراً إلى أنّ مرجع فتوى الحي بوجوب البقاء إلى كون فتاوى الميّت حجّة على مثل هذا المقلّد على نحو التعيين، و لا يجوز له العدول إلى الغير و أخذ الفتوى منه، و مرجع فتوى الميّت بالجواز إلى كون فتاواه حجّة على سبيل التخيير، فإذا قلنا بشمول فتوى الحيّ بالوجوب لفتوى الميّت بالجواز يلزم أن تكون سائر فتاوى الميّت متّصفة بالحجيّة التعيينيّة و التخييريّة معاً، و هذا من

المستحيل؛ لأنّه يشبه الجمع بين المتناقضين.

و الأظهر أنّه لا مانع عن الشمول، سواء كان نظرهما متّحداً من حيث ما هو الموضوع للحكم بالوجوب أو الجواز أو مختلفاً، و ذلك لعدم كون الاتّصاف بالحجيّتين في رتبة واحدة و عرض واحد، فإنّ اتّصافها بالحجيّة التعيينيّة إنّما هو لأجل فتوى الحي بالوجوب و شمولها لها من دون واسطة، و بالحجيّة التخييريّة إنّما هو بلحاظ توسيط فتوى الميّت بالجواز، و هذا ممّا لا مانع منه أصلًا، كما أنّ فتوى الحيّ بوجوب السورة مثلًا في الصلاة لا تنافي فتواه بوجوب البقاء على تقليد الميّت مع فرض كون فتوى الميّت هو عدم وجوب السورة، فإنّ الحكم بالوجوب إنّما هو لاقتضاء اجتهاده له من دون توسيط، و الحكم بعدم الوجوب إنّما هو بلحاظ فتوى الميّت بالعدم و ثبوت حجّيتها بعد الموت أيضاً كما هو ظاهر، هذا تمام الكلام في الفرض الأوّل.

و أمّا الفرض الثاني: و هو ما إذا كان المجتهد الثاني قائلًا بحرمة البقاء و وجوب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 178

..........

______________________________

الرجوع عن الميّت إلى الحيّ، و المجتهد الثالث قائلًا بوجوب البقاء و عدم جواز العدول أو بجوازه، ففيه أيضاً صورتان:

الصورة الأُولى: ما إذا كان الثالث قائلًا بوجوب البقاء و عدم جواز العدول، و فيه أقوال:

أحدها: ما حكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) في رسالة الاجتهاد و التقليد ممّا يرجع إلى أنّه بعد عدم إمكان شمول فتوى الحي بالوجوب لفتوى الميت بالحرمة، نظراً إلى لزوم التناقض يجب عليه البقاء على رأي الثاني في المسائل العملية، التي رجع فيها بفتوى الثاني عن الأوّل؛ لأنّ تقليد الثاني و رجوعه عن الأوّل بالنسبة إلى تلك المسائل وقع

صحيحاً فيجب البقاء عليه.

ثمّ احتمل (قدّس سرّه) ترجيح الأوّل نظراً إلى أنّ تقليد الثاني في المسائل المعدول عنها إنّما هو بتقليده في وجوب الرجوع، فإذا كان الإفتاء بالبقاء لا يشمله على ما هو المفروض فلا يشمل ما يترتّب عليه أيضاً «1».

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ عدم شمول فتوى الحي بوجوب البقاء لفتوى الميّت بوجوب الرجوع ليس لأجل التناقض، بل لأنّ المسألة الواحدة لا تحتمل تقليدين و لا تصلح للرجوع فيها إلى شخصين، و لو لم يكن اختلاف في البين و كانت الفتويان مترتّبتين، فإنّه بعد ما رجع فيها إلى فتوى الحيّ بمقتضى حكم العقل، و أخذها و قلّد الحيّ فيها لا يبقى في هذه المسألة مجال للتقليد و موقع للأخذ بفتوى الغير أصلًا؛ لعدم الفرق بينها و بين سائر المسائل في عدم الاحتمال للتقليدين و عدم القابلية للرجوع إلى شخصين، فوجه عدم الشمول ما ذكرنا لا ما أفاده من التناقض أنّ ما أفاد أوّلًا من وجوب البقاء على رأي الثاني غير تامّ؛ لأنّه لو كان الملاك فيه هو اتّصاف التقليد الثاني بالصحّة و وقوعه كذلك، فمن الواضح أنّ التقليد الأوّل أيضاً يكون صحيحاً و متّصفاً بوصف الصحّة، و لا مرجّح للتقليد الثاني بعد اتّصاف كلاهما بتلك الصفة لو لم نقل باختصاص

______________________________

(1) رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 66.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 179

..........

______________________________

الوصف بالتقليد الأوّل، كما هو ظاهر.

ضرورة أنّه بملاحظة فتوى الثالث بوجوب البقاء يستكشف بطلان التقليد الثاني؛ لأنّ وظيفته كانت هو البقاء على التقليد الأوّل و لم يجز له الرجوع إلى الثاني. غاية الأمر أنّه كان معذوراً في ذلك لأجل استناده إلى الحجّة؛ و

هي فتوى الثاني بحرمة البقاء، و لكنّ المعذوريّة إنّما تدوم ما دام الثاني حيّاً، فإذا مات و كانت فتوى الحيّ وجوب البقاء يستكشف أنّ وظيفته كانت من أوّل الأمر البقاء على التقليد الأوّل، فبملاحظة فتواه يعلم عدم وقوعه صحيحاً، فكيف يجب البقاء عليه.

ثانيها: ما اختاره المحقّق الأصفهاني (قدّس سرّه) في رسالة الاجتهاد و التقليد، و حاصله يرجع إلى وجوب البقاء على تقليد المجتهد الثاني في المسائل العملية، نظراً إلى أنّه لا يلزم التناقض من شمول فتوى الحيّ بوجوب البقاء لفتوى الميّت بوجوب الرجوع، لأنّ رأي الثاني و إن تعلّق بحكم كلّي و هو وجوب الرجوع من دون اختصاصه بمن سبقه في الإفتاء، لكنّه ليس كلّ ما هو مقتضى الأدلّة و متعلّق الرأي يصحّ التقليد فيه.

أ لا ترى أنّ مقتضى الأدلّة وجوب التقليد مع أنّه لا يمكن التقليد في أصل وجوب التقليد؛ للزوم الدور و التسلسل، و كذلك المقام، فإنّه لا يعقل تقليد المفتي بوجوب الرجوع حتى في الرجوع عن نفسه بعد موته، فإنّ حجّية رأيه و فتواه بعد موته في هذه المسألة و غيرها على حدّ سواء، فلا يعقل الاستناد إلى رأيه و لو في هذه المسألة بنفس رأيه حدوثاً و بقاءً، و ميزان التقليد في المسألة الكليّة صحّة العمل على طبقها في جميع أفرادها و إنْ لم يعمل إلّا في بعضها، و من الواضح عدم صحّة العمل على طبقها كلّياً حتى في الرجوع عنه بعد موته أو البقاء على رأيه بعد موته، فلا محالة لا يعقل حجيّة رأيه بوجوب الرجوع إلّا بالإضافة إلى من سبقه في الإفتاء، و لا بأس حينئذٍ بشمول الفتوى بوجوب البقاء لهذه المسألة، فإنّ معنى وجوب الرجوع عن غيره عدم

جواز

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 180

..........

______________________________

تطبيق العمل على رأي الغير، و البقاء على هذا الرأي معناه موافقة الثالث للثاني في عدم جواز تطبيق العمل على فتوى الأوّل ورائه.

و منه يظهر أنّه لا يعقل تساوي نسبة وجوب البقاء إلى كلا التقليدين، بل يترجّح جانب الثاني قهراً، مضافاً إلى أنّ وجوب البقاء إن كان لأجل استصحاب الأحكام المقلّد فيها فالترجيح للثاني؛ لانقطاع الاستصحاب في الأوّل بالرجوع إلى الثاني «1»، و إن كان لاستصحاب حرمة العدول فهو أيضاً منقطع بجواز الرجوع إلى الثاني انتهى ملخّصاً.

و يرد عليه ما عرفت من عدم احتمال مسألة البقاء على تقليد الميّت لتقليدين و لو كانا مترتّبين فمع الرجوع إلى فتوى الحيّ بوجوب البقاء لا يبقى مجال للرجوع فيها إلى الغير، سواء كان هو الميّت أو الحيّ الآخر، و سواء كان في طوله أو في عرضه، و مع عدم الشمول لا أثر لما تكلّفه من إثبات اختصاص فتوى الميّت بوجوب الرجوع بخصوص من سبقه بالإفتاء، حتى يتحقّق التوافق بين الثاني و الثالث على عدم حجيّة فتوى المجتهد الأوّل، ضرورة أنّ ثمرة سعة دائرة هذه الفتوى و ضيقها إنّما هي على فرض الشمول، و بدونه لا ينتج ما أفاده أصلًا.

مضافاً إلى ما عرفت من أنّ فتوى الثالث بوجوب البقاء إنّما يكون موضوعها التقليد الصحيح، و تقليد الثاني لا يكون صحيحاً عند الثالث؛ لأنّه كانت وظيفة المكلّف بحسب رأي الثالث هو البقاء على تقليد المجتهد الأوّل و لم يكن له الرجوع إلى الثاني. غاية الأمر أنّه كان معذوراً في الرجوع إليه ما دام الثاني باقياً، و بعد موته و فتوى الحي بوجوب البقاء يستكشف أنّه لم يكن

له الرجوع إلى الثاني.

و من هنا ظهر أنّ ما أفاده من ترجيح جانب التقليد الثاني قهراً ممنوع؛ لعدم تساويه مع الأوّل فضلًا عن كونه راجحاً عليه، كما أنّ التمسّك باستصحاب الأحكام المقلّد فيها لا يوجب ثبوت الرجحان للثاني؛ لأنّ جريانه فرع ثبوتها بسبب التقليد الصحيح،

______________________________

(1) بحوث في الأُصول، الاجتهاد و التقليد: 29 31.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 181

..........

______________________________

و المفروض بمقتضى فتوى الثالث عدم كون تقليد الثاني تقليداً صحيحاً؛ لأنّه كان يجب عليه البقاء على الأوّل.

و منه يظهر النظر في اقتضاء استصحاب حرمة العدول ذلك؛ لأنّ العدول المحرّم إنّما هو العدول عن التقليد الصحيح لا عن كلّ تقليد، و إن لم يكن متّصفاً بهذا الوصف.

ثالثها: ما اختاره في المستمسك من تعيّن البقاء على تقليد الأوّل، حيث إنّه بعد بيان أنّه إذا قلّد بكراً و هو المجتهد الثالث في مسألة البقاء يمتنع الرجوع إلى عمرو و هو المجتهد الثاني في هذه المسألة؛ لأنّ المسألة الواحدة لا تحتمل تقليدين مترتّبين؛ لأنّه لو بني على جواز اجتماع المثلين في رتبتين فلا أقلّ من لزوم اللغوية مع اتّفاقهما عملًا أو التناقض مع اختلافهما.

و لا مجال لتوهّم أنّه يكون هناك مسألتان لاختلاف موضوعهما، نظراً إلى أنّ فتوى الميّت حرمة البقاء على تقليد زيد و هو المجتهد الأوّل و فتوى الحيّ وجوب البقاء على تقليد عمرو، فلا مانع من الرجوع في كلّ واحدة إلى واحد و ذلك لأنّ خصوصيّة عمرو ليست مقوّمة للقضية الشرعية التي يرجع فيها العامي إلى بكر، ضرورة أنّ فتواه وجوب البقاء بنحو الكليّة، قال: و من ذلك يظهر أنّه لو كان رأي بكر وجوب البقاء وجب البقاء على تقليد زيد و

إن كان رأي عمرو وجوب العدول «1».

و يرد عليه أنّ ما أفاده في وجه عدم شمول فتوى الحيّ بوجوب البقاء لفتوى الميّت بوجوب الرجوع و إن كان صحيحاً، و كذا ما رتّب عليه من الثمرة من وجوب البقاء على تقليد زيد، إلّا أنّ ترتّب هذه الثمرة ممّا لم يعلم وجهه و لم يظهر من تلك المقدّمة أصلًا، و الوجه فيها ما عرفت من عدم كون تقليد الثاني صحيحاً حتى يجب البقاء عليه، و على تقدير التنزّل عن ذلك و الاكتفاء بالصحّة و لو مع انكشاف الخلاف يجوز البقاء على تقليد كلّ من الأوّلين، فتدبر.

______________________________

(1) مستمسك العروة: 1/ 33 34.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 182

[هل ينعزل الوكيل و المنصوب بموت المجتهد أم لا؟]

مسألة 15: المأذون و الوكيل عن المجتهد في التصرّف في الأوقاف أو الوصايا أو في أموال القصّر ينعزل بموت المجتهد، و أمّا المنصوب من قبله بأن نصّبه متولّياً للوقف أو قيّماً على القصر فلا يبعد عدم انعزاله، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط بتحصيل الإجازة أو النصب الجديد للمنصوب من المجتهد الحيّ (1).

______________________________

الصورة الثانية: ما إذا كان الثاني قائلًا بوجوب العدول و الثالث بجواز البقاء، و في هذه الصورة لا إشكال في جواز الرجوع في سائر المسائل العملية إلى المجتهد الثالث الحيّ و الأخذ بفتاواه و تطبيق العمل عليها؛ لأنّ المفروض تجويزه البقاء و العدول معاً، و قول الثاني بوجوب العدول أيضاً يساعده، و أمّا إذا أراد البقاء مستنداً إلى فتوى الثالث بجوازه فهل يبقى على تقليد الأوّل أو الثاني، أو يتخيّر بين الأمرين؟ وجوه و احتمالات.

و الظاهر هو الوجه الثاني؛ لأنّ رجوعه إلى الثاني و الأخذ بفتاواه كان صحيحاً على طبق رأيه و رأي

الثالث، فالعدول عنه إلى الأوّل و تطبيق العمل على فتاواه يكون عدولًا، و قد مرّ أنّ هذا النحو من العدول غير جائز «1»، سيّما إذا لم يكن الثاني و الأوّل متساويين من حيث الفضيلة، بل كان الأوّل مفضولًا بالإضافة إليه، فتأمّل جيّداً.

(1) أمّا الانعزال بالموت في المأذون و الوكيل فلقيام الإجماع على بطلان الوكالة بموت الموكّل «2»، مضافاً إلى أنّ الوكالة متقوّمة بالإذن من الموكّل، و الموت يخرجه عن أهلية التصرّف و الإذن، فلا مجال للنيابة عنه و القيام مقامه كما هو ظاهر.

و أمّا عدم الانعزال بالموت في المنصوب من قبله كما في المتولّي للوقف أو القيّم على الصغير، فالمحكي عن الإيضاح أنّه نفى الخلاف عن عدم انعزال الأولياء و القوّام المجعولين من قبل المجتهد «3»، و قال صاحب الجواهر (قدّس سرّه) بعد حكاية ما في الإيضاح: إن تمّ إجماعاً فذاك و إلّا كان المتّجه ما ذكرنا يعني الانعزال.

______________________________

(1) في ص 192 195، 197.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، در يك جلد، دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم، قم - ايران، دوم، 1414 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد؛ ص: 182

(2) مفتاح الكرامة: 7/ 612، جواهر الكلام: 27/ 360.

(3) إيضاح الفوائد: 4/ 305.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 183

..........

______________________________

نعم، لو كان النصب وكيلًا أو وليّاً عن الإمام (عليه السّلام) و كان ذلك جائزاً له لم ينعزل قطعاً «1».

و المستفاد من هذه العبارة أنّ المجتهد الجاعل للولاية و الناصب للولي تارة يجعلها عن نفسه للولي، بحيث تكون ولاية الولي من شئون ولاية

المجتهد الذي ولّاه، و أُخرى يجعلها عن الإمام (عليه السّلام)، فتكون من شئون ولاية الإمام، و إن كان الجاعل لها المجتهد، و عليه فالمجتهد واسطة في الثبوت. كما أنّه يستفاد منها أنّ النصب بالنحو الأوّل و جوازه ممّا لا إشكال فيه، و لكن عدم الانعزال فيه يتوقّف على تماميّة الإجماع على خلاف القاعدة المقتضية للانعزال، و بالنحو الثاني يكون أصل جوازه مشكوكاً، لكن عدم الانعزال على فرض الجواز مسلّم على طبق القاعدة؛ لأنّه حينئذٍ وليّ عن الإمام و لا تبطل ولايته بموت المجتهد، و لا ينحصر ذلك بالولاية بل يجري في الوكالة أيضاً.

هذا، و لكن ربّما يستشكل في أصل جواز الجعل بكلا النحوين، بأنّ ذلك مبنيّ على ثبوت الولاية المطلقة في زمان الغيبة، إذ حينئذٍ يتمكّن من نصب المتولّي و القيِّم و نحوهما. و أمّا بناءً على عدم ثبوت الولاية المطلقة له فلا يجوز له إعطاء هذه المناصب لغيره بعد عدم دلالة دليل عليه، فإنّ قوله (عليه السّلام) في مقبولة عمر بن حنظلة: فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً «2» لا يفيد الولاية كذلك، فإنّ الحاكم فيها ليس إلّا بمعنى القاضي، كما ورد في صحيحة أبي خديجة، حيث قال: فإنّي قد جعلته قاضياً «3». بل زاد المستشكل فقال ما ملخّصه:

إنّه لو سلّمنا ثبوت الولاية المطلقة للفقيه على النصب، فالقدر المتيقّن إنّما هو ولايته على النصب و هو حيّ، و أمّا ولايته على النصب ما دام كون المنصوب حيّاً

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 66.

(2) الكافي: 1/ 67 ح 10، التهذيب: 6/ 218 ح 514 و ص 301 ح 845، الوسائل: 27/ 136 كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1.

(3) الكافي: 7/ 412 ح 4، الفقيه:

3/ 2 ح 1، التهذيب: 6/ 219 ح 516، الوسائل: 27/ 13، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 1 ح 5، و ص 139 ب 11 ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 184

..........

______________________________

و إن مات المجتهد فهي مشكوكة الثبوت، و مقتضى الأصل العدم، و دعوى جريان السيرة على إعطاء هذه المناصب من القضاة، مندفعة بأنّ السيرة على ذلك غير ثابتة، و أنّ المقدار الثابت أنّ القضاة لهم نصب القيّم و المتولّي حال حياتهم، و أمّا أنّ لهم النصب إلى الأبد الباقي بعد الموت فلا، و لا مجال للتمسّك بالاستصحاب بعد كونه من الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكمية غير الجارية عندنا، و على تقدير جريانها أيضاً لا يجري في المقام؛ لعدم إحراز الموضوع بعد احتمال أن تكون ولاية القيّم أو المتولّي من آثار ولاية القاضي و شئونها «1».

و لكنّ الظاهر كما يأتي في محلّه ثبوت الولاية المطلقة للفقيه في عصر الغيبة، و أنّه يتمكّن من نصب المتولّي و القيّم كما يتمكّن الإمام (عليه السّلام) من نصبهما، و يؤيّده جريان السيرة على إعطاء هذه المناصب و بقائها بعد موت الناصب، بل قد عرفت من الإيضاح دعوى عدم الخلاف فيه، و لا تصل النوبة إلى الاستصحاب مع أنّه على تقدير وصولها إليه لا مجال للإشكال في جريانه، لجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية أوّلًا، و عدم الإشكال من ناحية إحراز الموضوع ثانياً؛ لأنّ احتمال كون ولاية القيِّم أو المتولّي من آثار ولاية القاضي و شئونها لا يرجع إلّا إلى احتمال البقاء و العدم، و إلّا فالموضوع هو الشخص المنصوب الذي بقاؤه محرز بالوجدان، فلا وجه للإشكال في الاستصحاب أصلًا.

و قد انقدح ممّا

ذكرنا أنّه كما لا ينعزل القيّم أو المتولّي بموت المجتهد فيما إذا كان منصوباً على النحو الثاني المذكور في كلام صاحب الجواهر (قدّس سرّه)، كذلك لا ينعزل فيما إذا كان منصوباً على النحو الأوّل أيضاً، لا لمجرّد قيام الإجماع عليه على تقديره بل لأنّ كون ولايته من شئون ولاية القاضي الجاعل لا تلازم الانعزال بالموت؛ لاحتمال عدم كون نيابته عنه من قبيل نيابة الوكيل التي تبطل بموت الموكّل إجماعاً «2» و قاعدةً، بل من قبيل نيابة الوصي غير الباطلة بموت الموصي، فمجرّد النيابة

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 379 381.

(2) مفتاح الكرامة: 7/ 612، جواهر الكلام: 27/ 36.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 185

[صحّة العمل في صورة اختلاف المجتهد الحيّ مع الميّت]

مسألة 16: إذا عمل عملًا من عبادة أو عقد أو إيقاع على طبق فتوى من يقلِّده فمات ذلك المجتهد فقلّد من يقول ببطلانه يجوز له البناء على صحّة الأعمال السابقة، و لا يجب عليه إعادتها و إن وجبت عليه فيما يأتي العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني (1).

______________________________

و التبعيّة لا تلازم الانعزال بالموت، و لكنّ الاحتياط المذكور في المتن لا ينبغي تركه.

(1) و في العروة بعد حكمه بمثل ما في المتن قال: و أمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شي ء كالغسالة ثمّ مات و قلّد من يقول بنجاسته، فالصلوات و الأعمال السابقة محكومة بالصحّة، و إن كان مع استعمال ذلك الشي ء. و أمّا نفس ذلك الشي ء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته. و كذا في الحلية و الحرمة، فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلًا، فذبح حيواناً كذلك فمات المجتهد و قلّد من يقول بحرمته، فإن باعه أو

أكله حكم بصحّة البيع و إباحة الأكل، و أمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه و لا أكله و هكذا «1».

أقول: الحكم في المسألة بعدم وجوب الإعادة في العبادات و صحّة المعاملات الواقعة على طبق فتوى المجتهد الأوّل و حلِّية أكل الذبيحة و بيعها مبنيّ على مبحث الإجزاء، الذي وقع البحث فيه مفصّلًا في الأُصول، و قد اختلف فيه على أقوال مختلفة، و لكنّ الذي ينبغي التعرّض له هنا خروج بعض فروض المسألة عن النزاع في باب الإجزاء، كالاكتفاء بالتسبيحات الأربع مرّة واحدة، فإنّ مثل ذلك من الأجزاء و الشرائط غير الركنية لا يكون الإخلال به موجباً للإعادة، و لو كان العمل مخالفاً للواقع قطعاً فضلًا عن مثل المقام.

و ذلك لاقتضاء حديث لا تعاد «2» عدم وجوب الإعادة إلّا من ناحية الخمسة المستثناة فيه؛ و هي الطهور و الوقت و القبلة و الركوع و السجود، و قد حقّقنا في محلّه عدم اختصاص الحديث بالناسي و شموله للجاهل القاصر بل المقصّر.

______________________________

(1) العروة الوثقى: 1/ 18 مسألة 53.

(2) الفقيه: 1/ 181 ح 857، الوسائل: 4/ 312، أبواب القبلة ب 9 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 186

..........

______________________________

كما أنّه ربّما يقال بأنّه لا فرق بين مثال الغُسالة و مثال الحيوان المذبوح الموجود، و بين الزوجة المعقود عليها بالفارسية، التي تبقى على الحلِّية بعد العدول إلى الثاني الذي لا يرى جواز العقد بالفارسية، نظراً إلى أنّ طهارة الماء من آثار عدم انفعاله بملاقاة النجاسة في مقام التطهير، و الملاقاة لمّا كانت سابقة كانت مورداً لتقليد الأوّل لا الثاني، و كذا الحال في حلِّية لحم الحيوان المذبوح بغير الحديد، فإنّها من

آثار تذكيته بغير الحديد و هي واقعة في السابق، و المرجع فيها فتوى الأوّل و تترتّب عليه أحكامها، فلا فرق بين مثال الزوجة و المثالين.

و المعيار أنّ الأثر الثابت حال تقليد الثاني إن كان من آثار السبب الواقع في حال تقليد الأوّل فالعمل فيه على تقليد الأوّل، و إن كان من آثار أمر حاصل حين تقليد الثاني فالعمل فيه عليه لا على تقليد الأوّل، مثلًا لو كان عنده مسكر فأفتى الأوّل بطهارته فرتّب عليه أحكام الطهارة ثمّ مات، فقلّد من يقول بنجاسته وجب عليه اجتنابه؛ لأنّ الحكم المذكور من آثار ذاته الحاضرة بخلاف الأمثلة المذكورة.

بقي في هذا المقام شي ء ينبغي التنبيه عليه؛ و هو أنّ ظاهر الماتن دام ظلّه هنا و في المسألة الخامسة و العشرين الآتية إن شاء اللّٰه تعالى أنّ الحكم بصحّة الأعمال السابقة إنّما هو لأجل وقوعها مع التقليد، الذي تكون صحّته مقطوعة أو محرزة بأصالة الصحّة، و لازم ذلك أنّه إذا كانت الأعمال السابقة المطابقة للمرجع في ذلك الزمان واقعة لا عن تقليد رأساً عمداً أو غفلة لا مجال حينئذٍ للحكم بصحّتها، ففي الحقيقة صحّة الأعمال السابقة من آثار صحّة التقليد و وقوعها مستندة إلى فتوى المجتهد، مع أنّك ستعرف فيما يأتي «1» إن شاء اللّٰه تعالى أنّ صحّة التقليد لا يترتّب عليها أثر إلّا في مسألة العدول و مسألة البقاء. و أمّا من ناحية الأعمال و الحكم بصحّتها فلا أثر للتقليد في ذلك، بل الملاك هي المطابقة للواقع أو لفتوى المجتهد، و قد صرّح الماتن دام ظلّه بذلك في المسألة الثانية المتقدّمة.

______________________________

(1) في ص 258.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 187

[إذا قلّد مجتهداً من غير فحص]

مسألة 17: إذا

قلّد مجتهداً من غير فحص عن حاله ثمّ شكّ في أنّه كان جامعاً للشرائط وجب عليه الفحص، و كذا لو قطع بكونه جامعاً لها ثمّ شكّ في ذلك على الأحوط، و أمّا إذا أحرز كونه جامعاً لها ثمّ شكّ في زوال بعضها عنه كالعدالة و الاجتهاد لا يجب عليه الفحص، و يجوز البناء على بقاء حالته الأُولى (1).

______________________________

نعم وقع الاختلاف في أنّ الملاك في الصحّة هي المطابقة لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه الرجوع حال العمل، أو لفتوى المجتهد الذي يريد الرجوع إليه حال الالتفات أو الندامة، و سيأتي ما هو التحقيق في ذلك إن شاء اللّٰه تعالى «1» فانتظر.

(1) الظاهر أنّ المراد من فرض المسألة ما إذا قلّد مجتهداً مع إحراز كونه واجداً لشرائط المرجعية من الاجتهاد و العدالة و نحوهما، إمّا بالعلم الوجداني كما في الفرض الثاني، أو بقيام البيّنة كما في الفرض الأوّل ثمّ بعد مضي برهة من الزمان شكّ في أنّه هل كان عند تقليده واجداً للشرائط أم لا؟ و ذلك لاحتمال خطئه في العلم باستجماعه للشرائط أو لظهور فسق البيّنة التي قامت عليه.

و قد حكم دام ظلّه في الفرض الأوّل بوجوب الفحص؛ لأنّ البيّنة القائمة قد انكشف سقوطها عن الاعتبار بانكشاف فسق الشاهدين أو أحدهما، و كما أنّ حدوث التقليد لا بدّ و أن يكون مستنداً إلى قيام الحجّة و نهوض الدليل، كذلك البقاء على التقليد، و لم يقم دليل على أنّ مجرّد قيام البيّنة و لو مع انكشاف الفسق بعد ذلك يكفي في البقاء، بل يجب عليه الفحص.

و أمّا الفرض الثاني، فيبتني على قاعدة اليقين و الشكّ الساري، فإن قلنا بحجيّتها كما أنّ الاستصحاب حجّة معتبرة يكفي مجرّد العلم

في جواز البقاء، و إن زال العلم و تبدّل إلى الشكّ لقيام الدليل التعبّدي عليه، لكنّ الحق كما قد حقّق في محلّه «2» أنّه

______________________________

(1) في ص 232 235.

(2) فرائد الأُصول: 2/ 297 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 188

[لو عرض للمجتهد ما يوجب فقده للشرائط]

مسألة 18: إذا عرض للمجتهد ما يوجب فقده للشرائط من فسق أو جنون أو نسيان يجب العدول إلى الجامع لها، و لا يجوز البقاء على تقليده، كما أنّه لو قلّد من لم يكن جامعاً للشرائط و مضى عليه برهة من الزمان كان كمن لم يقلّد أصلًا، فحاله حال الجاهل القاصر

______________________________

لا دليل على حجيّة قاعدة اليقين، و أنّ الأخبار «1» الناهية عن نقض اليقين بالشكّ لا دلالة لها إلّا على حجيّة خصوص الاستصحاب و لا تعمّ كلتا القاعدتين، و ليس هنا دليل آخر في البين، و عليه فلا مناص من الالتزام بوجوب الفحص.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ عدم وجوب الفحص في الفرض الثالث، الذي يكون الشكّ بحسب البقاء فقط و لم يكن سارياً إلى الحدوث، إنّما هو لاستصحاب بقاء الشرائط من العدالة و الاجتهاد و نحوهما، و قد قرّر في محلّه أنّ الأصول الجارية في الشبهات الموضوعيّة لا يجب الفحص في مجراها، بل تجري من دون فحص، بخلاف الأصول الجارية في الشبهات الحكمية، حيث إنّ جريانها مشروط بالفحص.

ثمّ إنّ وجوب الفحص في الفرضين الأوّلين بلحاظ البقاء إنّما هو في مورد حرمة العدول، و في غيره لا يجب الفحص، فإذا فرض أنّه كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة، فاختار واحداً منهما فقلّده ثمّ شكّ في استجماعه للشرائط بحسب الحدوث يجوز العدول إلى الآخر من دون فحص إذا قلنا بكون

التخيير استمراريّاً، و عليه فوجوب الفحص إنّما هو في مورد حرمة العدول، كما إذا كان المجتهد الذي قلّده على تقدير الاستجماع أعلم من غيره، أو لم نقل بالتخيير الاستمراري في المجتهدين المتساويين في الفضيلة، أو لم نقل بجواز العدول أصلًا.

و يمكن أن يقال: إنّ وجوب الفحص وجوب شرطيّ مرجعه إلى أنّ شرط جواز البقاء على تقليد من شكّ في استجماعه حدوثاً هو الفحص، و عليه فلا فرق بين مورد حرمة العدول و غيره كما هو ظاهر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 1/ 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1، و ج 3/ 477، أبواب النجاسات ب 41 ح 1، و ج 8/ 216، كتاب الصلاة، أبواب الخلل ب 10 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 189

أو المقصر (1).

______________________________

(1) أمّا وجوب العدول إلى الجامع في الفرض الأوّل الذي عرض للمجتهد ما يوجب فقده لبعض الشرائط فلظهور الأدلّة في أنّ جواز التقليد متوقّف على تحقّق الشرائط حدوثاً و بقاءً، و إذا زالت الشرائط بأجمعها أو ببعضها يرتفع جواز التقليد، فيجب عليه الرجوع إلى غيره الواجد للشرائط. نعم، في خصوص شرط الحياة قام الدليل على عدم اعتباره بقاءً، و أنّه يجوز البقاء على تقليد الميّت كما تقدّم البحث عنه مفصّلًا «1». و أمّا في غيره فظاهر الأدلّة اعتبارها في البقاء أيضاً، و عليه فلا مجال لما نسب إلى بعض من القول بكفاية حصول الشرائط حدوثاً.

و الظاهر أنّ المراد بالنسيان الذي مثل به أيضاً في المتن ليس نسيان فتاواه و آرائه، فإنّ ذلك لا يكون موجباً للعدول عنه بعد اطلاع المقلّد عليها؛ لأجل اشتمال رسالته العملية عليها أو لغيره، بل المراد به

هو نسيان طريق الاستنباط و زوال قوّة الاجتهاد عنه، بحيث لا يتمكّن منه و لا تكون له هذه القوّة بالفعل.

و أمّا الفرض الثاني الذي يكون المقلّد فيه كمن لم يقلّد أصلًا فلبطلان تقليده فيه؛ لأنّ المفروض عدم كون مقلّده جامعاً لشرائط التقليد، و وضوح كون المعتبر من الشرائط هي الواقعية منها لا العلمية، و إن كانت مخالفة للواقع، فمن كان واجداً للشرائط واقعاً يجوز تقليده كذلك و إن لم يعلم باستجماعه لها، و من لم يكن واجداً لها لا يجوز تقليده و إن علم باستجماعه لها، كما لا يخفى.

و أمّا كون حاله في هذا الفرض حال الجاهل القاصر أو المقصّر فهو يختلف باختلاف الموارد، فإذا كان معذوراً في تقليده لأجل حصول العلم له أو قيام البيّنة على كونه جامعاً للشرائط يكون حاله حال الجاهل القاصر، و إذا لم يكن معذوراً في تقليده كما إذا قلّده من دون علم و لا قيام طريق شرعي فحاله حال الجاهل المقصّر، و لكن هذا التفصيل إنّما يثمر بناءً على اختلاف الجاهلين في الحكم، و أمّا بناءً على عدم الاختلاف فلا يترتّب على هذا التفصيل ثمرة، و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّٰه تعالى

______________________________

(1) في ص 184 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 190

[ما يثبت به الاجتهاد]

مسألة 19: يثبت الاجتهاد بالاختبار و بالشياع المفيد للعلم و بشهادة العدلين من أهل الخبرة، و كذا الأعلمية، و لا يجوز تقليد من لم يعلم أنّه بلغ مرتبة الاجتهاد و إن كان من أهل العلم، كما أنّه يجب على غير المجتهد أن يقلِّد أو يحتاط، و إن كان من أهل العلم و قريباً من الاجتهاد (1).

______________________________

في المسألة

العشرين، فانتظر.

(1) الطريق إلى معرفة الاجتهاد و ثبوته و كذا الأعلمية بعد رجوع الوجه الثاني إلى الأوّل لاشتراكهما في حصول العلم و اختلافهما في مجرّد السبب الموجب لحصول العلم، أمران:

الأوّل: العلم بحصول الاجتهاد أو الأعلمية من أيّ طريق حصل أو أيّ سبب تحقّق؛ لأنّه حجّة عقلًا و لا تناله يد الجعل شرعاً، نفياً أو إثباتاً. نعم، لا يبعد أن يقال بأنّه يعامل مع العلم العادي الذي يعبّر عنه بالاطمئنان معاملة العمل الواقعي؛ لأنّه أيضاً حجّة. غايته أنّه حجّة عقلائيّة كما أنّ الأوّل حجّة عقلية.

الثاني: شهادة عدلين من أهل الخبرة و قيام البيّنة، و حيث إنّ البيّنة من الطرق غير العلمية و لا تكون حجّة عقلية فلا بدّ من إقامة الدليل على حجيّتها و خروجها عن القاعدة المعروفة؛ و هي أنّ مشكوكة الحجيّة مقطوع عدم حجيّتها، و الشكّ فيها يساوق القطع بالعدم، فنقول:

ما يمكن أن يستدلّ به على اعتبار البيّنة أُمور:

منها: دعوى الإجماع على اعتبارها في الموضوعات الخارجية التي يترتّب عليها حكم أو أحكام في الشريعة المقدّسة، كالنجاسة و الغصبية و الملكية و العدالة و الاجتهاد و أشباهها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 191

..........

______________________________

و قد أُورد على هذه الدعوى بأنّ هذا الإجماع على تقدير تحقّقه لا يكون واجداً لملاك الحجيّة، و لا يكون كاشفاً عن موافقة المعصوم (عليه السّلام)، لاحتمال أن يكون مستند المجمعين شيئاً من الوجوه الآتية، و عليه لا يبقى للإجماع أصالة، بل يلزم النظر في تلك الوجوه و استفادة حكم البيّنة منها، كما لا يخفى «1».

و يمكن الجواب عن الإيراد بأنّه حيث لا تكون الوجوه الآتية ظاهرة الدلالة على حجيّة البيّنة، بل أكثرها أو كلّها مخدوشة، فالإجماع

على اعتبارها بنحو يكون كإرسال المسلّمات لا يبعد أن يقال بكشفه عن موافقة المعصوم (عليه السّلام)؛ لعدم التلاؤم بين هذا النحو من الإرسال و بين الوجوه التي لا تكون دلالتها على حجيّة البيّنة ظاهرة، كما هو ظاهر.

و منها: أنّه لا إشكال في اعتبار البيّنة في مورد الترافع و الخصومة و تقدّمها على غير الإقرار مثل اليمين و نحوها، فإذا كانت معتبرة في ذلك الباب مع وجود المعارض و ثبوت المكذّب حيث إنّ المنكر بإنكاره يكذّب البيّنة و يعارضها ففي ما إذا لم يكن لها معارض كما في المقام و نحوه تكون معتبرة بطريق أولى، فالدليل على حجّية البيّنة في ذلك الباب يدلّ بمفهوم الموافقة على الحجيّة في مثل المقام.

و أُورد عليه بأنّ اعتبار شي ء في باب المرافعات و الخصومات لا دلالة له على اعتباره في غيرها أصلًا، فضلًا عن أن يكون بطريق أولى؛ لأنّ بقاء التنازع و التخاصم ينجرّ إلى اختلال النظام و هو مبغوض للشارع، و غرضه رفعها بأيّ نحو كان، فاعتبار شي ء في ذلك الباب لا يلازم الاعتبار في غيره، كما أنّ اليمين مع اعتبارها في فصل الخصومة لا تكون معتبرة في غيره «2».

و منها: الروايات التي يمكن استفادة اعتبار البيّنة منها، و عمدتها رواية مسعدة ابن صدقة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سمعته يقول: كلّ شي ء هو لك حلال حتى تعلم

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 208.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 208.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 192

..........

______________________________

أنّه حرام بعينه فتدعه من قِبَلِ نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، أو

المملوك عندك و لعلّه حُرٌّ قد باع نفسه أو خُدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك و هي أختك أو رضيعتك، و الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة «1».

و الكلام في هذه الرواية تارة من حيث السند و أُخرى من جهة الدلالة:

أمّا من الجهة الأُولى: فقد عبّر عنها الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) «2» بالموثّقة، و لعلّ هذا الاتّصاف مشهور بينهم، مع أنّه لم يوثّق مسعدة راوي الحديث في شي ء من الكتب الرجالية القديمة التي هي الأساس لسائر الكتب، بل المحكي عن العلّامة «3» و المجلسي «4» و غيرهما «5» تضعيفه، و غاية ما ذكر في مدحه أنّ رواياته غير مضطربة المتن، و أنّ مضامينها موجودة في سائر الموثّقات.

هذا، و لكن توثيق الشيخ (قدّس سرّه) بضميمة وقوع الرجل في سند بعض الروايات الواقعة في كامل الزيارات لابن قولويه مع تصريح مؤلّفه في ديباجته بأنّه لم يروِ في ذلك الكتاب إلّا الأخبار التي رواها الثقات من الأصحاب و لا تكون متّصفة بالشذوذ يكفي في جواز الاعتماد عليها، و إن كان الرجل عاميّاً.

و أمّا من الجهة الثانية: فتقريب دلالتها أنّه (عليه السّلام) بعد الحكم بثبوت الحليّة الظاهرية للأشياء التي شك في حلِّيتها و حرمتها، و إيراد أمثلة لذلك حكم بأنّ الأشياء كلّها كذلك محكومة بالحليّة إلّا مع استبانة الحرمة و العلم بها أو قيام البيّنة و شهادة العدلين عليها، فيستفاد منها اعتبار البيّنة في موارد الشك في الحلِّية و الحرمة، و بضميمة أنّه لا فرق بين الشبهات الموضوعيّة في باب الحليّة و الحرمة، و بينها في غير ذلك الباب كموارد الطهارة و النجاسة، و لم يقل أحد بالفصل يتمّ المطلوب؛ و

هي حجيّة البيّنة في جميع

______________________________

(1) الكافي: 5/ 13 ح 40، التهذيب: 7/ 226 ح 989، الوسائل: 17/ 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.

(2) راجع فرائد الأُصول: 3/ 351. تحقيق لجنة التحقيق، المطبعة باقري.

(3) خلاصة الأقوال: 401 الرقم 1661.

(4) الوجيزة في الرجال: 178 رقم 1881.

(5) رجال السيّد بحر العلوم: 3/ 336 339.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 193

..........

______________________________

الموارد التي منها الاجتهاد و الأعلمية المبحوث عنهما في المقام، فتدبّر.

و قد استشكل فيها بوجوه من الإشكال:

أحدها: و هو العمدة، أنّ الرواية ظاهرة بل صريحة في أنّ الحكم بالحلّية في الموارد المذكورة فيها مستند إلى أصالة الحلّية التي يدلّ عليها قوله (عليه السّلام) في صدر الرواية: «كلّ شي ء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه» و أنّ تلك الموارد من أمثلة القاعدة المذكورة و صغريات هذه الكبرى الكليّة، مع أنّ الحلّية فيها لا تستند إلى قاعدة الحلّية بوجه.

ضرورة أنّ الحلّية في مثال الثوب مستندة إلى اليد التي هي أمارة على الملكية عند العقلاء و في الشريعة، و في مثال العبد إلى الإقرار أو اليد أيضاً، و في مثال المرأة إلى استصحاب عدم تحقّق الرضاع و عدم اتّصافها بكونها رضيعة له، و إلى استصحاب عدم الأختية بناءً على جريانه، و على فرض عدم الجريان كما هو الحقّ لا يكون هناك حلّية أصلًا، بل الثابت هي أصالة الفساد و عدم ترتّب الأثر على النكاح، و من الواضح استهجان إيراد قاعدة كليّة ثمّ ذكر أمثلة خارجة عن تلك القاعدة، خصوصاً مع التصريح بالقاعدة ثانياً. و تكرارها في الذيل كما في الرواية و خصوصاً مع كون الحكم في بعضها على

خلاف القاعدة المذكورة.

و الجواب: أنّ هذا الإشكال و إن كان ممّا لا سبيل إلى حلِّه، إلّا أنّه لا يضرّ بالاستدلال بالرواية على ما هو المقصود في المقام من حجيّة البيّنة، فإنّ عدم انطباق القاعدة على الموارد المذكورة و الأمثلة لا يستلزم خروج ذيل الرواية الدالّ على اعتبار البيّنة و أنّ قيامها يوجب سقوط أصالة الحلّية عن الاعتبار و الحجيّة، فتأمّل.

ثانيها: أنّ كلمة «البيّنة» لم تثبت لها حقيقة شرعية و لا متشرعيّة، و إنّما استعملت في الكتاب «1» و الأخبار بمعناها اللغوي؛ و هو ما به البيان و الظهور. و بعبارة أُخرى هي بمعنى الحجّة، فلا مجال للاستدلال بالرواية على حجيّة البيّنة بالمعنى الاصطلاحي

______________________________

(1) سورة الأعراف: 7/ 73، 85، 105، سورة هود: 11/ 53، سورة البيّنة: 98/ 1، 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 194

..........

______________________________

الذي هو محلّ البحث و الكلام.

و الجواب: أنّ ظهور «البيّنة» مع الإطلاق و عدم وجود قرينة على الخلاف في هذا المعنى الاصطلاحي ممّا لا ينبغي إنكاره، و يدلّ عليه استعمالها فيه من الصدر الأوّل في مثل قوله: «البيّنة على من ادّعى و اليمين على من أنكر» «1» و قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان «2» و غيرهما من الموارد الكثيرة، و لم يعلم استعمالها في الكتاب و غيره في غير هذا المعنى الاصطلاحي من دون قرينة، كما في التعبير المعروف: «دعوى فلان خالية عن البرهان و البيّنة».

و يدلّ على كون المراد بالبيّنة في الموثّقة خصوص المعنى الاصطلاحي أنّه لو كان المراد بها هو المعنى اللغوي يلزم أن تكون الاستبانة أيضاً من مصاديق البيّنة، فيكون العطف من قبيل عطف العام

على الخاص؛ و هو خلاف ما هو المتفاهم عرفاً منها، كما لا يخفى.

ثالثها: أنّه على تقدير تماميّة دلالة الموثّقة على اعتبار البيّنة بمعناها المصطلح لا دلالة لها على اعتبارها في المقام؛ و هو الاجتهاد و الأعلمية؛ لأنّهما ليسا من الأُمور الحسيّة بل يُستكشفان بالحدس و الاختبار، و البيّنة إنّما تكون معتبرة في خصوص المحسوسات.

و الجواب: أنّ هذين الأمرين و كذا مثلهما كالعدالة من الأُمور الحدسيّة القريبة إلى الحسّ، و قد قام الدليل في باب العدالة، و هو كذلك عند العقلاء أيضاً؛ لأنّه يعامل معها عندهم معاملة الأُمور المحسوسة، كما يظهر بمراجعتهم.

و تؤيّد الموثقة في الدلالة على اعتبار البيّنة رواية عبد اللّٰه بن سليمان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الجبن قال: كلّ شي ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة «3».

______________________________

(1) الوسائل: 27/ 293، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم ب 25 ح 3، السنن الكبرى للبيهقي: 15/ 393 ح 21804.

(2) الكافي: 7/ 414 ح 1، الوسائل: 27/ 232، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 2 ح 1.

(3) الكافي: 6/ 339 ح 2، الوسائل: 25/ 118، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة ب 61 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 195

..........

______________________________

و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّه لا مجال للإشكال في اعتبار البيّنة و حجيّتها في الموضوعات الخارجية، التي يترتّب عليها حكم شرعي و منها الاجتهاد و الأعلمية.

ثمّ إنّه ربّما يقال: بأنّ الاجتهاد و الأعلمية كما أنّهما يثبتان بقيام البيّنة و شهادة العدلين كذلك يثبتان بخبر الواحد العادل، بل لا حاجة إلى عدالة المخبر، بل تكفي الوثاقة في ذلك كالخبر الواحد القائم على حكم من الأحكام

الشرعية.

و ما قيل في وجه الاعتبار أمران:

أحدهما: استمرار السيرة العقلائيّة و جريانها على الاعتماد عليه في الموضوعات الخارجية، و لم يتحقّق عنها ردع في الشريعة، فلا محيص عن الالتزام بالحجيّة كما في الأحكام العملية الفرعية. أمّا جريان السيرة على ذلك فممّا لا ريب فيه. و أمّا عدم الردع فلأنّ ما يتخيّل أن يكون رادعاً هو موثّقة مسعدة بن صدقة المتقدّمة، نظراً إلى أنّ ذيلها و هو قوله (عليه السّلام): «و الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة» يدلّ على حصر المثبت بالاستبانة و قيام البيّنة، فلو كان خبر الواحد أيضاً مثبتاً لما كان وجه للحصر، و لكان اللازم ذكره مع البيّنة كما هو ظاهر.

و أجيب عنه أوّلًا: بمنع كون الموثّقة بصدد الحصر، لوضوح عدم اختصاص المثبت بالأمرين المذكورين في الرواية؛ لأنّ الاستصحاب و الإقرار و حكم الحاكم و أشباهها أيضاً مثبتات للتحريم في مواردها، فلو كانت بصدد الحصر يستلزم ذلك تخصيص الأكثر المستهجن.

و ثانياً: بأنّ البيّنة في الموثقة بمعنى الحجّة و ما به البيان، و لا بدّ من تشخيص الصغرى من الخارج، و لا دلالة لها على أنّ ما به البيان ما ذا، فإذا أقمنا الدليل على اعتبار الخبر في الموضوعات الخارجيّة استكشفنا بذلك أنّه أيضاً كالبيّنة المصطلحة مصداق للكبرى و من افراد الحجّة.

و ثالثاً: بأنّ عدم ذكر الخبر الواحد في قبال العلم و البيّنة إنّما هو من جهة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 196

..........

______________________________

خصوصيّة في موردها، و هي أنّ الحليّة في مفروضها كانت مستندة إلى قاعدة اليد في مسألة الثوب، و من الواضح عدم اعتبار خبر الواحد مع وجود اليد، فكأنّه

(عليه السّلام) كان بصدد بيان ما يعتبر في جميع الموارد على وجه الإطلاق.

و يرد على هذا الجواب مضافاً إلى ما ذكرنا في بيان المراد من الموثّقة من عدم كون المراد بالبيّنة فيها إلّا البيّنة المصطلحة أنّ رادعيّة الموثّقة لا تتوقّف على دلالة ذيلها على الحصر، فإنّ نفس دلالتها على اعتبار البيّنة مرجعها إلى عدم اعتبار خبر الواحد العادل فضلًا عن الثقة، فإنّ البيّنة إنّما تغاير مع خبر الثقة في أمرين: أحدهما التعدّد و الآخر العدالة، و مع اشتمالها على هذه المزيّة و الإضافة من جهة الكمّية و الكيفيّة، لو كان خبر الواحد الثقة مثل البيّنة معتبراً في الموضوعات الخارجيّة لكان ذكر البيّنة و الحكم عليها بالاعتبار خصوصاً في مقام إلقاء القاعدة الكليّة و إفادة حكم كلّي لغواً لا يترتّب عليه إلّا إيهام الخلاف، فذكر البيّنة في هذا المقام من أقوى الشواهد على دخالتها في الحكم بالاعتبار، و عدم كون ما ينقص عنها من إحدى الجهتين مشتركاً معها في الحجيّة، خصوصاً مع ملاحظة أنّ شهادة الشخصين لا تقع في الخارج نوعاً إلّا تدريجاً، بمعنى وقوع احدى الشهادتين متأخّرة عن الأُخرى، و عليه فلو كانت الشهادة الأُولى كافية في مقام ترتيب الأثر و ثبوت الحكم لكانت الشهادة الثانية لغواً و من قبيل تحصيل الحاصل.

و بالجملة: لو لم يكن خبر الواحد الثقة متسانخاً مع البيّنة أصلًا لم يكن اعتبار البيّنة في الموثّقة دالّاً على عدم اعتباره من جهة عدم إفادتها للحصر بوجه. و أمّا مع وجود التسانخ و ثبوت الاختلاف من جهة الكميّة و الكيفيّة فقط لا مناص عن الالتزام بأنّ اعتبارها يدلّ على مدخلية الكيفيّة و الكمّية في الحكم به، و هو يدلّ على عدم اعتبار الناقص

من إحدى الجهتين أو كلتيهما كما لا يخفى. و عليه فرادعيّة الموثّقة لا تتوقّف على دلالتها على الحصر بوجه، بل نفس دلالتها على حجيّة البيّنة تصلح رادعة عن السيرة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 197

..........

______________________________

العقلائيّة و مانعة عن إعمالها في الشريعة المطهّرة.

و أمّا الجواب الثالث، فيرد عليه أنّ استناد الحلّية في مسألة الثوب إلى قاعدة اليد التي لا يكون خبر الواحد معتبراً معها لا يصلح للإغماض عن ذكر خبر الواحد في مقام إفادة القاعدة الكلّية و إلقاء الضابطة العامّة، خصوصاً مع ملاحظة ما تقدّم من الوجه الأوّل من وجوه الإشكال على الرواية من عدم استناد الحليّة في شي ء من الأمثلة إلى نفس القاعدة الكلّية، التي هي محطّ نظر الرواية و الغرض الأصلي لها كما لا يخفى.

و قد انقدح ممّا ذكرنا كفاية الموثّقة في مقام الردع عن السيرة، و عليه فالموارد التي قام الدليل فيها على حجيّة خبر الواحد الثقة لا يمكن أن يتعدّى منها إلى غيرها من الموضوعات الخارجية و تلك الموارد، مثل الإخبار بدخول الوقت، و الإخبار بعزل الوكيل، و إخبار البائع باستبراء الأمَة، أو بوزن المبيع الموزون و أشباهها.

ثانيهما: ما في المستمسك من ثبوت الاجتهاد بخبر الثقة؛ لعموم ما دلّ على حجيّته في الأحكام الكليّة، إذِ المراد منه ما يؤدّي إلى الحكم الكلّي، سواء كان بمدلوله المطابقي أم الالتزامي، و المقام من الثاني، فإنّ مدلول الخبر المطابقي هو وجود الاجتهاد، و هو من هذه الجهة يكون إخباراً عن الموضوع، لكن مدلوله الالتزامي هو ثبوت الحكم الواقعي الكلي الذي يؤدّي إليه نظر المجتهد، ثمّ قال:

فإن قلت: أدلّة حجيّة خبر الثقة مختصّة بالإخبار عن حس و لا تشمل

الإخبار عن حدس، و لذا لم تكن تلك الأدلّة دالّة على حجّية فتوى المجتهد مع أنّها إخبار عن الحكم الكلّي إلّا أنّ مستنده الحدس.

قلت: الإخبار عن الاجتهاد من قبيل الإخبار عن الحسّ. نعم، المدلول الالتزامي و هو الحكم الكلّي إنّما كان بتوسّط الحدس، لكن هذا المقدار لا يقدح في الحجيّة؛ لأنّ الحسن إنّما يعتبر في المدلول المطابقي لا في الملازمة التي يتوقّف عليها ثبوت المدلول الالتزامي، و إلّا فأخبار زرارة عن قول الإمام (عليه السّلام) الذي هو إخبار عن موضوع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 198

..........

______________________________

يكون إخباراً عن الحكم الكلّي و يكون حجّة على المجتهد، و ربّما يكون بتوسّط حدس المجتهد الذي هو حجّة عليه أيضاً.

و بالجملة: الإخبار عن الاجتهاد كالإخبار عن قول الإمام (عليه السّلام)، و دلالتهما على الحكم بالالتزام إنّما يكون بتوسّط الحدس. غاية الأمر أنّ الحدس في الثاني من المجتهد و حجّة عليه، و الحدس في الأوّل من المجتهد و حجّة على العامي المقلِّد له، و على هذا المبنى يكفي توثيق رجال السند بخبر الثقة، و كذا في إثبات المعنى بإخبار اللغوي الثقة «1».

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ أدلّة حجيّة خبر الواحد لا دلالة لها على حجّية الخبر في خصوص الأحكام الكليّة، حتى تصل النوبة إلى البحث عن أنّ إخبار الثقة بالاجتهاد هل يكون مشمولًا لعمومها أم لا؟ فإنّ عمدتها هي السيرة العقلائيّة الجارية على العمل بخبر الثقة، و من الواضح كما عرفت أنّه لا فرق في جريان السيرة بين ما إذا كان المخبر به حكماً أو موضوعاً، بل مورد آية النبإ «2» هو الإخبار بالموضوع الخارجي؛ و هو ارتداد بني المصطلق.

و عليه لا

بدّ من البحث في ثبوت المانع عن شمول الأدلّة لخبر الثقة في الموضوعات الخارجيّة لا في وجود المقتضي للاعتبار و عدمه، و قد عرفت ثبوت المانع؛ و هي موثّقة مسعدة بن صدقة الدالّة على الردع و عدم الاكتفاء بالواحد بدلًا عن الاثنين، و الوثاقة بدلًا عن العدالة؛ و إلى أنّ ما أفاده على تقدير تماميّته إنّما يتمّ في مثل الاجتهاد ممّا يكون مفاده الإخبار عن الحكم الكلّي الإلهي، لا في مطلق الموضوعات الخارجية التي لا يترتّب عليها نوعاً إلّا الأحكام الجزئية.

أوّلًا: أنّ مجرّد الإخبار عن الاجتهاد لا يكون إخباراً عن الحكم الكلّي الإلهي و لو بنحو المدلول الالتزامي، فإنّ الاجتهاد بمجرّده الذي يرجع إلى ثبوت الملكة و تحقّق القدرة لا يلازم الحكم ما لم يتحقّق منه الاستنباط خارجاً، فإنّه يمكن أن لا يتحقّق

______________________________

(1) مستمسك العروة: 1/ 38 39.

(2) سورة الحجرات: 49/ 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 199

..........

______________________________

من المجتهد استنباط أصلًا و إن كانت الملكة موجودة له، و عليه فكيف يكون مجرّد الإخبار عن الاجتهاد إخباراً عن الحكم الإلٰهي، و كيف يمكن دعوى ثبوت الملازمة و تحقّق المدلول التزامي كما هو غير خفي.

و ثانياً: يكفي في الفرق بين الإخبار عن الاجتهاد، و إخبار زرارة مثلًا عن قول الإمام (عليه السّلام) انّ إخبار زرارة يكون إخباراً عن الحكم و حاكياً له بحيث لا يرى الموضوع الخارجي و هو قول الإمام (عليه السّلام) واسطة أصلًا، و أمّا الإخبار عن الاجتهاد فلا يتجاوز عن المخبر به و لا يعدّ إخباراً عن الحكم بوجه، و كيف يكون إخباراً عن الحكم مع أنّه ربّما لا يكون المخبر عالماً بوجود رسالة لمن يخبر عن

اجتهاده، فضلًا عن الأحكام الموجودة فيها، فالإنصاف أنّ إقامة الدليل على اعتبار خبر الثقة في الموضوعات الخارجية من هذا الطريق مشكلة لو لم تكن ممنوعة، كما عرفت.

ثمّ إنّ هنا روايات استدلّ بها على حجّية خبر الواحد العدل أو الثقة:

منها: حسنة حريز أو صحيحته المروية في الكافي، و فيها بعد أنّه وبّخ الصادق (عليه السّلام) ابنه إسماعيل في دفعه دنانير إلى رجل شارب الخمر بضاعة ليعامل بها و يعطي مقداراً من النفع لإسماعيل، فأتلف النقود ذلك الرجل، قال (عليه السّلام) له: لِمَ فعلت ذلك و لا أجر لك؟ فقال إسماعيل: يا أبه إنّي لم أره يشرب الخمر، إنّما سمعت الناس يقولون، فقال: يا بنيّ إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول في كتابه يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يقول: يصدق للّٰه و يصدق المؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم «1».

بتقريب أنّ ذيل الرواية يدلّ على تصديق شهادة المؤمنين و ترتيب الأثر على إخبارهم، و من المعلوم أنّه ليس المراد هو التصديق فيما إذا شهد جميع المؤمنين كما هو مقتضى الجمع المعرّف باللّام، بل المراد هو تصديق شهادة كلّ مؤمن، فالمؤمن بما أنّه مؤمن إذا شهد بشي ء يرتّب الأثر على شهادته؛ و هو معنى وجوب قبول خبر الواحد

______________________________

(1) الكافي: 5/ 299 ح 1، الوسائل: 19/ 82، كتاب الوديعة ب 6 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 200

..........

______________________________

العادل أو الثقة.

و فيه أوّلًا: أنّ النسبة بين الرواية و بين المدّعى عموم و خصوص مطلق أو من وجه؛ لأنّ المدّعى اعتبار خبر العادل أو الثقة، و الرواية دالّة على اعتبار خبر المؤمن، و النسبة بين العنوانين ما ذكر، فلا ينطبق الدليل على المدّعى.

و

ثانياً: ليس المراد من وجوب التصديق في الرواية وجوب ترتيب الأثر على المخبر به، بحيث كان إخباره بمنزلة العمل المتعلّق به، فيرتّب أثر شرب الخمر في مورد الرواية، بل المراد هو التحذّر عمّا أخبر به مع احتمال أن يكون على تقدير الصدق فيه ضرر عليه، كما يدلّ عليه التأمّل في الرواية و في الاستشهاد بالآية.

و ثالثاً: لو فرض دلالة الرواية على ذلك تقع المعارضة بينها و بين موثّقة مسعدة المتقدّمة «1»، فينبغي تقييد إطلاقها بها و الحكم بالاعتبار مع العدالة و التعدّد.

و منها: مضمرة سماعة قال: سألته عن رجل تزوّج جارية أو تمتّع بها، فحدّثه رجل ثقة أو غير ثقة، فقال: إنّ هذه امرأتي و ليست لي بيّنة، فقال: إن كان ثقة فلا يقربها، و إن كان غير ثقة فلا يقبل منه «2».

و فيها أوّلًا: أنّها معارضة ببعض الروايات الأُخر الّتي أفتى المشهور على طبقها، مثل رواية يونس قال: سألته عن رجل تزوّج امرأة في بلد من البلدان فسألها أ لَكِ زوج؟ فقالت: لا، فتزوّجها، ثمّ إنّ رجلًا أتاه فقال: هي امرأتي فأنكرت المرأة ذلك، ما يلزم الزوج، قال: هي امرأته إلّا أن يقيم البيّنة «3».

و ثانياً: اعتبار خبر الثقة في مورد المضمرة لا دلالة فيه على اعتباره في جميع الموضوعات الخارجية، الذي هو المدّعى في المقام، و من المحتمل أن يكون الوجه في اعتباره فيه هي شدّة حسن الاحتياط في الفروج، و قد مرّ أنّه قام الدليل على الاعتبار

______________________________

(1) في ص 217 218.

(2) التهذيب: 7/ 461 ح 1845، الوسائل: 20/ 300، أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ب 23 ح 2.

(3) التهذيب: 7/ 468 ح 1874، الوسائل: 20/ 300، أبواب عقد النكاح و

أولياء العقد ب 23 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 201

[عمل الجاهل القاصر و المقصّر من غير التقليد]

مسألة 20: عمل الجاهل المقصِّر الملتفت من دون تقليد باطل، إلّا إذا أتى به برجاء درك الواقع و انطبق عليه أو على فتوى من يجوز تقليده، و كذا عمل الجاهل القاصر أو المقصِّر الغافل مع تحقّق قصد القربة صحيح إذا طابق الواقع أو فتوى المجتهد الذي يجوز

______________________________

في موارد متعدّدة، لكن البحث في جواز التعدّي عن تلك الموارد، و لم يقم دليل إلى الحال على عمومية الاعتبار و عدم الاختصاص بتلك الموارد.

بقي الكلام في هذه المسألة في أمرين:

أحدهما: عدم جواز تقليد من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد و إن كان من أهل العلم، و الدليل عليه أنّ العناوين الواقعة في الأدلّة لا تصدق على غير المجتهد بوجه، و قد مرّ الكلام مفصّلًا في أنّ من شرائط المرجعية للتقليد هو الاجتهاد المطلق، و أنّ المتجزئ لا يجوز تقليده فضلًا عمّن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد أصلًا «1».

ثانيهما: أنّه يجب على غير المجتهد التقليد و إن كان من أهل العلم، و الدليل عليه ما ذكرنا في أوّل الكتاب من حكم العقل و إيجابه على المكلّف التقليد أو الاجتهاد أو الاحتياط «2»، فعلى تقدير عدم تحقّق الاجتهاد و إن كان من أهل العلم و حاز مرتبة من المراتب العلمية و عدم ارادة الاحتياط ينحصر طريقه بالتقليد و الرجوع إلى المجتهد و تطبيق العمل على فتواه، و قد مرّ البحث مفصّلًا في المراد من هذا الوجوب في أوّل الكتاب «3» كما أنّا قد تعرّضنا سابقاً لحكم المجتهد الواجد لملكة الاستنباط و البالغ مرتبة الاجتهاد «4»، و أنّه هل يجوز له تقليد مجتهد آخر إذا

لم يستنبط فعلًا و لم يتصدّ للاستخراج بعد، أو يجب عليه إمّا الاحتياط و إمّا التصدي للاستنباط و العمل على طبق الاستنتاج، لكن الكلام هناك في جواز الرجوع إلى مجتهد آخر مستنبط، و البحث هنا في وجوب الرجوع إلى المجتهد البالغ هذه المرتبة و المستنبط بالفعل.

______________________________

(1) في ص 95 101.

(2) في ص 8 11.

(3) في ص 8 11.

(4) في ص 21 24.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 202

الرجوع اليه (1).

______________________________

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في مقامين:

المقام الأوّل: في الجاهل المقصّر الملتفت حال العمل، و لازمه التردّد في كون المأتيّ به هو المأمور به، و قد صرّح صاحب العروة (قدّس سرّه) «1» ببطلان عمله و إن كان مطابقاً للواقع؛ يعني و إن علم بعد العمل مطابقته له، ضرورة أنّه ليس المراد مجرّد المطابقة و لو كانت مجهولة حتى يصير ذلك قرينة على كون المراد بالبطلان معنى آخر، كما سيأتي بيانه «2»، كما أنّه لا خفاء في كون المراد بالعمل هو العمل العبادي الذي يفتقر في تحقّقه و حصوله إلى قصد الامتثال و نيّة التقرّب، و الدليل عليه مضافاً إلى قوله دام ظلّه-: «مع تحقّق قصد القربة» إنّ معروض الصحّة و البطلان إنّما هو العمل العبادي، و أمّا الواجب التوصّلي فأمره دائر بين الوجود و العدم، و لا يتّصف بالصحّة و البطلان أصلًا.

و كيف كان، فما يمكن أن يستدلّ به للقول ببطلان عبادة الجاهل المقصّر الملتفت و لو انكشف له بعد العمل المطابقة للواقع، فضلًا عن المطابقة لفتوى المجتهد أُمور:

أحدها: ما يظهر من العروة من أنّ الجاهل المفروض لا يتمشّى منه قصد القربة، نظراً إلى أنّه كيف يجتمع الترديد و

الشكّ في انطباق المأمور به على المأتيّ به، مع قصد التقرّب و جعل العمل مقرّباً له إليه تعالى، فإنّ من لا يعلم أنّ وظيفته القصر أو الإتمام، أو لا يعلم أنّه مكلّف بصلاة الظهر يوم الجمعة أو بالجمعة كيف يتمشّى منه قصد التقرّب بإحدى الصلاتين مع الالتفات و إمكان الرجوع إلى المجتهد، أو إمكان الاستنباط إن كانت له ملكة الاجتهاد، و من الواضح أنّ قوام العمل العبادي بقصد التقرّب و الإتيان به بما أنّه موجب لحصول القرب.

و الجواب: أنّه لا يعتبر في العبادة إلّا أن يكون الداعي إلى إتيانها و المحرّك

______________________________

(1) العروة الوثقى: 1/ 7 مسألة 16.

(2) في ص 231.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 203

..........

______________________________

لإيجادها أمراً مضافاً إلى اللّٰه تبارك و تعالى و لا يكون شي ء من الأُمور الدنيويّة مؤثّراً في حصولها دخيلًا في تحقّقها، و من المعلوم أنّ الداعي إلى الصلاة قصراً بالإضافة إلى الجاهل المفروض ليس إلّا احتمال تعلّق الأمر بها و كونها هي المأمور بها؛ لأنّ المفروض أنّه ليس له الداعي سوى ذلك من الرياء و غيره. غاية الأمر أنّه كانت وظيفته بحكم العقل إمّا الاحتياط و الإتيان بكلا المحتملين؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة، أو الرجوع إلى العالم لو كان عامّياً، أو الاستنباط لو كانت له ملكة الاجتهاد، و مع الإخلال بهذه الوظيفة لا يجوز له الاقتصار على المأتيّ به، إلّا أنّ هذا الحكم يستمرّ و يدوم ما دام لم ينكشف موافقة عمله للواقع، أو لرأي العالم أو لمقتضى الاجتهاد، أمّا بعد الانكشاف و تحقّق العلم بالموافقة الذي هو محلّ الكلام في المقام، فأيّ خلل في عمله و لِمَ كان خالياً عن

قصد التقرّب، مع أنّه لم يكن المحرّك له إلّا الامتثال لا بنحو يقطع بتحقّقه، بل بهذا المقدار و هو مجرّد الاحتمال.

نعم، العبادة بهذه الكيفيّة خالية عن الجزم، و قد حقّق في محلّه عدم اعتباره، و مرّ البحث عنه سابقاً «1» في إجزاء الاحتياط و كفاية الامتثال العلمي الإجمالي، و لو مع التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي، فانقدح أنّ هذا الوجه الذي هو العمدة في هذا الباب لا يصلح لأن يستند إليه في الحكم ببطلان عبادة الجاهل المفروض.

ثانيها: ما حكاه الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) من أنّ ظاهر كلام السيد الرضي (قدّس سرّه) «2» في مسألة «الجاهل بوجوب القصر «3»» و ظاهر تقرير أخيه السيد المرتضى (قدّس سرّه) له، ثبوت الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها «4»، فإنّ الظاهر أنّه ليس المراد بالعلم هو العلم الوجداني، بل أعمّ منه و من الطريق المعتبر القائم على أحكام الصلاة و خصوصيّاتها من القصرية و الإتماميّة و غيرهما من الجهات، كما أنّ شموله للجاهل المفروض في المقام مسلم لو لم نقل بأنّه القدر المتيقّن من معقد الإجماع، كما هو غير خفيّ.

______________________________

(1) في ص 31 و ما بعدها.

(2) حكاه الشهيد في الذكرى: 4/ 325.

(3) حكى عنه في ذكرى الشيعة: 4/ 325.

(4) رسائل الشريف المرتضى: 2/ 383 384، رسالة في الاجتهاد و التقليد للشيخ الأنصاري: 49.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 204

..........

______________________________

و الجواب أوّلًا: ما ذكرناه في محلّه من عدم حجيّة الإجماع المنقول بخبر الواحد و عدم شمول أدلّة حجيّة الخبر لحكاية الإجماع.

و ثانياً: أنّه على تقدير تحقّق الإجماع لا يكون واجداً لملاك الحجيّة؛ لعدم كونه كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السّلام) بعد

احتمال كون مستند المجمعين عدم اجتماع الترديد مع قصد التقرّب، أو مع بعض الجهات الأُخر المعتبرة في صحّة العبادة عندهم كالجزم و نحوه.

و ثالثاً: و هو العمدة، أنّ المراد بالبطلان في هذه العبارة و مثلها كالعبارة المعروفة و هو أنّ عمل العامي بلا تقليد و لا احتياط باطل هو عدم جواز الاقتصار على الصلاة أو العمل الذي لا يعلم حاله و حكمه؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي لزوم تحصيل العلم بالبراءة أو الحجّة عليها، و ليس المراد بالبطلان هو البطلان و لو مع انكشاف الموافقة للواقع أو للفتوى أو للاجتهاد، كما هو واضح.

ثالثها: دعوى الإجماع على بطلان عمل خصوص الجاهل المقصّر؛ و القدر المتيقّن منه الجاهل المفروض في المقام.

و الجواب عنها هو الجواب عن دعوى الإجماع المتقدّمة.

فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل على بطلان عبادة الجاهل المقصّر الملتفت، بحيث تجب عليه الإعادة و لو بعد انكشاف المطابقة للواقع، فضلًا عن المطابقة لفتوى المجتهد.

المقام الثاني: في الجاهل القاصر، و المقصّر الغافل، و بعد ما اخترنا صحّة عبادة الجاهل المقصر الملتفت تكون الصحّة في هذا المقام بطريق أولى، فلا كلام فيه من هذه الجهة، إنّما الكلام في أنّه لو لم يكن انكشاف المطابقة للواقع وجدانياً ثابتاً من طريق العلم و اليقين كما هو الغالب، بل كان الطريق منحصراً بالاجتهاد أو بالرجوع إلى المجتهد، فهل الملاك في القسم الثاني و هو الرجوع إلى المجتهد الرجوع إلى المجتهد الذي

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 205

..........

______________________________

كان يجب عليه تقليده حال العمل، أو الرجوع إلى المجتهد الفعلي و هو حال الالتفات فيما إذا كانا متعدّدين مع ثبوت الاختلاف بينهما في الفتوى و النظر،

كما إذا كانت فتوى أحدهما القصر في بعض المواضع المردّدة بين القصر و الإتمام و الآخر الإتمام.

و عبارة المتن مجملة من هذه الحيثيّة و لا دلالة لها على أنّ المراد بالمجتهد الذي يجوز الرجوع إليه هو المجتهد حال العمل أو المجتهد الفعلي، و لكنّ الذي اختاره صاحب العروة (قدّس سرّه) «1» هو اعتبار المطابقة لفتوى المجتهد الذي قلّده بعد ذلك، و الاحتياط بالمطابقة لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حال العمل.

و الوجه في ذلك على ما أفاده بعض الأعلام في شرحه على العروة: أنّ الأحكام الواقعيّة لا تتغيّر عمّا هي عليه بفتوى المجتهد، أو بقيام الأمارة على خلافها بناءً على ما هو الحقّ من الطريقيّة لا السببيّة، و حيث إنّ الإعادة و عدمها فعل من أفعال المكلّف، و هو لا يدري حكمها عند الالتفات إلى عمله، فلا مناص له من أن يرجع في حكمها إلى من يجب عليه تقليده في زمان الابتلاء بالشكّ في وجوب الإعادة، فإنّه إذا أفتى بالصحّة فمعناه عدم وجوب الإعادة، و إذا أفتى بالفساد معناه وجوب الإعادة، و أمّا فتوى المجتهد الأوّل فلا يترتّب عليها أثر؛ لأنّها قد سقطت عن الحجيّة بالموت أو النسيان أو غيرهما، و المجتهد الثاني و إن لم تكن فتواه متّصفة بالحجيّة من الابتداء و إنّما حدثت حجيّتها بعد ذلك؛ إمّا لأنّه لم يكن لها موضوع سابقاً لعدم كونه مجتهداً، و إمّا لعدم كونه واجداً لبعض الشروط كالأعلمية و العدالة، إلّا أنّ ما تتضمّنه تلك الفتوى بعد اتّصافها بالحجيّة حكم كلّي إلٰهي لا يختصّ بوقت دون وقت، بل يعمّ الأزمنة المتقدّمة و المتأخّرة، فيشمل العمل في حال وقوعه في السابق، فالملاك في اتّصاف العمل بالصحّة هو

المطابقة لفتوى المجتهد الثاني التي لا تختصّ بعصر دون عصر و لا زمان دون زمان «2».

______________________________

(1) العروة الوثقى: 1/ 7 مسألة 16.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 200 201.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 206

..........

______________________________

و يرد عليه أنّه إن كان المراد أنّ الإعادة و عدمها فعل حاليّ من المكلّف، و ظرف وقوعه لا يمكن أن يكون هو الزمان الماضي المقارن للمجتهد الأوّل، فيجب على الجاهل الرجوع في حكمه إلى المجتهد الفعلي؛ لعدم اتّصاف فتوى المجتهد الأوّل بالحجيّة في حال الإعادة، كما هو المفروض.

فالجواب: أنّ الإعادة و عدمها لا يعقل أن يكون محكوماً بحكم شرعي تعبّدي حتى يجب أن يرجع في حكمه إلى المجتهد؛ لأنّ لزوم الإعادة و عدمه إنّما هو من الأحكام العقلية، فإنّ العقل بعد ما رأى صحّة العمل الواقع و مطابقته للمأمور به من جميع الجهات و الخصوصيّات يحكم بعدم لزوم الإعادة، كما أنّه لو رأى عدم المطابقة يحكم بلزوم الإعادة، فالحاكم باللزوم و عدمه إنّما هو العقل، و لا مجال فيه للتقليد و الرجوع إلى المجتهد.

و دعوى أنّ حديث «لا تعاد» «1» المعروف الوارد في الصلاة، الدّال على عدم لزوم الإعادة من ناحية الإخلال بغير الخمسة المستثناة فيه، يدلّنا على أنّ المتصدّي لبيان حكم الإعادة نفياً و إثباتاً إنّما هو الشارع و التعبّد الشرعي، فلا مجال لما ذكر من اختصاص الحاكم بالعقل.

مدفوعة بأنّ مرجع عدم لزوم الإعادة المذكور فيه إلى عدم مدخلية غير تلك الخمسة في الصلاة المأمور بها في جميع الحالات، كما أنّ مرجع اللزوم إلى مدخلية الخمسة في الصلاة في تمام الحالات، و لا محيص من حمل الحديث على ذلك، و

إلّا فواضح أنّ الإعادة ليست من المسائل التقليديّة، التي كان الواجب فيها الرجوع إلى الفقيه.

و إن كان المراد أنّ الطريق إلى الأحكام الواقعية التي لا تتغيّر عمّا هي عليه بقيام الأمارة على خلافها منحصر بالفعل في فتوى المجتهد الثاني، التي لا تختص ما تتضمّنه بوقت دون وقت، فالجواب أنّ الطريق الفعلي و إن كان منحصراً بذلك إلّا أنّ الطريق

______________________________

(1) الفقيه: 1/ 181 ح 857، الوسائل: 4/ 312، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب 9 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 207

[طرق ثبوت فتوى المجتهد و أخذ المسائل منه]

مسألة 21: كيفيّة أخذ المسائل من المجتهد على أنحاء ثلاثة: أحدها: السماع منه، الثاني نقل العدلين أو عدل واحد عنه أو عن رسالته

______________________________

في حال وقوع العمل كان موجوداً و هو فتوى المجتهد الأوّل، و مجرّد عدم تحقّق التقليد منه في ذلك الزمان و عدم الاستناد إلى فتواه فيه لا يوجب عدم الاتّصاف بالصحّة، إلّا أن يقال بأنّه على فرض التقليد أيضاً يكون اللازم عليه رعاية فتوى المجتهد الثاني، و قد تقدّم بطلانه في المسألة السادسة عشر المتقدّمة.

و بالجملة: فأيّ فرق في اتّصاف العمل بوقوعه صحيحاً و عدمه بين أن يكون معنوناً بعنوان التقليد و مستنداً إلى فتوى المجتهد، و بين أن لا يكون، فإنّ التقليد لا يكون من شرائط صحّة العمل، و وجوبه أي وجوب التقليد بأيّ نحو كان مقدمياً أو نفسيّاً أو طريقيّاً لا يقتضي أن تكون المخالفة معه موجبة للبطلان؛ لوضوح عدم كونه وجوباً شرطياً مرجعه إلى مدخلية متعلّقه في صحّة العمل، و ما ذكرنا من كفاية المطابقة لفتوى المجتهد الأوّل في اتّصاف العمل بالصحّة لا يوجب أن تكون حجيّة الفتوى و اعتبارها من باب

السببيّة، بل على تقدير كونها من باب الطريقيّة كما هو الحقّ تكفي المطابقة لها، بل هي الملاك في الصحّة و عدمها، كما اختاره المحقّق الأصفهاني (قدّس سرّه)، حيث قال:

إنّ الفتوى حجّة على العامي و منجّزة لتكاليفه من حين وجوب رجوعه إلى ذلك المفتي، فتؤثر في الوقائع المتجدّدة و الأعمال المستقبلة. و وجوب القضاء و عدمه هنا و إن كان مربوطاً بالأعمال المستقبلة لكنّه فرع بطلان العمل و صحّته المنوطين بنظر من كانت وظيفة العامي الرجوع إليه و الأخذ منه، و هو أعلم عصره حال العمل دون هذا المفتي بل ربّما لا وجود له في تلك الحال، أو لم يكن بمجتهد، أو كان مفضولًا بالإضافة إلى غيره «1».

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ الملاك في الصحّة و عدمها و لزوم الإعادة و عدمه هي المطابقة لخصوص فتوى المجتهد، الذي كان يجب الرجوع إليه حال العمل، فتدبّر.

______________________________

(1) بحوث في الأُصول، الاجتهاد و التقليد: 188.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 208

المأمونة من الغلط، بل الظاهر كفاية نقل شخص واحد إذا كان ثقة يُطمَأنّ بقوله، الثالث الرجوع إلى رسالته إذا كانت مأمونة من الغلط (1).

______________________________

(1) ذكر الماتن دام ظلّه أنّ العلم بفتوى المجتهد و الاطّلاع على رأيه يحصل بأحد أُمور ثلاثة:

أحدها: أن يسمع منه شفاهاً، سواء أفاد قوله العلم أم لا، نظراً إلى حجّية ظاهر الكلام عند العقلاء من دون اختصاص بما إذا أفاد الظنّ الشخصي بالمراد، أو بما إذا لم يكن هناك ظنّ شخصي بالخلاف، أو بخصوص من قصد إفهامه؛ لِما حقّق في محلّه من أنّ ظاهر الكلام حجّة عقلائيّة مطلقاً مع تشخيص الصغرى و إحراز الظهور العرفي. هذا، مضافاً إلى أنّه من أوضح

مصاديق الإنذار، و الجواب عن السؤال الواجب بمقتضى آية السؤال «1»، و إلى دلالة الروايات الواردة في الإرجاع إلى أشخاص معيّنين «2».

ثانيها: إخبار عدلين أو عدل واحد أو ثقة يُطمأن بقوله عنه أو عن رسالته المأمونة عن الغلط.

أقول: أمّا إخبار عدلين و قيام البيّنة فممّا لا إشكال في حجيّته في الموضوعات الخارجية بأجمعها إلّا ما قام الدليل على التخصيص فيه؛ مثل الزنا و نحوه و قد قدّمنا البحث عن حجّية البيّنة بما لا مزيد عليه «3»، و أمّا إخبار عدل واحد أو ثقة واحد فالاكتفاء به مبنيّ على حجيّة خبر الواحد في الموضوعات الخارجية أيضاً، و قد تكلّمنا في هذه الجهة فيما سبق «4»، و ذكرنا أنّ إقامة الدليل عليها في غاية الإشكال، و أنّ نفس اعتبار البيّنة و جعل الحجيّة لها دليل على أنّه لا يجوز الاكتفاء بالواحد مقام المتعدّد و بالوثاقة مقام العدالة.

نعم، ربما يقال بأنّه لا ينبغي التأمّل في حجيّة إخبار الثقة في محلّ الكلام و إن لم نقل باعتباره في الموضوعات الخارجيّة؛ لأنّ الإخبار عن الفتوى إخبار عمّا هو من شئون الأحكام الشرعيّة؛ لأنّه في الحقيقة إخبار عن قول الإمام (عليه السّلام) مع الواسطة، و لا

______________________________

(1) سورة الأنبياء: 21/ 7.

(2) تقدّم ذكرها في ص 74 79.

(3) في ص 216 227.

(4) في ص 216 227.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 209

..........

______________________________

فرق في حجيّة خبر الثقة بين أن يتضمّن نقل قول المعصوم (عليه السّلام) ابتداءً، و بين أن يتضمّن نقل الفتوى التي هي إخبار عن قوله (عليه السّلام).

و لكنّه غير خفيّ أنّ الإخبار عن الفتوى ليس إخباراً عن الحكم و قول الإمام (عليه السّلام) بوجه، فإنّ

الفتوى عبارة عن نظر المجتهد ورائه، و لا سيّما مع الإضافة إلى شخص خاصّ و مجتهد مخصوص، و الإخبار عن النظر و الرأي لا يكون إخباراً عن قول الإمام (عليه السّلام) أصلًا، بل هو إخبار عمّا أدّى إليه نظره، فعلى تقدير عدم حجيّة خبر الثقة في الموضوعات الخارجية كما هو المفروض لا مجال لدعوى الاعتبار في خصوص المقام.

نعم، يبقى الكلام في الفرق بين المقام و بين ثبوت الاجتهاد و الأعلمية؛ حيث إنّ ظاهر الماتن دام ظلّه هناك عدم ثبوت شي ء منهما بشهادة عدل واحد فضلًا عن الثقة غير العادل و صريحه هنا الثبوت بنقل العدل أو الثقة، فيقع الكلام في الفرق، فإنّه إذا كان خبر العدل أو الثقة حجّة في الموضوعات الخارجية فلم لا يكون حجّة في باب الاجتهاد و الأعلمية، و إذا لم يكن حجّة فيها فما الدليل على اعتباره في مفروض المسألة.

و دعوى أنّه قد قيّد اعتبار خبر الثقة بما إذا كان يطمأنّ بقوله، و قد مرّ «1» أنّ الاطمئنان هو العلم العادي الذي يعامل معه عند العقلاء معاملة العلم و يكون حجّة عقلائيّة، كما أنّ العلم الحقيقي حجّة عقلية، مدفوعة مضافاً إلى أنّه ليس المراد بالاطمئنان في المقام هو الاطمئنان الشخصي، بل الظاهر هو حصول الاطمئنان نوعاً، و إلى أنّه لو كان المراد هو الاطمئنان الشخصي أيضاً فليس المقصود هو الاطمئنان الذي يعامل معه عند العقلاء معاملة العلم بأنّه حينئذٍ يبقى سؤال الفرق بحاله، فإنّه لِمَ لَمْ يتعرّض لثبوت الاجتهاد و الأعلمية بمثل هذا الاطمئنان مع كون المقصود ثبوتهما به أيضاً، فتدبر.

و الظاهر أنّ محط النظر في الفرق بينهما أنّ خبر الواحد على تقدير كونه حجّة في الموضوعات الخارجية فإنّما يكون حجّة

في خصوص المحسوسات منها، و أمّا الأُمور

______________________________

(1) في ص 216.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 210

[لو تعارض نقل الفتوىٰ]

مسألة 22: إذا اختلف ناقلان في نقل فتوى المجتهد فالأقوى تساقطهما مطلقاً، سواء تساويا في الوثاقة أم لا، فإذا لم يمكن الرجوع إلى المجتهد أو رسالته يعمل بما وافق الاحتياط من الفتويين، أو يعمل بالاحتياط (1).

______________________________

الحدسيّة فهي خارجة عن دائرة الاعتبار و الحجّية، و حيث إنّ الاجتهاد و الأعلمية يكونان من الأمور الحدسية فلا تكون شهادة العدل الواحد حجّة فيهما فضلًا عن الثقة، و هذا بخلاف نقل الفتوى و النظر، فإنّه من الأُمور المحسوسة؛ لأنّ المفروض أنّ الناقل إنّما ينقل عن نفس المجتهد أو عن رسالته، و لكنّك عرفت في بحث حجيّة البيّنة «1» أنّ الاجتهاد و الأعلمية و إن لم يكونا من الأُمور الحسيّة، إلّا أنّهما حيث يكونان من الأُمور الحدسية القريبة إلى الحسّ يعامل معهما عند العقلاء معاملة الأُمور المحسوسة، كما يظهر بمراجعتهم، و إلّا لا تكون البيّنة فيهما أيضاً حجّة، كما لا يخفى.

ثالثها: الوجدان في رسالته، فإذا كانت الرسالة بخطّه أو ملحوظة له بتمامها فالدليل على حجيّتها هو الدليل على حجيّة قوله و لفظه، و كما يجري في لفظه أصالة عدم الخطأ و الاشتباه المعوّل عليها عند العقلاء، كذلك يجري في رسالته أيضاً في مورد اعتماد العقلاء عليها، و هو ما إذا لم يكن هناك ظنّ شخصيّ بالخطإ و الاشتباه ناش عن كثرته، و لا يعتبر الظنّ الشخصي بعدم الخطأ، كما ربّما يشعر به عبارة المتن، فتدبّر.

و أمّا إذا لم تكن الرسالة بخطّه و لم تكن ملحوظة له بتمامها فالدليل على حجيّته هو الدليل على حجيّة خبر الثقة، و

حيث إنّك عرفت عدم حجيّته في الموضوعات الخارجيّة «2» فلا بدّ من قيام البيّنة و شهادة العدلين بكونها موافقة لآرائه و أنظاره.

(1) قد عرفت في المسألة المتقدّمة طرق ثبوت فتوى المجتهد و الاطلاع عليها و كيفيّة أخذ المسائل منه، و المقصود هنا بيان حكم صور تعارض الطريقين، و قد تعرّض الماتن دام ظلّه لفرض واحد منها؛ و هو اختلاف الناقلين في نقل الفتوى، و التفصيل:

______________________________

(1) في ص 220.

(2) في ص 236.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 211

..........

______________________________

أنّ التعارض قد يتحقّق بين فردين من نوع واحد، و قد يتحقّق بين نوعين من أنواع الطرق المتقدمة.

و الأوّل: كما إذا تعارضت البيّنتان أو الناقلان بناءً على حجيّة نقل الواحد التي قد عرفت المناقشة فيها «1» أو تعارضت الرسالتان أو فردان من السماع كما إذا سمع منه الفتوى بالجواز مرّة و بالحرمة اخرى، و في هذه الصورة إذا لم يكن التاريخ مختلفاً على فرض إمكانه أو كان و لكن علم بعدم العدول و عدم تبدّل الرأي له، فاللّازم الحكم بالتساقط و سقوط كلّ من الطريقين عن الحجيّة على ما هو مقتضى القاعدة في تعارض الأمارتين و تنافي الدليلين، و أمّا مع اختلاف التاريخ و عدم العلم بالعدول و احتمال حصول تبدّل الرأي، فمقتضى القاعدة حجيّة الطريق المتأخّر، و لا مجال لاستصحاب عدم العدول بعد ثبوت الأمارة و وجود الدليل، كما هو ظاهر.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الحكم في جميع موارد التعارض بين فردين من نوع واحدٍ في غير الفرض الأخير هو التساقط و عدم اعتبار شي ء من الطريقين.

و الثاني: و هو ما إذا كان التعارض بين النوعين ففيه فروض:

منها: تعارض النقل مع

السماع من المجتهد شفاهاً، و قد حكم صاحب العروة (قدّس سرّه) «2» فيه بتقدّم السماع، و الوجه فيه بعد وضوح كون المفروض صورة اتّحاد التاريخ، أو الاختلاف مع العلم بعدم العدول، و كون المفروض صورة عدم حصول العلم من السماع منه، و إلّا يكون تقدّمه من باب تقدم القطعي على الظنّي ما يقال: من أنّ النقل طريق إلى السماع، فالعلم بالسماع يستوجب العلم بمخالفته للواقع.

و لكن هذا الوجه غير صحيح، فإنّك عرفت أنّ المفروض صورة عدم حصول العلم من السماع، فكون النقل طريقاً إليه لا يوجب تأخّره عنه و سقوطه عن الحجيّة لدى المعارضة، فالإنصاف أنّه لا بدّ إمّا أن يقال بعدم تقدّم السماع على النقل فيما هو

______________________________

(1) في ص 236.

(2) العروة الوثقى: 1/ 21 مسألة 59.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 212

..........

______________________________

المفروض لتحقّق المعارضة المقتضية للتساقط، و إمّا أن يقال بأنّ الوجه هو تقدّم السماع على النقل عند العقلاء، و انصراف دليل حجيّة النقل عن صورة المعارضة للسماع، فتدبّر.

و منها: تعارض الرسالة مع السّماع، و الظاهر أنّ الرسالة إذا لم تكن بخطّه و لم تكن ملحوظة له بتمامها تكون بمنزلة النقل و الإخبار عن المجتهد، و يجري فيه ما يجري في تعارض النقل و السماع، و أمّا إذا كانت بخطّه أو كانت ملحوظة له بأجمعها فلا وجه لتقديم السماع عليها بعد جريان أصالة عدم الخطأ في كليهما، بل لا بدّ إمّا من القول بالتساقط، كما فيما إذا تعارض فردان من السماع على ما عرفت، و إمّا من القول بتقديم الرسالة على السماع، نظراً إلى جريان السيرة العقلائيّة على عدم إجراء أصالة عدم الخطأ في فرض السماع عند

تعارضه مع الكتابة.

و لعلّ السرّ فيه أنّ الاحتفاظ و العناية المعمولة في الكتابة بمقدار لا يبلغه الاحتفاظ المرعى في القول، و ذلك مستند إلى تصرّم القول و انعدامه بعد وجوده و الكتابة باقية، خصوصاً لو فرض تكثيرها بسبب الطبع و نحوه، كما هو المعمول في هذه الأزمنة، و من هنا لا يبعد القول بتقدّم الرسالة الكذائيّة المأمونة من الغلط على القول و السماع.

و منها: تعارض الرسالة مع نقل الغير، و قد ظهر ممّا ذكرنا حكمه، فإنّه إذا كانت الرسالة بخطّه أو كانت ملحوظة له بتمامها تكون الرسالة متقدّمة؛ لأنّها إذا كانت متقدّمة على السماع من نفسه لما ذكرنا من الوجه فتقدّمها على السماع من الغير بطريق أولى، و إذا لم تكن الرسالة كذلك بل كانت مكتوبة للثقة الذي جمع فتاوى المجتهد فيها فلا يبعد أيضاً القول بتقدّم الرسالة لأجل أنّها أضبط، و العناية المعمولة في الكتابة لا تكون مرعية في القول نوعاً.

و لكن قيّد صاحب العروة (قدّس سرّه) هذا التقدّم بما إذا كانت الرسالة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 213

[يجب تعلّم المسائل التي هي مورد الابتلاء]

مسألة 23: يجب تعلّم مسائل الشكّ و السهو و غيرها ممّا هو محلّ الابتلاء غالباً، إلّا إذا اطمأنّ من نفسه بعدم الابتلاء بها، كما يجب تعلّم أجزاء العبادات و شرائطها و موانعها و مقدّماتها. نعم، لو علم إجمالًا أنّ عمله واجد لجميع الأجزاء و الشرائط و فاقد للموانع صحّ و إن لم يعلم تفصيلًا (1).

______________________________

مأمونة من الغلط «1»، و هل المراد بهذا القيد ما إذا كانت الرسالة مأمونة من الغلط، زائدة على المقدار الذي يعتبر في جواز الاعتماد على الرسالة، و إن ناقشنا في اعتباره، نظراً إلى أنّ

المعتبر عدم الظنّ الشخصي بالخطإ لا وجود الظنّ الشخصي بعدم الخطأ، أو أنّ المراد منه وجود نفس ذلك القيد المعتبر في جواز الاعتماد على الرسالة؟ و على الأوّل يكون مرجع هذا التقييد إلى وجود المرجّح الموجب لتقدّم الرسالة، و على الثاني تكون الرسالة بنفسها متقدّمة على النقل.

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا حاجة إلى وجود المرجّح، بل الرسالة بنفسها متقدّمة على النقل إذا كانت واجدة لشرط الحجيّة و الاعتبار؛ و هو الأمر من الغلط بالمعنى الذي ذكرنا لا ما يشعر به ظاهره، فتدبّر جيّداً.

(1) الظاهر أنّ المراد من الوجوب هو الوجوب الشرطي الذي مرجعه إلى أنّ تعلّم مسائل الشكّ و السهو و نحوها بالمقدار الذي هو محلّ الابتلاء غالباً، و لا يطمئنّ من نفسه بعدم الابتلاء به، دخيل في صحّة العبادة و وقوعها موافقة للأمر المتعلّق بها، و ذلك بقرينة الحكم بالصحّة في مورد العلم الإجمالي بكون عمله واجداً لجميع الأجزاء و الشرائط؛ لدلالته على كون محطّ البحث هي الصحّة و البطلان و الأُمور الدخيلة في الأوّل أو الموجبة للثاني كما لا يخفى، مع أنّه لا وجه للوجوب الشرطي.

ضرورة أنّه لو لم يتعلّم مسائلهما أصلًا و اتّفق عدم الابتلاء بها لا مجال للحكم

______________________________

(1) العروة الوثقى: 1/ 21 مسألة 59.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 214

..........

______________________________

ببطلان عمله، كما أنّه إذا اتّفق الابتلاء و لكنّه عمل على طبق حكمه من دون أن يعلم به كما لو فرض أنّه بنى على الأكثر في الشكّ بين الثلاث و الأربع ثمّ انكشف أنّه عمل على طبق وظيفته لا يكون العمل باطلًا، و كذلك إذا اتّفق الابتلاء و لكنّه رفع اليد عن صلاته

و أتى بصلاة أُخرى خالية عن الشكّ و السهو يكون عمله صحيحاً، فالوجوب الشرطي ممّا لا وجه له، من دون فرق بين ما إذا تمكّن من إحراز الامتثال بالاحتياط و ما إذا لم يتمكّن.

نعم، مع عدم التمكّن من إحراز الامتثال به ربّما يقال كما قيل: بأنّه يجب عقلًا تعلّم مسائل الشكّ و السهو مع علمه بالابتلاء أو احتماله، بناءً على ما اختاره المشهور من حرمة قطع الصلاة و إبطالها «1»، نظراً إلى أنّ إحراز الامتثال حينئذٍ يتوقّف على تعلّم المسائل؛ لعدم تمكّنه من قطع الصلاة و إبطالها و استئنافها، و عدم جواز البناء على أحد طرفي الشكّ و إتمامها مع الإعادة؛ لاحتمال أن يكون المتعيّن في حقّه هو البناء على الطرف الآخر، و قد قطعها بالبناء على عكس ذلك، و هذا لاحتمال أنْ يكون ما أتى به ناقصاً عن الواجب أو زائداً عليه، و يكون مع الإتيان به قد نقص عن صلاته أو زاد فيها متعمّداً و هو موجب لبطلانها، فبناءً على مسلك المشهور لا سبيل إلى إحراز امتثال الأمر بالصلاة سوى التعلّم، فيصير حينئذٍ واجباً عقلياً.

و لكنّه يرد عليه أنّ المراد من عدم التمكّن من قطع الصلاة و استئنافها إن كان هو عدم التمكّن عقلًا لضيق الوقت و شبهه، فبناءً ذلك على مسلك المشهور من حرمة قطع الصلاة و إبطالها غير صحيح، إذ لا فرق مع عدم التمكّن كذلك بين القول بحرمة قطع الصلاة و القول بعدمها. و إن كان المراد به هو عدم التمكّن شرعاً بلحاظ حرمة قطع الصلاة على مسلك المشهور، فيرد عليه أنّ حرمة القطع لا تقتضي توقّف إحراز الامتثال على التعلّم حتى يجب عقلًا، فإنّه يمكن إحرازه بدون التعلّم، و

إن كان ملازماً لارتكاب محرّم و هو قطع الصلاة، فالجمع بين الأمرين اللّذين هما حرمة

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 3/ 45، جواهر الكلام: 11/ 123، كتاب الصلاة من مصباح الفقيه: 427، كتاب الصلاة للشيخ عبد الكريم الحائري: 308.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 215

..........

______________________________

قطع الصلاة و إبطالها و كون التعلّم مقدّمة إحرازيّة للامتثال ممّا لم يعلم له وجه، هذا كلّه مع العلم بالابتلاء.

و أمّا مع الشكّ فيها فربّما يقال بأنّه لا مانع من جريان استصحاب عدم الابتلاء في نفسه؛ لأنّه كما يجري في الأُمور الحالية يجري في الأُمور الاستقبالية أيضاً، و المجعول في باب الاستصحاب هو الطريقيّة و الوسطية في الإحراز؛ أعني جعل ما ليس بعلم علماً تعبّداً، كما هو الحال في جميع الطرق و الأمارات، إلّا أنّ المانع من جريان الاستصحاب هي الأدلّة القائمة على وجوب التفقّه و التعلّم؛ لدلالتها على وجوب التعلّم وجوباً طريقيّاً في كلّ مورد استند ترك الواجب في ظرفه إلى ترك التعلّم.

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ جريان الاستصحاب مع عدم كون المستصحب مجعولًا شرعيّاً و لا مترتّباً عليه أثر شرعي ممنوع أنّه بناءً على ما أفاده من أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو الطريقيّة و الوسطية في الإحراز، و جعل ما ليس بعلم علماً تعبّداً لا مجال لدلالة تلك الأدلّة على وجوب التفقّه و التعلّم في المقام، لوضوح أنّ موردها ما إذا احتمل ترك الواجب مستنداً إلى ترك التعلّم، و مع وجود العلم التعبّدي بعدم الابتلاء لا يحتمل ذلك حيث تجري تلك الأدلّة.

و بعبارة اخرى كما أنّه مع العلم الوجداني بعدم الابتلاء لا دلالة لتلك الأدلّة على وجوب تعلّم مسائل الشكّ و السهو بالوجوب

الطريقي، كذلك مع العلم التعبّدي الذي هو بمنزلة العلم الوجداني، فإنّه إذا كان عدم الابتلاء معلوماً في محيط الشرع فلا وجه حينئذٍ للحكم بلزوم التعلّم كما هو ظاهر. نعم، مع عدم جريان الاستصحاب كما هو المختار لا بأس بالرجوع إلى تلك الأدلّة و الحكم بوجوب التعلّم.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 216

..........

______________________________

تنبيه نسب إلى الشيخ المحقّق الأنصاري (قدّس سرّه) أنّه حكم في رسالته العملية بفسق مَن ترك تعلّم مسائل الشكّ و السهو «1»، و ظاهره أنّ مجرّد الترك موجب لصيرورته فاسقاً، و إن لم يتحقّق الابتلاء بالشكّ و السهو أصلًا، و قد وقع الكلام في وجه هذه الفتوى و احتمل استنادها إلى أحد أُمور أربعة:

أحدها: أنّ ترك التعلّم مع العلم بالابتلاء أو احتماله كما هو المفروض من أظهر مصاديق التجرّي على المولى؛ لكشفه عن عدم الاعتناء بأحكام اللّٰه تعالى و عدم المبالاة بأوامره و نواهيه و التجرّي، مضافاً إلى أنّه موجب لاستحقاق العقاب عليه من المحرّمات الشرعيّة، و من المعلوم أنّ ارتكاب المحرّم موجب للاتّصاف بالفسق.

و أُورد عليه بأنّ هذا الوجه مضافاً إلى عدم التزام الشيخ (قدّس سرّه) به لا ينبغي الالتزام به؛ لعدم قيام الدليل على حرمة التجرّي، و إن كان موجباً لاستحقاق العقاب عليه.

ثانيها: أنّ التجرّي و إن لم يكن محرّماً في نفسه إلّا أنّه يكشف عن عدم ملكة العدالة لا محالة؛ لأنّه مع وجودها لا يقدم المكلّف على ما فيه احتمال المخالفة و المعصية، فبالتجرّي يستكشف أنّ المتجرّي لا رادع له عن ارتكاب المعصية، و المعتبر عند الشيخ و جماعة كثيرين اعتبار الملكة في العدالة «2».

و أُورد عليه مضافاً إلى أنّه لا دليل على اعتبار الملكة

في العدالة بأنّ مقتضى ذلك عدم اتّصافه بالعدالة لا اتّصافه بالفسق؛ لعدم استلزام القول باعتبار الملكة لإنكار الواسطة بين الفسق و العدالة، فإنّ من لم يرتكب بعد بلوغه شيئاً من المعاصي و المحرّمات و لم يحصل له ملكة العدالة ليس بعادل و لا فاسق، ففي المقام مقتضى ثبوت التجرّي

______________________________

(1) صراط النجاة (رسالة عملية للشيخ الأعظم الأنصاري): 175 مسألة 682.

(2) رسالة في العدالة للشيخ الأنصاري: 7 11، صراط النجاة (رسالة عمليّة للشيخ الأنصاري): 38 مسألة 37، بحوث في الأُصول، الاجتهاد و التقليد: 70.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 217

..........

______________________________

عدم تحقّق ملكة العدالة لا ثبوت وصف الفسق، كما هو المدّعى.

ثالثها: أنّه حيث إنّ التعلّم واجب نفسي يكون تركه مستلزماً لتحقّق الفسق، و إن لم يبتل المكلّف بمسائل الشكّ و السهو أصلًا.

و أُورد عليه بأنّ الشيخ (قدّس سرّه) «1» لا يلتزم بالوجوب النفسي للتعلّم، و إنّما يراه واجباً بالوجوب الطريقي الذي لا يترتّب على مخالفته إلّا التجرّي دون الفسق.

رابعها: أنّ التجرّي و إن لم يكن محرّماً في الشريعة المقدّسة إلّا أنّ المتجرّي لا يمكن الحكم بعدالته؛ لأنّها عبارة عن الاستقامة في جادّة الشرع و كون الحركة بإذن الشارع و ترخيصه، و التجرّي و إن لم يكن محرّماً إلّا أنّه غير مرخّص فيه من قبل الشارع، و لا يطلق عليه عنوان «الصالح» أو «الخيّر» و لا يعدّ من الموثوقين بدينه، و هذا كما في غير المقام من موارد عدم كون الفعل مرخّصاً فيه، كما إذا ارتكب أحد الفعلين المعلومة حرمة أحدهما، فإنّه و إن لم يكن محرّماً شرعيّاً إلّا أنّه غير مرخّص فيه من قبل الشارع، و يكون ارتكابه خروجاً عن جادة

الشرع، مانعاً عن تحقّق الاستقامة فيها، و قد اختار هذا الوجه بعض الأعلام على ما في تقريرات بحثه في شرح العروة «2».

و لكنّه يرد عليه مضافاً إلى عدم تماميّة كون العدالة عبارة عن الاستقامة الكذائيّة، بل هي كما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى «3»، عبارة عن ملكة الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة أو بضميمة المروءة، و من المعلوم أنّ مجرّد عدم الترخيص من قبل الشارع لا ينافي تحقّق العدالة بهذا المعنى أنّ المقصود توجيه فتوى الشيخ (قدّس سرّه) على طبق مسلكه و مرامه لا مطلقاً، و من الواضح عدم كون ارتكاب ما لم يقع فيه ترخيص من الشارع مانعاً عن العدالة عنده لو فرض عدم كونه محرّماً شرعيّاً.

و الحقّ أنّه لا يمكن توجيه هذه الفتوى بناءً على مبناه إلّا بارتكاب خلاف الظاهر في العبارة، إمّا بأن يكون مراده من الفسق عدم تحقّق ملكة العدالة، و عدم جواز ترتيب الآثار المترتّبة على العدالة، لا تحقّق وصف الفسق و ترتّب آثاره عليه، و إمّا بأن يكون

______________________________

(1) راجع فرائد الأُصول: 2/ 510 515.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 302 303.

(3) في ص 264 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 218

..........

______________________________

مراده خصوص صورة الابتلاء و ارتكاب مثل قطع الصلاة المحرّم على المشهور و الإصرار عليه، المتحقّق بالعزم على العود على المعصية كما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى «1». هذا كلّه ما يتعلّق بلزوم تعلّم مسائل الشكّ و السهو و شبهها.

و أمّا لزوم تعلّم أجزاء العبادات و شرائطها و موانعها فنقول لا إشكال فيما أفاده في المتن من كفاية الامتثال العلمي الإجمالي و جواز الرجوع إلى الاحتياط و

لو مع التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي، و قد تقدّم البحث فيه «2» بما لا مزيد عليه، فلا حاجة إلى الإعادة، إنّما الكلام و الإشكال في أنّه هل يجوز الاكتفاء بالعبادة التي يحتمل أن تكون واجدة للأجزاء و الشرائط، و فاقدة للموانع مع التمكّن من الامتثال التفصيلي بأن يتعلّم كيفيّتها، أو الإجمالي بأن يمتثل على نحو يقطع بحصول المأمور به إجمالًا، أم لا؟

و الظاهر هو الثاني لقاعدة الاشتغال الحاكمة بلزوم تحصيل العلم بالفراغ بعد العلم بتوجّه التكليف و تنجّزه على المكلّف، و من المعلوم توقّف تحصيل العلم بالفراغ على تعلّم العبادة بأجزائها و شرائطها و موانعها.

و به يظهر أنّ الحاكم بوجوب التعلّم ليس إلّا العقل من باب توقّف العلم بالفراغ عليه، فالوجوب عقليّ لا يترتّب على مخالفته إلّا استحقاق العقوبة المترتّب على ترك العبادة لو صادف عمله مع المخالفة للواقع، كما أنّه يظهر أنّ التعلّم اللازم لا يكون موقّتاً بوقت مخصوص، بل يلزم في وقت يقدر معه على الإتيان بالواجب يقيناً، سواء كان الواجب من الواجبات المطلقة أو المشروطة أو الموقّتة، ففي غير الأوّل لا يلزم أن يكون التعلّم قبل حصول الشرط أو مجي ء الوقت، بل يكفي التعلّم بعدهما مع الإمكان.

إنّما الإشكال فيما لو لم يتمكّن من التعلّم بعد حصول الشرط أو مجي ء الوقت مع التمكّن من التعلّم قبلهما، فهل يجب عليه التعلّم حينئذٍ مع عدم اتّصاف التكليف بالفعلية لعدم تحقّق شرطه أو مجي ء وقته، أم لا؟

______________________________

(1) في ص 309.

(2) في 31 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 219

..........

______________________________

ذكر بعض الأعلام في شرحه على العروة: أنّ هذه الصورة على قسمين؛ لأنّ التعلّم حينئذٍ قد يكون مقدّمة إحرازية

للامتثال، و لا يترتّب على تركه إلّا عدم إحرازه مع التمكّن من الإتيان بالواجب في وقته، و قد يكون مقدّمة وجودية؛ بمعنى أنّه لو لم يتعلّم لا تكون له قدرة على الإتيان به.

أمّا القسم الأوّل: فلا ينبغي التأمّل في أنّه يجب عليه التعلّم قبل الشرط أو مجي ء الوقت لاستقلال العقل بلزومه، للزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب.

و أمّا القسم الثاني: ففيه إشكال، نظراً إلى أنّ المكلّف بعد دخول الوقت و حصول الشرط لا يكون مكلّفاً؛ لفرض العجز و وضوح كون القدرة من شرائط التكليف، كما أنّه غير مكلّف قبلهما، فلا معنى للحكم بوجوب التعلّم من باب المقدّمة.

ثمّ قال في حلّ الإشكال ما ملخّصه: أنّ القدرة قد تكون دخيلة في الملاك كما أنّها دخيلة في الخطاب، و قد تكون دخيلة في الخطاب فقط من غير أن تكون دخيلة في الملاك، و لا ينبغي التأمّل في وجوب التعلّم في الصورة الثانية؛ لأنّ تركه حينئذٍ مفوّت للملاك الملزم في ظرفه، و تفويت الملاك كتفويت الواجب قبيح لدى العقل؛ لأنّ الملاك روح التكليف، و أمّا الصورة الأُولى فهي التي يجري فيها الإشكال، نظراً إلى أنّ الملاك و التكليف إذا كان كلاهما مشروطاً بالقدرة، و فرضنا أنّ المكلّف لو لم يتعلّم الواجب قبل مجي ء وقته أو فعلية شرطه لا يتمكّن منه بعدهما، فلما ذا يجب تعلّمه قبلهما.

نعم، لو تعلّم كان متمكّناً من العمل في ظرفه، إلّا أنّه ممّا لا ملزم له، و لأجل هذا الإشكال التجأ المحقّق الأردبيلي (قدّس سرّه) «1» و من تبعه «2» إلى الالتزام بالوجوب النفسي، و أنّ العقاب إنّما هو على ترك التعلّم نفسه، مع أنّ الأدلّة الدالّة على وجوب التفقّه و التعليم ظاهرة في الوجوب

الطريقي، و أنّ التعلّم مقدّمة لامتثال الأحكام الواقعية لا أنّه واجب نفسي، و عليه فلا دليل في شي ء من المقدّمات المفوّتة على وجوب تحصيلها

______________________________

(1) راجع مجمع الفائدة و البرهان: 2/ 195، 212 و ج 3/ 187 190.

(2) راجع كشف اللثام: 3/ 418 419، الحدائق الناضرة: 8/ 109، مفتاح الكرامة: 2/ 372، جواهر الكلام: 9/ 208 209، 300 301.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 220

..........

______________________________

قبل مجي ء وقت الواجب أو حصول شرطه.

ثمّ قال ما ملخّصه أيضاً: إنّ الصحيح أنّ التعلم خاصّة ليس كسائر المقدّمات المفوّتة، و أنّه أمرٌ واجب لإطلاق الأدلّة القائمة على وجوبه. غاية الأمر أنّ وجوبه طريقيّ، و معناه أنّه إذا كان ترك الواجب مستنداً إلى ترك التعلّم استحقّ العقاب عليه لا على ترك التعلّم، و تظهر الثمرة بيننا و بين المحقّق الأردبيلي فيما إذا استند ترك الواجب إلى أمر آخر غير ترك التعلّم، فإنّ المكلّف حينئذٍ لا يستحقّ العقوبة بناء على ما ذكرنا و يستحقّها بناءً على ما ذكره (قدّس سرّه) «1».

و التحقيق أنّ التعلّم إذا كان مقدّمة وجودية بحيث لم يكن له أيّ قدرة على الإتيان بالمكلّف به بعد فعلية أمره بتحقّق شرطه أو مجي ء وقته يجري عليه حكم القدرة، و الحقّ في باب القدرة أنّها لا مدخلية لها لا في الملاك و لا في الخطاب؛ لعدم قيام الدليل عليه، بل الذي يحكم به العقل أنّ العجز مانع عن تنجّز التكليف موجب لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته لا أنّ القدرة شرط.

و الدليل عليه أنّه لو كانت القدرة شرطاً لكان اللازم مع الشكّ فيها هو الرجوع إلى أصالة البراءة عن التكليف كما هو واضح، مع أنّ الظاهر

عدم التزامهم به أصلًا، فلا محيص عن الالتزام بكون العجز مانعاً، و حينئذٍ فلا بدّ من ملاحظة أنّ هذا النوع من العجز الذي مرجعه إلى إمكان رفعه قبل حصول الشرط أو مجي ء الوقت، هل يكون مانعاً عند العقل عن تنجّز التكليف، أم لا؟ و الظاهر هو العدم.

ضرورة أنّه لو علم العبد بأنّه يريد المولى بعد ساعة شرب الماء لرفع العطش و هو لا يقدر على تحصيل الماء في ذلك الزمان، و لكنّه يقدر على تحصيله في الحال لا يكون العجز في ظرف الإرادة و التكليف مانعاً عن توجّه التكليف و استحقاق العقوبة على مخالفته، و عليه فلا حاجة إلى التمسّك بالأدلّة القائمة على وجوب التفقّه و التعلّم

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 293 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 221

[العمل بلا تقليد مدّة]

مسألة 24: إذا علم أنّه كان في عباداته بلا تقليد مدّة من الزمان و لم يعلم مقداره، فإن علم بكيفيّتها و موافقتها لفتوى المجتهد الذي رجع إليه أو كان له الرجوع إليه فهو، و إلّا يقضي الأعمال السابقة بمقدار العلم بالاشتغال، و إن كان الأحوط أن يقضيها بمقدار يعلم معه بالبراءة (1).

______________________________

حتى تمكن المناقشة فيه بأنّه لم يثبت لها إطلاق يشمل ما هو المفروض في المقام، فتأمّل جيّداً.

(1) أقول: أمّا من جهة الكيفيّة فقد تقدّم البحث فيها في المسألة العشرين المتقدّمة «1» و لا حاجة إلى الإعادة، و تقدّم أنّ الملاك في الصحّة هي المطابقة للواقع أو الموافقة لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه الرجوع إليه سابقاً، و لا يكفي المطابقة لفتوى المجتهد الفعلي فقط، و المستفاد من المتن كفاية المطابقة لإحدى الفتويين،

و قد مرّ الكلام من هذه الجهة في تلك المسألة، فراجع «2».

و أمّا من جهة الكمّية التي هي العمدة في هذه المسألة و المقصود منها ففيها أقوال ثلاثة:

أحدها: ما اختاره الماتن دام ظلّه من جواز الاكتفاء في قضاء الأعمال السابقة بمقدار يعلم بالاشتغال؛ و هو المقدار الذي تيقّن بطلانه بالمخالفة للواقع و لفتوى المجتهد الذي وظيفته الرجوع إليه.

ثانيها: القضاء بالمقدار الذي يعلم معه بالبراءة و يقطع بفراغ الذمّة بالإتيان بقضاء الموارد المشكوكة أيضاً، نسب ذلك إلى المحقّق صاحب الحاشية (قدّس سرّه) «3».

ثالثها: ما هو المنسوب إلى المشهور «4» من وجوب القضاء بمقدار يظنّ معه

______________________________

(1) في ص 232 235.

(2) في ص 232 235.

(3) راجع هداية المسترشدين 13 صفحة بعد مبحث البراءة، حكاه في التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 333.

(4) رياض المسائل: 3/ 19، جواهر الكلام: 13/ 125.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 222

..........

______________________________

بالفراغ.

و الدليل على القول الأوّل أمران:

الأمر الأوّل: و هو العمدة، أنّ المكلّف و إن علم بتنجّز التكليف عليه سنة واحدة مثلًا، و كان الواجب عليه في تلك المدّة الصلاة مع الكيفية الخاصّة التي يشكّ في أنّه أتى بها بتلك الكيفيّة أم لا، إلّا أنّه عالم بسقوط هذا التكليف في كلّ يوم للقطع بامتثاله أو عصيانه، فسقوط التكليف المعلوم المنجّز معلوم، و إنّما الشكّ في سببه، و حيث إنّ القضاء بأمرٍ جديد و موضوعه الفوت الذي هو أمر وجودي، ففي الزائد على المقدار الذي يتيقّن بطلانه يشكّ في أصل توجّه التكليف بالقضاء، فلا مجرى إلّا لأصالة البراءة.

نعم، لو قلنا بأنّ القضاء بالأمر الأوّل، أو أنّ موضوعه الفوت و هو أمر عدميّ يثبت باستصحاب عدم الإتيان

بالمأمور به في المدّة الزائدة، أو قلنا بجريان الأُصول المثبتة، لكان اللازم الإتيان بالمقدار المشكوك أيضاً، إمّا لقاعدة الاشتغال و إمّا للاستصحاب.

الأمر الثاني: أصالة الصحّة، نظراً إلى أنّه يحتمل مصادفته للواقع بناءً على جريانها في مثل المقام ممّا كانت صحّة العمل مشكوكة على تقدير الالتفات أيضاً، و أمّا بناءً على الاختصاص بغير هذه الصورة فلا مورد لها، و سيأتي «1» التعرّض لذلك في بعض المباحث الآتية إن شاء اللّٰه تعالى «2».

و أمّا الدليل على القول الثاني فمضافاً إلى ما ظهر من تقرير دليل القول الأوّل من أنّه لو قلنا بأنّ القضاء بالأمر الأوّل أو أنّ موضوعه أمرٌ عدمي، أو أمر وجودي يثبت بالاستصحاب العدمي لكان اللازم نظراً إلى قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب الإتيان بالمقدار المشكوك أيضاً ما هو المحكي عن المحقّق المزبور ممّا حاصله:

أنّ في موارد دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الاستقلاليين و إن كان مقتضى

______________________________

(1) في ص 259.

(2) في ص 259.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 223

..........

______________________________

القاعدة الاقتصار على المقدار المتيقّن، و دفع احتمال الزائد بأصالة البراءة، كما في مورد تردّد الدين بين الأقل و الأكثر، إلّا أنّ ذلك فيما إذا تعلّق الشكّ بثبوت تكليف واقعي زائداً على المقدار المتيقّن، كما في المثال المذكور، و أمّا إذا شكّ في وجود تكليف منجّز واصل للمكلّف زائداً على القدر المتيقّن فهو مورد للاحتياط؛ لأنّ احتمال التكليف المنجّز منجّز لأنّه مساوق لاحتمال الضرر، و دفع العقاب المحتمل ممّا استقل العقل بلزومه، و هذا كما في غالب الفسقة، فترى أنّه يوماً يترك الصلاة و يعلم بفوات فرائضه و وجوب قضائها ثمّ يتركها في اليوم الثاني كذلك، و هكذا في اليوم

الثالث و الرابع إلى مدّة، ثمّ بعد ذلك يشكّ في أنّ القضاء المتنجّز عليه وجوبه في كلّ يوم بعلمه و التفاته هو الأقل أو الأكثر، فإنّه مورد للاحتياط لوجوب دفع العقاب المحتمل لدى العقل، و هذا بخلاف مثال الدين، فإنّه لا يعلم فيه أنّ ما أخذه من الدائن و يجب عليه أداؤه هو الأقل أو الأكثر «1».

و أُورد عليه بوجهين: أحدهما: أنّ ما أفاده لو تمّ فإنّما يتمّ فيما إذا كان التنجّز سابقاً على زمان الشكّ و التردّد بين الأقل و الأكثر، كما في المثال الذي ذكره. و أمّا إذا كان زمان التنجّز متّحداً مع زمان الشكّ و التردّد، كما إذا نام و حينما استيقظ شكّ في أنّ نومه هل استمرّ يوماً واحداً أو أزيد، فإنّ وجوب القضاء لم يتنجّز عليه إلّا في زمان الشكّ و التردّد، و المقام أيضاً من هذا القبيل؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف اعتقد صحّة ما أتي به لا عن تقليد، و لم يعلم أنّ إعماله مخالفة للواقع ليتنجّز عليه قضائها، و إنّما علم بالمخالفة بعد صدورها، و في الوقت نفسه يتنجّز عليه وجوب القضاء مردّداً بين الأقلّ و الأكثر، و على الجملة لم يتنجّز عليه وجوب القضاء شيئاً فشيئاً، و على نحو التدريج في كلّ يوم كما في المثال، و إنّما تنجّز عند العلم بالمخالفة و هو زمان الشكّ و التردّد، فلا مجرى إلّا لأصالة

______________________________

(1) راجع مبحث المسترشد بعد مبحث البراءة، حكاه في التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 333.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 224

..........

______________________________

البراءة.

ثانيهما: إنّ ما أفاده لا يرجع إلى محصل؛ لأنّ التنجّز يدور مدار المنجّز حدوثاً و بقاءً،

و من هنا قلنا بجريان الأُصول في موارد قاعدة اليقين؛ لزوال اليقين بالشكّ الساري لا محالة، و على ذلك فالمكلّف فيما مثل به و إن كان علم بوجوب قضاء الصلوات في اليوم الأوّل، و لأجله تنجَّز عليه وجوب القضاء، إلّا أنّه عند الشكّ و التردّد بين الأقل و الأكثر لا علم له بما فاتته من الصلوات، و إذا زال العلم زال التنجّز لا محالة، و لا يكفي العلم السابق بحدوثه في التنجّز بحسب البقاء، كما أنّه في مثال الدين إذا استدان من زيد متعدّداً و تردّد في أنّه الأقل أو الأكثر جرت البراءة مع العلم بوجوب ردّ الدين حين استلامه من الدائن، و بالجملة الشكّ في المقام من الشكّ في أصل ثبوت التكليف الزائد، فتجري فيه البراءة الشرعيّة و العقلية «1».

و يرد على الوجه الأوّل أنّه لا ملائمة بين هذا الكلام و بين ما جعله المُورِد محلّ النقض و الإبرام في المقام، حيث قال قبل الورود في ذكر أدلّة الأقوال ما ملخّصه:

إنّ محلّ الكلام يعني بين أصحاب هذه الأقوال الثلاثة هو ما إذا علم بتنجّز التكليف على المكلّف في زمان و تردّد بين الأقل و الأكثر لا ما إذا شكّ في أصل ثبوته، كما إذا علم أنّه لم يصلّ من حين بلوغه إلى اليوم، و لم يدر أنّه مضى من بلوغه شهر واحد أو شهران، و مثله ما لو نام مدّة فاتته فيها صلوات ثمّ انتبه و لم يدر مقدارها، يعني لأجل الجهل بمقدار النوم، و ذلك لأنّه لا خلاف في عدم وجوب القضاء زائداً على القدر المتيقّن في مثل تلك الموارد و أنّه مورد للبراءة، من دون فرق بين القول بأنّ القضاء بأمرٍ جديد

أو بالأمر الأوّل، و كذا بين القول بأنّ موضوعه الفوت الذي هو الأمر الوجودي، أو مجرّد عدم الإتيان بالمأمور به في وقته «2».

فإنّ مقتضى هذا الكلام أنّ النزاع في المقام إنّما هو مع العلم بتنجّز التكليف على المكلّف في زمان، و عليه فلا يبقى مجال للإيراد بنحو الوجه الأوّل، فتأمّل.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 334 336.

(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 331.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 225

..........

______________________________

و على الوجه الثاني أنّ تنظير المقام بموارد قاعدة اليقين و قياسه عليها في غير محلّه؛ لأنّه في تلك الموارد يسري الشكّ إلى نفس متعلّق اليقين، و يزول اليقين بعروض الشكّ لا محالة، فلا مانع من جريان الأُصول العملية بعد تحقّق مجاريها. و أمّا في المقام فهو لا يشكّ فعلًا في أنّ علمه السابق كان علماً واقعياً مطابقاً للواقع، ضرورة أنّه في هذا الحال يتيقّن إجمالًا بما هو المتعلق لليقين السابق، و الظاهر أنّ نظير المقام ما إذا علم شيئاً ثمّ نسيه مع الالتفات إلى أنّه كان عالماً به و كان علمه مطابقاً للواقع، و في مثل ذلك لا محيص عن العمل على طبق اليقين السابق و رعاية الاحتياط، للزوم دفع العقاب المحتمل عند العقل، كما أنّه في مثال الدين إذا علم بأنّه كان عالماً به في السابق، و كان واجباً عليه ردّه ثمّ تردّد بين الأقلّ و الأكثر لا يبعد الالتزام بوجوب الاحتياط، فتدبّر.

و الدليل على القول الثالث المنسوب إلى المشهور أنّ مثل المقام و إن كان مورداً للبراءة في نفسه، إلّا أنّ إجراء البراءة يستلزم كثيراً العلم بالوقوع في مخالفة التكليف الواقعي، و

قد صرّحوا بذلك في جملة من الموارد، كما إذا شكّ في الاستطاعة أو في بلوغ المال حدّ النصاب، أو شكّ في ربحه أو في الزيادة على المؤنة، و قالوا: إنّها و إن كانت مورداً للبراءة في نفسها إلّا أنّ إجراءها يستلزم العلم بالمخالفة، و مقتضى ما ذكر و إن كان هو القضاء في المقام بمقدار يتيقّن معه بالفراغ إلّا أن إيجابه يستلزم العسر و الحرج، فيكفي الظن بالفراغ؛ لأنّه أوسط الأُمور و خير الأُمور أوسطها.

و أُورد عليه بوجهين:

أحدهما: أنّ جريان البراءة في تلك الموارد و إن كان يستلزم العلم بالوقوع في مخالفة الواقع عند إجراء البراءة، إلّا أنّ الكلام في أنّ هذا العلم يحصل لأيّ شخص أ للمقلّد أم للمفتي؟ أمّا المقلّد فلا علم له بالوقوع في مخالفة الواقع و إنّما يحتمل المخالفة كما يحتمل الموافقة، و أمّا المفتي فهو و إن كان يحصل له العلم بذلك إلّا أنّ علم المجتهد إجمالًا بمخالفة عمل العامي للواقع لا يترتّب عليه أثر؛ لأنّه إنّما يفتي بلحاظ وظيفة المقلد، بل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 226

..........

______________________________

لو علم علماً تفصيليّاً بوقوع المقلد في مخالفة الواقع بتجويز المجتهد لم يترتّب أثر عليه، كما إذا علم أنّ زيداً مستطيع غير أنّ المقلّد لم يكن عالماً بذلك، فإنّ له أن يتمسّك بالبراءة.

ثانيهما: أنّه على تقدير كون المقام من موارد الاشتغال دون البراءة لا يكون للاكتفاء بالظن وجه صحيح، و كون الاحتياط موجباً للعسر و الحرج إنّما يقتضي عدم وجوبه في خصوص ما إذا كان موجباً له؛ لأنّ المدار هو الحرج الشخصي دون النوعي، فإذا لم يكن حرجيّا كما إذا دار أمر الفائت بين صلاتين أو

ثلاث فيجب عليه الاحتياط حينئذٍ، لأنّه لا حرج على المكلّف في الإتيان بالمحتمل الأكثر فلا وجه للتنزّل من الامتثال اليقيني إلى الظنّي أصلًا.

و التحقيق في هذا المقام أن يقال: لا ينبغي الإشكال في أنّ القضاء إنّما يحتاج إلى أمرٍ جديد، و لا معنى لأن يكون بالأمر الأوّل، فإنّه لو أُريد به أنّ الأمر الأوّل بنفسه يدلّ على وجوب الإتيان بالصلاة مثلًا في الوقت، و مع عدم الإتيان بها في خارج الوقت بحيث يكون الأمر الأوّل متعرّضاً لحال كلتا الصورتين، فمن الواضح عدم ثبوت الأمر بهذه الكيفيّة في مثل الصلاة؛ لأنّ الأدلّة الواردة فيها بين ما لا يكون في مقام بيان الوقت أصلًا كقوله تعالى في مواضع متكثّرة من الكتاب العزيز أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ «1» و بين ما يدلّ على التقييد بالوقت مثل قوله تعالى أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ «2».

و إن أُريد به أنّ الأمر الأوّل و إن كان لا يدلّ على أزيد من وجوب الإتيان بالمأمور به في وقته، إلّا أنّ مقتضى الجمع بينه و بين أدلّة القضاء الحكم بكون القضاء بالأمر الأوّل، فيرد عليه أنّ المراد بكونه بالأمر الأوّل إن كان هي دلالة الأمر الأوّل عليه في مقام الإثبات، بحيث لا تكون حاجة إلى الأمر الثاني فمن الواضح بطلانه، ضرورة أن الأمر الأوّل لا دلالة له بحسب مقام الإثبات على أزيد من لزوم الإتيان بالمأمور به في وقته، كما هو المفروض.

______________________________

(1) سورة المزّمل: 73/ 20، سورة المجادلة: 58/ 13.

(2) سورة الإسراء: 17/ 78.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 227

[الشكّ في صحّة تقليده السابق]

مسألة 25: إذا كان أعماله السابقة مع التقليد و لا يعلم أنّه كان

______________________________

و إن كان المراد به

هو أنّ وجوب الأداء في الوقت بنحو تعدّد المطلوب، فهو و إن كان صحيحاً إلّا أنّ تعدّد المطلوب أمر و كون القضاء محتاجاً إلى أمرٍ جديدٍ أمراً آخر، ضرورة أنّه لو لم يكن هناك أمرٌ بالقضاء لَما كان يستكشف تعدّد المطلوب، فلا يلازم هذا المعنى كون القضاء بالأمر الأوّل، فتأمّل جيّداً.

و قد انقدح من ذلك أنّه لا معنى لكون القضاء بالأمر الأوّل الذي مرجعه إلى عدم الحاجة إلى الأمر الثاني، كما أنّ الظاهر أنّ المراد من الفوت المأخوذ في موضوع دليل القضاء هو مجرّد ترك الواجب في وقته، و عدم الإتيان بالمأمور به في ظرفه، و لا يكون أمراً وجودياً ملازماً للترك، و عليه فمقتضى الاستصحاب عدم الإتيان به فيه، فيتحقّق الفوت الذي هو الموضوع لوجوب القضاء الثابت بالأمر الثاني.

و مع قطع النظر عن هذه الجهة يكون المقام من موارد جريان البراءة؛ لعدم العلم بثبوت التكليف بالقضاء أزيد ممّا يعلم، إذ المفروض أنّه في حال الاشتغال بالعمل لم يكن ملتفتاً إلى عدم التقليد و احتياج العمل إليه، بل الالتفات إنّما حصل بعد مضيّ مدّة عمل فيها أعمالًا كثيرة، فيفترق المقام عن مثال الفاسق المذكور في كلام المحقّق صاحب الحاشية، فالإنصاف أنّه مع قطع النظر عن الجهة المذكورة يجري في المقام أصالة البراءة عن وجوب إتيان الزائد على القدر المتيقّن.

نعم، هنا شي ء ينبغي الالتفات إليه؛ و هو أنّ مجرّد المخالفة لا يكفي في الحكم بلزوم القضاء، بل لا بدّ من ملاحظة فتوى المجتهد الذي تكون وظيفة هذا المقلِّد الرجوع إليه، و أنّ المخالفة هل تكون بكيفيّة موجبة للقضاء عنده، أم لا؟ فوجوب القضاء في مورده إنّما هو على تقدير عدم الدليل على صحّة العمل مع اتّصافه

بالمخالفة، و الملاك في تشخيص الصحّة هي فتوى المجتهد، فتأمّل جيّداً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 228

عن تقليد صحيح أم فاسد يبني على الصحّة (1).

______________________________

(1) الكلام في هذه المسألة قد يقع في أصل التقليد الواقع، و أنّه هل وقع صحيحاً، أم لا؟ و قد يقع من جهة الأعمال الّتي وقعت مع التقليد المشكوك صحّته و فساده، و أنّه هل تجب الإعادة و القضاء، أم لا؟

أمّا من الجهة الأُولى: فمنشأ الشك في صحّة التقليد، أمّا الشكّ في أنّ المجتهد الذي كانت أعماله السابقة مطابقة لآرائه، هل كان مستجمعاً للشرائط المعتبرة في المرجعية من العدالة و الاجتهاد و غيرهما؟ و أمّا الشكّ في أنّه بعد العلم بكونه مستجمعاً لتلك الشرائط هل يكون تقليده إيّاه مطابقاً للموازين الشرعيّة؟

أمّا الشكّ في الفرض الأوّل، فالحكم فيه هو وجوب الفحص عن الاستجماع و عدمه، و لا يكفي العلم السابق به بعد زواله بالشكّ، و الظاهر عدم كونه هو المراد من العبارة؛ لأنّه دام ظلّه تعرّض لهذه الصورة في المسألة السابعة عشر المتقدّمة. هذا، مضافاً إلى أنّ نفس صحّة التقليد في هذا الفرض ممّا لا يترتّب عليه أثر أصلًا؛ لأنّ الأثر المترتّب على الصحّة إنّما هي حرمة العدول عنه إلى غيره، و جواز البقاء على تقليده بعد فرض موته، و من المعلوم أنّه مع الشكّ في أصل استجماعه للشرائط و عدمه لا معنى لحرمة العدول و جواز البقاء كما هو واضح، فهذا الفرض خارج عن العبارة التي يكون الحكم فيها هو البناء على الصحّة، الظاهر في البناء على صحّة التقليد.

و أمّا الشكّ في الفرض الثاني، فهو ممّا لا وجه له؛ لأنّه بعد العلم بكون المجتهد جامعاً

للشرائط، و أنّ أعماله كانت مستندة إلى آرائه و أنظاره، و مطابقة لفتاواه، لا معنى للشكّ في صحّة التقليد؛ لأنّ الشرائط المعتبرة إنّما تكون معتبرة في المرجع و المفروض وجودها، و لا يعتبر في صحّة التقليد أمرٌ زائد على ذلك، و لو فرض لزوم الاستناد فالمفروض تحقّقه أيضاً، فلا يبقى موقع للشكّ في الصحّة أصلًا، و عليه فيشكل المراد من العبارة، حيث إنّ ظاهرها الحكم بصحّة التقليد مع الشكّ فيها، و الشكّ في الفرض الأوّل قد تعرّض لحكمه في المسألة المذكورة المتقدّمة، و في الفرض الأخير ممّا لا يتصوّر، فأين يحكم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 229

..........

______________________________

بالبناء على صحّة التقليد.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ نظر الماتن دام ظلّه و من عبّر بمثل هذه العبارة كصاحب العروة (قدّس سرّه) «1» ليس الحكم بصحّة التقليد من جهة ترتّب أثر حرمة العدول أو جواز البقاء عليه، بل صحّته من جهة الحكم بصحّة الأعمال السابقة، الواقعة عن تقليد لا يعلم كونه صحيحاً أم فاسداً، نظراً إلى ما صرّح به في المسألة السادسة عشر المتقدّمة من أنّ الأعمال السابقة الواقعة عن تقليد صحيح لا تجب إعادتها و لا قضاؤها في العبادات، و لا تكون محكومة بالبطلان في المعاملات، و إن كان مقتضى التقليد الفعلي بطلانهما، فالغرض من هذه المسألة هو الحكم بصحّة الأعمال السابقة مع الشكّ في كونها عن تقليد صحيح، نظراً إلى جريان أصالة الصحّة في التقليد، فإنّ صحّة التقليد و إن لم يكن يترتّب عليها أثر شرعيّ بنفسه بهذه الملاحظة، إلّا أنّه يكفي في جريان أصالة الصحّة مدخلية الصحّة في ترتّب الأثر الشرعي و إن لم تكن تمام الموضوع، فإذا فرض

صحّة الأعمال السابقة عبادة كانت أو معاملة مع وقوعها عن تقليد صحيح، فمع الشكّ في وقوعها عنه تجري أصالة الصحّة في التقليد و يترتّب عليها صحّة تلك الأعمال.

و الظاهر أنّ هذا هو المراد من العبارة، حيث جمع فيها بين فرض الموضوع هي الأعمال السابقة، و بين الحكم بالبناء على صحّة التقليد كما عرفت، أنّه الظاهر من العبارة. نعم، يمكن البحث و الإشكال في صحّة الأعمال مع صحّة التقليد أيضاً، و قد مرّ الكلام فيه مفصّلًا «2»، و لكن هذه المسألة بعد فرض كون الحكم في تلك الصورة هي الصحّة. و عليه فلا وجه للتفكيك بين صحّة التقليد و فساده، و بين صحّة الأعمال السابقة و بطلانها، و جعل المدار في الثانية هي المطابقة لخصوص الواقع، كما صنعه بعض الأعلام في الشرح على العروة «3»، فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) العروة الوثقى: 1/ 14 مسألة 41.

(2) في ص 210.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 339 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 230

[إذا مضت مدّة من بلوغه و شكّ بعد ذلك في أنّ أعماله كانت عن تقليد صحيح أم لا]

مسألة 26: إذا مضت مدّة من بلوغه و شكّ بعد ذلك في أنّ أعماله كانت عن تقليد صحيح أم لا، يجوز له البناء على الصحّة في أعماله السابقة، و في اللاحقة يجب عليه التصحيح فعلًا (1).

[العدالة في المفتي و القاضي و طرق ثبوتها]

مسألة 27: يعتبر في المفتي و القاضي العدالة، و تثبت بشهادة عدلين، و بالمعاشرة المفيدة للعلم أو الاطمئنان، و بالشياع المفيد للعلم، بل تُعرف بحسن الظاهر و مواظبته على الشرعيّات و الطاعات و حضور الجماعات و نحوها، و الظاهر أنّ حسن الظاهر كاشف تعبّدي و لو لم يحصل منه الظن أو العلم (2).

______________________________

(1) الظاهر أنّ هذه المسألة هي المسألة المتقدّمة بعينها، و لا فرق بينهما إلّا في أنّ الشكّ هنا يجتمع مع احتمال عدم تحقّق التقليد رأساً، و المفروض في المسألة المتقدّمة العلم بالتقليد و الشكّ في الصحّة، و المقصود من هذه المسألة بيان أنّ البناء على الصحّة إنّما يجدي في خصوص الأعمال السابقة، و لا يكفي ذلك البناء في الحكم بصحّة الأعمال اللاحقة المطابقة لها، و إن كان بينهما التلازم في الصحّة واقعاً، بل يجب عليه في الأعمال اللاحقة التصحيح فعلًا؛ لأنّ أصالة الصحّة الجارية فيما مضى لا تثبت الصحّة فيما يأتي، نظير قاعدة الفراغ الجارية في الصلاة التي شكّ في وقوعها مع الطهارة مثلًا، فإنّها لا تثبت جواز الدخول في الصلاة الثانية بلا إحراز الطهارة كما هو ظاهر.

(2) أمّا اعتبار العدالة في المفتي فقد عرفت الكلام فيه في شرائط من يرجع إليه للتقليد «1».

و أمّا اعتباره في القاضي فيدلّ عليه مضافاً إلى الإجماع، و إلى الأولوية القطعية الثابتة للمقام بالإضافة إلى إمام الجماعة و الشاهد، فإنّه إذا اعتبرت العدالة في إمام الجماعة مع أنّه لا يبلغ من

الأهميّة منصب الإفتاء و القضاء فاعتبارها فيهما بطريق أولى،

______________________________

(1) في ص 87 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 231

[معنىٰ العدالة]

مسألة 28: العدالة عبارة عن ملكة راسخة باعثة على ملازمة التقوى مِن ترك المحرّمات و فِعل الواجبات.

مسألة 29: تزول صفة العدالة حكماً بارتكاب الكبائر أو الإصرار على الصغائر، بل بارتكاب الصغائر على الأحوط، و تعود بالتوبة إذا

______________________________

و إلى أنّ التحاكم و الترافع إلى الفاسق من المصاديق الظاهرة للركون إلى الظلمة المنهيّ عنه في الشريعة المقدّسة، و إلى أنّ الخصوصيّات التي اعتبرها الشارع في القضاء و القاضي لا تلائم إلّا مع ثبوت وصف العدالة للقاضي، كما هو ظاهر لمن تأمّلها روايات:

منها: صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ «1».

و منها: صحيحة أبي خديجة قال: بعثني أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) إلى أصحابنا فقال: قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة، أو تدارى في شي ء من الأخذ و العطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، و إيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر «2».

فإنّ في تعليق النهي عن التحاكم على وصف الفسق إشعار بل دلالة على أنّ الفاسق لا يكون أهلًا لذلك.

ثمّ إنّ طريق ثبوت العدالة ما ستعرف مفصّلًا إن شاء اللّٰه تعالى «3»، و يأتي أنّه قد جعل الشارع لها أمارة موسومة بحسن الظاهر، و أنّ كاشفيّته لا تختصّ بما إذا أفاد العلم أو الاطمئنان، بل هو كاشف شرعي تعبّدي، و أنّ حسن الظاهر

قد يحرز من طريق المعاشرة، و قد يحرز من غير هذا الطريق، فانتظر.

______________________________

(1) الكافي: 7/ 406 ح 1، الفقيه: 3/ 4 ح 7، التهذيب: 6/ 217 ح 511، الوسائل: 27/ 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 3 ح 3.

(2) التهذيب: 6/ 303 ح 846، الوسائل: 27/ 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 6.

(3) في ص 317.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 232

كانت الملكة المذكورة باقية (1).

______________________________

(1) الكلام في هاتين المسألتين يقع في مقامين:

المقام الأوّل: معنى العدالة و مفهومها، و هي لغة بمعنى الاستواء أو الاستقامة أو هما معاً، و قد اختلف الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم أجمعين في بيان المراد من هذه اللفظة الواردة في كلام الشارع و المتشرّعة على أقوال يرجع ظاهرها إلى خمسة:

أحدها: ما هو المشهور بين العلّامة «1» و من تأخّر عنه «2»، بل نسب إلى المشهور «3» بقول مطلق، بل إلى العلماء أو الفقهاء أو الموافق و المخالف، من أنّها كيفيّة نفسانية راسخ في النفس باعثة على ملازمة التقوى أو عليها مع المروءة، و قد وقع الاختلاف بين أصحاب هذا القول من جهة التعبير بلفظ الكيفيّة أو الملكة أو الحالة أو الهيئة أو أشباه ذلك، و لكن المراد واحد و هو الأمر النفساني الباعث على ذلك.

ثانيها: أنّ العدالة عبارة عن مجرّد الاجتناب عن المعاصي أو خصوص الكبيرة منها، و هو الظاهر من محكي السرائر، حيث قال: حدّ العدل هو الذي لا يُخِل بواجب و لا يرتكب قبيحاً «4». و عن المحدّث المجلسي «5» و المحقّق السبزواري (قدّس سرّهما) «6» نسبة هذا القول إلى الأشهر، و مرجعه إلى أنّ العدالة عبارة عن الاستقامة

العملية في جادة الشريعة في أفعاله و تروكه، من دون اعتبار كون ذلك ناشئاً عن الملكة و الحالة النفسانية.

و الظاهر أنّ المراد بهذا القول هو القول الأوّل، فإنّ ظاهر عدم الإخلال بالواجب خصوصاً مع التعبير عنه بصيغة المضارع هو أن لا يكون من شأنه الإخلال بالواجب و ارتكاب القبيح، و هو لا يكاد ينطبق إلّا على الملكة و الحالة النفسانية، و بعبارة اخرى ليس المراد بعدم الإخلال إلّا عدمه مطلقاً و لو في الاستقبال هذا لا يكاد يحرز مع عدم الملكة أصلًا.

و يؤيّده ما عرفت من أنّه نسب هذا القول المحدّث المجلسي و المحقّق

______________________________

(1) إرشاد الأذهان: 2/ 156، مختلف الشيعة: 8/ 501.

(2) ذكرى الشيعة: 4/ 101، جامع المقاصد: 2/ 372، الروضة البهية: 1/ 378 379.

(3) مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 311.

(4) السرائر: 1/ 280.

(5) بحار الأنوار: 88/ 25.

(6) راجع كفاية الأحكام: 279 و ذخيرة المعاد: 302 303.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 233

..........

______________________________

السبزواري (قدّس سرّهما) إلى الأشهر، مع أنّه لا ريب في أنّ التفسير بالملكة أشهر، فيدلّ ذلك على أنّ مرادهما من الاجتناب عن المعاصي و عدم الإخلال بالواجب هو ما يكون ناشئاً عن الملكة، كما هو ظاهر.

ثالثها: أنّه عبارة عن الاستقامة الفعلية العملية منضمّة إلى الملكة النفسانية، و هذا المعنى و إن كان بظاهره يغاير المعنى الأوّل، فإنّ الملكة التي فُسِّرت بها العدالة بناءً على المعنى الأوّل لا تُنافي حصول المعصية الكبيرة، كما أنّ الاجتناب عن المعاصي يمكن أن يتحقّق من دون ملكة، إلّا أنّه بعد ملاحظة أنّ مراد القائل بالمعنى الأوّل ليس مجرّد حصول الملكة و لو لم يتحقّق الاجتناب عن المعاصي فعلًا؛ للإجماع على أنّ

فعل الكبيرة قادح في العدالة.

فاللازم أن يُقال: بأنّ مراده هي الملكة و الاجتناب الفعلي، فلا مغايرة بين التفسيرين، و لا تنافي بين المعنيين إلّا في مجرّد أنّ مرجع الوجه الأوّل إلى أنّ العدالة عبارة عن الملكة الباعثة على الاجتناب العملي، و مرجع الوجه الأخير إلى أنّها عبارة عن العمل الخارجي و الاجتناب الفعلي الناشئ عن الحالة النفسانية، و هذا المقدار من الفرق لا يترتّب عليه ثمرة أصلًا.

رابعها: الإسلام و عدم ظهور الفسق، و هو المحكي عن ابن الجنيد «1» و المفيد في كتاب الإشراف «2»، و الشيخ في كتابي المبسوط «3» و الخلاف «4» مدعياً عليه الإجماع، و حكي هذا المعنى عن أبي حنيفة من العامّة «5».

خامسها: حسن الظاهر، و مرجعه إلى كونه في الظاهر يعدّ رجلًا صالحاً مطيعاً للأوامر و النواهي الشرعيّة، نسب هذا القول إلى جماعة بل إلى أكثر القدماء «6». و الظاهر أنّ هذين المعنيين ليسا قولين في العدالة و تفسيرين لها؛ لأنّها من الأوصاف الواقعيّة و الفضائل النفس الآمرية، و مجرّد ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر لا يوجب أن يكون الشخص متّصفاً بهذه الصفة واقعاً، فإنّه يمكن أن يكون

______________________________

(1) حكى عنه في مختلف الشيعة: 2/ 513.

(2) لم نعثر عليه في كتاب الإشراف المطبوع في ضمن المجلّد التاسع من سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد. و حكاه عنه الشيخ الأنصاري في المكاسب: 326 و مفتاح الكرامة: 3/ 80 و جواهر الكلام: 13/ 280.

(3) المبسوط: 8/ 217.

(4) الخلاف: 6/ 217 218.

(5) المغني لابن قدامة: 12/ 30، الشرح الكبير: 12/ 40، المبسوط: 16/ 121، الخلاف: 6/ 301 مسألة 50.

(6) جواهر الكلام: 13/ 290، رسالة في العدالة: 7 11.

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 234

..........

______________________________

في الواقع فاسقاً. غاية الأمر أنّه لم يظهر فسقه بل كان ظاهره حسناً.

و بعبارة اخرى مقتضى ذلك أن تكون العدالة من الأُمور التي يكون وجودها الواقعي عين وجودها الذهني، و هذا لا يلائم مع كون ضدّها و هو الفسق من الأُمور الواقعية التي لا دخل للذهن فيها و لا مدخلية للعلم في تحقّقها. و الدليل عليه مضافاً إلى الإجماع إضافة كلمة الظهور إلى الفسق في التفسير الرابع، و عليه فمن كان في علم اللّٰه مرتكباً للكبائر مع عدم ظهور ذلك لأحد يلزم أن يكون عادلًا واقعاً و فاسقاً واقعاً، و كذا لو علمنا بأنّ زيداً مع اتّصافه بحسن الظاهر سابقاً كان في ذلك الزمان مرتكباً للكبائر يلزم أن يكون في ذلك الزمان عادلًا واقعاً لاتّصافه بحسن الظاهر، و فاسقاً كذلك لأجل الارتكاب للكبيرة، و بطلان هذا أوضح من أن يخفى.

فاللازم أن يقال: بأنّ هذين المعنيين طريقان للعدالة، و المقصود أنّ ما يترتّب عليه الأثر من الأحكام المترتّبة على العدالة هو هذا المعنى، الذي يكون كاشفاً عن العدالة شرعاً.

و الدليل عليه مضافاً إلى ما ذكرناه أنّ الشيخ (قدّس سرّه) في الخلاف بعد ما تمسّك لمذهبه في قِبال الشافعي و أبي حنيفة و غيرهما؛ و هو عدم وجوب البحث عن الشاهد الذي عرف إسلامه و لم يعرف جرحه بإجماع الفرقة و اخبارهم، قال: و أيضاً الأصل في الإسلام العدالة، و الفسق طارٍ عليه يحتاج إلى دليل. و أيضاً نحن نعلم أنّه ما كان البحث في أيّام النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) و لا أيّام الصحابة و لا أيّام التابعين، و إنّما هو شي ء أحدثه شريك بن عبد اللّٰه

القاضي إلخ «1». فإنّ تمسّكه بالأصل و كذا بعدم ثبوت البحث في تلك الأيّام المختلفة المتعاقبة ظاهر في أنّه ليس مراده من ذلك تفسير حقيقة العدالة و بيان معناها، بل المراد بيان ما يكفي في حكم الحاكم بشهادة الشاهدين، و أنّ الملاك في ذلك مجرّد معروفيّة إسلامهما و عدم معروفيّة جرحهما، كما لا يخفى.

فانقدح من جميع ذلك أنّ العدالة لا يكاد يكون لها إلّا معنى واحد و حقيقة فأرده؛

______________________________

(1) الخلاف: 6/ 218 مسألة 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 235

..........

______________________________

و هي المشتملة على الملكة و الحالة النفسانية التي هي من المراتب التالية للعصمة. غاية الأمر أنّ العصمة عبارة عن الملكة التي تحصل للنفوس الشريفة و يمتنع معها صدور المعصية عادة، و أمّا ملكة العدالة فلا يمتنع معها صدورها كذلك و لكن يتعسّر و يصعب.

ثمّ إن بعض الأعلام ذكر في شرحه على العروة كلاماً في معنى العدالة محصّله: أنّه لم تثبت للعدالة حقيقة شرعيّة و لا متشرّعيّة، و إنّما هي بمعناها اللغوي، أعني الاستقامة و عدم الجور و الانحراف، و هي قد تستند إلى الأُمور المحسوسة فيقال: هذا الجدار عادل، و قد تستند إلى الأُمور غير المحسوسة فيُراد منها الاستقامة المعنويّة، فيقال: عقيدة فلان مستقيمة، و قد تستند إلى الذوات فيقال: زيد عادل، و هذا هو المراد من العدالة المطلقة، و معناها حينئذٍ هي الاستقامة العملية التي هي صفة خارجية و ليست من الأوصاف النفسانية.

ثمّ قال في توضيحه ما ملخّصه: إنّ ترك المحرّمات و الإتيان بالواجبات قد يستند إلى عدم المقتضي لفعل الحرام أو ترك الواجب، كما إذا لم تكن له قوّة شهوية أو غضبية، و هذا مجرّد فرض لا

وقوع له، أو لو كان متحقّقاً فهو من الندرة بمكان. و كيف كان، فعلى تقدير تحقّقه لا يكفي ذلك في تحقّق العدالة بوجه؛ لأنّ المكلّف و إن لم ينحرف حينئذٍ عن جادّة الشرع إلّا أنّه لم يسلك جادّته برادع عن المحرّمات، و إنّما سلكها لاعن مقتضٍ لارتكابها، و هو في الحقيقة خارج عن موضوع العدالة و الفسق.

و قد يكون ترك المحرّمات و فعل الواجبات مستنداً إلى الرادع عن المعصية مع وجود المقتضي لارتكابها، و هذا الرادع قد يكون تسلّط القوّة العاقلة على العقل العملي؛ بمعنى أنّ العقل قد يكون مسيطراً على النفس سيطرة تامّة، فيلاحظ الأعمال التي يريد المكلّف إصدارها، فيصدر ما هو محبوب منها للّٰه سبحانه، كما حكي ذلك عن السيّد الرضي (قدّس سرّه) «1»، و أنّه لم يرتكب مباحاً طيلة حياته فضلًا عن الحرام و المكروه،

______________________________

(1) لم نعثر عليه في مظان إمكان وقوعه، نعم حكى عنه في التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 256.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 236

..........

______________________________

و من الواضح أنّ العدالة المعتبرة في الموارد الكثيرة لا يكاد يكون المراد بها هذا المعنى الذي هو تلو مرتبة العصمة.

و قد يكون الرادع عن ارتكاب المعصية مع وجود المقتضي لها رجاء الثواب أو الخوف من العقاب، كما لعلّه الغالب في آحاد المكلّفين، و هذا المعنى من العدالة هو المراد منها في موضوع جملة من الأحكام الشرعيّة.

ثمّ إنّ الرادع عن ارتكاب المحرّم إذا لم يكن هو الخوف أو الرجاء فلا يخلو إمّا أن يكون أمراً محرّماً في نفسه كالرياء، و من البديهي أنّ ذلك لا يكون من العدالة في شي ء، بل هو محكوم بالفسق، و إمّا

أن يكون أمراً مباحاً، كما إذا كان الرادع الشرافة و الجاه و الخوف عن السقوط عن أعين الناس، و في هذه الصورة يكون المكلّف خارجاً عن عنواني العادل و الفاسق معاً.

فانقدح أنّ العدالة هي الاستقامة العملية في جادّة الشرع بداعي الخوف من اللّٰه أو رجاء الثواب؛ و هي صفة عملية و لا تكون من الأوصاف النفسية، لكنّه يعتبر أن تكون هذه الاستقامة مستمرّة بحيث تصير كالطبيعة الثانوية للمكلّف، فالاستقامة في زمان دون زمان كما في شهر رمضان، أو مكان دون مكان كما في المساجد و المشاهد لا تكون عدالة أصلًا. نعم، لا يضرّ بها ارتكاب المعصية في بعض الأحيان لغلبة الشهوة أو الغضب فيما إذا ندم بعد الارتكاب «1».

و يرد عليه بعد وضوح أنّه ليس المراد بالاستقامة هي الاستقامة فيما مضى فقط أو بضميمة الحال، بل الاستقامة الدائمية المطلقة الحاصلة بترك المحرّم و الإتيان بالواجب في الاستقبال أيضاً أنّ هذا النحو من الاستقامة الناشئة عن الخوف أو الرجاء لا تكاد تنفك عن الملكة، فإنّ القائل باعتبار الملكة في العدالة لا يريد بها إلّا الحالة التي إذا اطّلع الغير عليها يطمئنّ بعدم صدور المعصية من صاحبها إلّا أن يحاط به و يغلب عليه الشهوة أو الغضب على خلاف العادة،

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 254 257.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 237

..........

______________________________

و من المعلوم أنّ تحقّق الخوف الدائمي و الرجاء كذلك لا ينفك عن هذه الحالة و الكيفيّة، بل لا مغايرة بين الأمرين، فإنّ الحالة الكذائيّة ليست إلّا حالة الخوف المرتكزة في النفس الحاصلة بعد تحقّق مبادئها، التي هي عبارة عن الاعتقاد بالوحدانية و بالرسالة و بغيرهما

من الأُمور الاعتقادية، و بما يترتّب على مخالفة التكليف من التبعة، فالتحقيق أنّ هذا يرجع إلى النزاع اللفظي، و لا نزاع معنوياً في البين كما هو ظاهر.

نعم، لا بدّ من ملاحظة ما استدلّ به على اعتبار الملكة في العدالة، و هي أُمور مذكورة في كلام الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) على ما في رسالة العدالة «1»:

الأوّل: الأصل، و الظاهر أنّ المراد به أصالة عدم ترتّب الآثار المرغوبة من العدالة و المطلوبة منها على مجرّد الاجتناب العملي الذي لم يكن ناشئاً عن الملكة النفسانية، و أشار إلى ضعف هذا الدليل بأمره بالتأمّل، و لعلّ الوجه فيه أنّه ليس الشكّ في حصول مفهوم مبيّن و تحقّقه في الخارج، بل الشكّ في أصل المفهوم و المعنىٰ، و إجراء الأصل لا يثبت كون المفهوم معتبراً فيه الملكة إلّا على القول بالأُصول المثبتة، و هو خلاف التحقيق.

الثاني: الإجماع المنقول المعتضد بالشهرة المحقّقة بل عدم الخلاف، و هذا الدليل و إن كان يساعده ما ذكرناه من رجوع الأقوال المختلفة إلى قول واحد إلّا أنّ بلوغه إلى مرحلة الإجماع غير ثابت، و الإجماع المنقول لا يكون واجداً لوصف الحجيّة على ما قرّر في الأُصول «2».

الثالث: ما دلّ على اعتبار الوثوق بدين إمام الجماعة و ورعه، فإنّ الوثوق لا يحصل بمجرّد تركه المعاصي في جميع ما مضى من عمره ما لم يعلم أو يظنّ فيه ملكة الترك.

و أُورد عليه بالمنع عن عدم حصول الوثوق بدين من نرى أنّه يأتي بواجباته و يترك المحرّمات مع عدم إحراز الملكة فيه؛ لأنّا إذا عاشرنا زيداً مثلًا مدّة و رأينا

______________________________

(1) الرسائل الفقهيّة للشيخ الأنصاري: 11.

(2) فرائد الأُصول: 1/ 125 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير

الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 238

..........

______________________________

أنّه يخاف حيواناً من الحيوانات المؤذية مثلًا يحصل لنا الوثوق بذلك في حقّه، و كذلك الحال في المقام، فإنّا إذا عاشرناه مدّة و رأينا أنّه يخاف اللّٰه سبحانه و لا يرتكب محرّماً و لا يُخِلّ بواجب يحصل لنا الوثوق بديانته، و لو لم تكن الملكة موجودة فيه.

و الجواب عن ذلك ما ذكرنا من أنّ حصول الوثوق بتحقّق الخوف الدائمي، أو الرجاء كذلك فيه الموجب لعدم الإخلال بالواجب، و عدم الإتيان بالمحرّم عبارة أُخرى عن حصول الوثوق بالملكة و الحالة النفسانية، ضرورة عدم كون مراد القائل باعتبار الملكة أزيد من ذلك.

الرابع: ما ورد في الشاهد ممّا يدلّ على اعتبار المأمونية و العفّة و الصيانة و الصلاح و غيرها فيه مع الإجماع على عدم اعتبارها زيادة على العدالة، و وضوح كونها من الصفات النفسانية.

و أُورد عليه بأنّ العناوين المذكورة غير منطبقة على الأفعال النفسانيّة، فضلًا عن أن تنطبق على الصفات النفسانية، و تفصيل ذلك أنّ كون الرجل مرضيّاً بمعنى أنّ أفعاله ممّا يرضى بها الناس فهي من صفات الأعمال الخارجية و ليس من الصفات النفسانية.

نعم، الرضا صفة نفسانية إلّا أنّه صفة قائمة بالغير؛ لأنّ العادل هو المرضي و الراضي هو الغير، و كذا كونه صالحاً معناه أن لا يكون فاسد العمل، و كذا كونه مأموناً، فإنّ الأمر و إن كان بمعنى اطمئنان النفس و سكونها في مقابل اضطرابها و تشويشها إلّا أنّه أمرٌ قائم بالغير دون المتّصف بالعدالة، و الخيّر هو الذي كانت أعماله خيراً، و الصائن من ترك المعاصي مع وجود المقتضي لارتكابها، و الستر بمعنى التغطية و كون المكلّف ساتراً إمّا بمعنى أنّه ساتر لعيوبه عن اللّٰه سبحانه،

فهو بهذا المعنى عبارة أُخرى عن اجتنابه المعاصي، و إمّا بمعنى كونه مستوراً لدى الناس، بمعنى أنّه لا يتجاسر بالمعاصي و لا يتجاهر بها، فهذا أيضاً ليس من الصفات النفسانية، و العفّة بمعنى الامتناع عمّا لا يحلّ،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 239

..........

______________________________

و الامتناع هو من عناوين الأفعال الخارجيّة، فهذه الصفات و العناوين لا تكاد تنطبق على الصفات النفسانية بوجه.

و الجواب عن هذا الإيراد يظهر ممّا ذكرنا من أنّ هذه العناوين لا يكاد يراد بها إلّا تحقّقها في جميع الحالات و الأزمنة الثلاثة لا خصوص الماضي و الحال، و من المعلوم أنّ إحرازها كذلك لا يكاد ينفكّ عن تحقّق الملكة، خصوصاً بعد اعتبار كون الاجتناب ناشئاً عن الخوف النفساني و الرجاء كذلك، فإنّ إحراز الخوف الدائمي عبارة أُخرى عن إحراز الملكة المانعة عن ارتكاب المحرّم و الباعثة على الإتيان بالواجب، هذا مع ما سيأتي من أنّ بعض هذه العناوين قد فسّر في اللغة بما لا ينطبق إلّا على الصفة النفسانية، كالستر و العفاف و أشباههما «1».

الخامس: و هو العمدة في الباب، صحيحة عبد اللّٰه بن أبي يعفور التي رواها الصدوق في الفقيه، و الشيخ في التهذيب.

أمّا الأوّل، فقد رواها بإسناده عنه قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) بم تُعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تُقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: أن تعرفوه بالستر و العفاف، و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد اللّٰه عليها النار من شرب الخمر، و الزنا، و الربا، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف و غير ذلك، و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً

لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه و تفتيش ما وراء ذلك، و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته في الناس، و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ و حفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين، و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّا من علّة، فإذا كان كذلك لازماً لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عنه في قبيلته و محلّته قالوا: ما رأينا منه إلّا خيراً، مواظباً على الصلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه، فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين، و ذلك أنّ الصلاة ستر و كفّارة للذنوب،

______________________________

(1) يأتي في ص 277.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 240

..........

______________________________

و ليس يمكن الشهادة على الرجل بأنّه يصلّي إذا كان لا يحضر مصلّاه و يتعاهد جماعة المسلمين.

و إنّما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلّي ممّن لا يصلّي، و من يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيّع، و لو لا ذلك لم يمكن أحداً أن يشهد على آخر بصلاح؛ لأنّ من لا يصلي لا صلاح له بين المسلمين، فإنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) همّ بأن يحرق قوماً في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين، و قد كان فيهم من يصلّي في بيته فلم يقبل منه ذلك، و كيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممّن جرى الحكم من اللّٰه عزّ و جلّ و من رسوله (صلّى اللّٰه عليه و آله) فيه الحرق في جوف بيته بالنار، و قد كان يقول: لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلّا من علّة «1».

و أمّا الثاني، فقد رواه بإسناده

عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن محمّد بن موسى، عن الحسن بن علي، عن أبيه، عن علي بن عقبة، عن موسى بن أكيل النميري، عن ابن أبي يعفور نحوه، إلّا أنّه أسقط على ما حكاه في كتاب الوسائل قوله: فإذا كان كذلك لازماً لمصلّاه إلى قوله: و من يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيّع، و أسقط قوله: فإنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) همّ بأن يحرق إلى قوله: بين المسلمين، و زاد: و قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): لا غيبة إلّا لمن صلّى في بيته و رغب عن جماعتنا، و من رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته، و سقطت بينهم عدالته، و وجب هجرانه، و إذا رفع إلى إمام المسلمين أنذره و حذّره، فإن حضر جماعة المسلمين، و إلّا أُحرق عليه بيته، و من لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته، و ثبتت عدالته بينهم «2».

و الكلام في هذه الرواية الشريفة يقع في أمرين:

الأمر الأوّل: سندها، و قد حكي عن العلّامة الطباطبائي (قدّس سرّه) أنّه حكم بصحّة هذه الرواية، حيث قال في محكي ما صنّفه في مناسك الحج-: الصحيح

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 24 ح 65، التهذيب: 6/ 241 ح 591، الوسائل: 27/ 391، كتاب الشهادات ب 41 ح 1.

(2) التهذيب: 6/ 241 ح 596، الاستبصار: 3/ 12 ح 33، الوسائل: 27/ 392، كتاب الشهادات ب 41 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 241

..........

______________________________

عندنا في الكبائر أنّها المعاصي التي أوجب اللّٰه تعالى سبحانه عليها النار، و قد ورد تفسيرها بذلك في كثير من الأخبار المروية عن الأئمّة الأطهار صلوات اللّٰه عليهم أجمعين نحو صحيحة

عبد اللّٰه بن أبي يعفور الواردة في صفة العدل إلخ «1» لكن في مفتاح الكرامة بعد نقل هذه العبارة قال: الظاهر أنّ الخبر غير مصحّح لا في التهذيب و لا في الفقيه «2».

و الظاهر أنّ منشأ الإشكال في التهذيب هو اشتمال السند على محمد بن موسى الهمداني، و في الفقيه اشتماله على أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار، حيث لم يقع عنه ذكر في الكتب المصنّفة في الرجال حتى يعدل أو يجرح، مع أنّ التحقيق كما أفاده سيّدنا العلّامة الأستاذ البروجردي (قدّس سرّه) يقضي بعدم الاحتياج إليه «3».

توضيح ذلك أنّ الكتب الموضوعة في هذا الباب لا تتجاوز عن عدّة كتب، ككتاب رجال الشيخ و رجال الكشي و فهرستي النجاشي و الشيخ، و عدم التعرّض في هذه الكتب لبعض الرواة لا يوجب عدم الاعتناء بروايته؛ لأنّ كتاب رجال الشيخ لا يكون مشتملًا على جميع الرواة؛ لأنّ الظاهر أنّه كان بصورة المسودة، و كان غرض الشيخ الرجوع إليه ثانياً لنظمه و ترتيبه و توضيح حال بعض المذكورين ممّن لم يتعرّض لبيان حاله، كما يشهد لذلك الاقتصار في بعض الرواة على ذكر مجرّد اسمه و اسم أبيه، من دون أن يتعرّض لبيان حاله من حيث الوثاقة و غيرها، و كذا ذكر بعض الرواة مكرّراً كما يتّفق فيه كثيراً مع عدم التعرّض لذكر بعض آخر.

فهذا و أماثله ممّا يوجب الظنّ الغالب بكون الكتاب لم يبلغ إلى حدّ النظم و الترتيب و الخروج بصورة الكتاب، و ذلك كان مستنداً إلى كثرة اشتغال الشيخ (قدّس سرّه) بالتأليف و التصنيف في الفنون المختلفة الإسلامية من الفقه و الأُصول، و جمع الأحاديث و التفسير و الكلام و الرجال و غير ذلك من العلوم،

بحيث لو قسّمت مدّة حياته على تأليفاته لا يقع في مقابل كتابه هذا إلّا ساعات معيّنة معدودة.

______________________________

(1) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 3/ 91.

(2) مفتاح الكرامة: 3/ 91.

(3) نهاية التقرير: 3/ 230 232.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 242

..........

______________________________

و أمّا رجال الكشي فالظاهر كما يظهر لمن راجع إليه أنّه كان غرضه منه جمع الأشخاص الذين ورد في حقّهم الرواية مدحاً أو قدحاً أو غيرهما.

و أمّا الفهرستان، فالغرض منها إيراد المصنّفين و من برز منه تأليف أو تصنيف فعدم التعرّض لبعض الرواة فيهما لأجل عدم كونه مصنّفاً لا دلالة فيه على عدم وثاقته.

فانقدح أنّ عدم التعرّض في هذه الكتب الأربعة لا يدلّنا على عدم الوثاقة، بل يمكن استكشاف وثاقة الراوي من طرق أُخَر، منها تلاميذه الذين أخذوا عنه الحديث، فإذا كان الآخذ مثل الشيخ أو الصدوق أو المفيد أو غيرهم من الأعلام خصوصاً مع كثرة الرواية عنه لا يبقى ارتياب في وثاقته، و لأجل ذلك يحكم في المقام بوثاقة أحمد بن محمّد بن يحيى؛ لرواية مثل الصدوق و الشيخ عنه، خصوصاً مع كثرة رواياته، حيث إنّه كان راوية كتاب أبيه بإجازة منه، فالإنصاف أنّه لا مجال للمناقشة في مثل هذا السند، و أنّ ما أفاده العلّامة الطباطبائي من الحكم بصحّة هذه الرواية في كمال الصحّة، فافهم و اغتنم.

الأمر الثاني: دلالتها، و نقول: الظاهر أنّ السؤال فيها إنّما هو عن حقيقة العدالة و ما هو المراد منها في لسان الشارع، و إن كان ظاهر عبارته يعطي أنّ السؤال إنّما هو عن الأمارة المعرّفة لها بعد العلم بحقيقتها، و أنّها هي الملكة النفسانية الكذائيّة، نظراً إلى أنّها لو لم تكن من الصفات

النفسانيّة لما احتاجت إلى الأمارة الكاشفة، فالسؤال عنها دليل على كونها عبارة عن الملكة.

و ذلك أي وجه كون السؤال عن حقيقة العدالة أنّ لفظ «العدالة» و كذا «الفسق» و إن كان مستعملًا كثيراً في صدر الإسلام، و في عصر نزول القرآن بل قبله، و قد ورد في الكتاب العزيز موارد كثيرة استعملت فيها هذه اللفظة و كذا مضادّها، إلّا أنّه حيث كانت حقيقتها و ما يراد من مفهومها في الاستعمالات الشرعيّة مورداً لاختلاف المراجع في الفتوى للمسلمين في ذلك الزمان؛ كأبي حنيفة و غيره، حيث إنّ المحكي عن الأوّل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 243

..........

______________________________

كما عرفت «1» أنّه فسّرها بمجرّد ظهور الإسلام و عدم ظهور الفسق، و عن غيره تفسيرها بالاجتناب عن جميع الأُمور الّتي تعلّق النهي بها تحريماً أو تنزيهاً، و ارتكاب الطاعات كذلك واجبة أو مستحبّة، أراد السائل و هو ابن أبي يعفور الاستفهام عمّا هو المراد منها عند أهل البيت صلوات اللّٰه عليهم أجمعين و ليس مرادنا من ذلك أنّ سؤاله إنّما هو عن المعرّف المنطقي حتى يكون قوله: «بم تعرف» بصيغة المجهول من باب التفعيل، حتى يورد عليه مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر العبارة، خصوصاً بقرينة قوله في الجواب: «أن تعرفوه» بأنّ المعرّف المنطقي اصطلاح خاصّ بين المنطقيين حدث بعد صدور الرواية، بل مرادنا أنّ سؤاله إنّما هو عن مجرّد ما أُريد من العدالة في لسان الأئمّة (عليهم السّلام) في قبال مثل أبي حنيفة.

و لا ينافي ما ذكرنا من كون المراد من السؤال ذلك، قوله (عليه السّلام) في الجواب: «أن تعرفوه بالستر و العفاف» نظراً إلى أنّ المعرفة طريق للعدالة لا نفسها، و ذلك

لأنّ المعرفة المأخوذة في الجواب إنّما أُخذت آلة لتعريف العدالة و إفادة حقيقتها، مع أنّ هذا الإشكال مشترك الورود، ضرورة أنّه لو كان المراد السؤال عن طريق معرفة العدالة لا نفسها لم يكن الطريق المذكور في الجواب إلّا الستر و العفاف لا المعروفيّة بهما، فتدبّر.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الأمارة هي نفس المعرفة و المعروفيّة، و الستر و العفاف و كفّ البطن إلخ عبارة أُخرى عن حقيقة العدالة و ماهيّتها في لسان الشارع، و عليه فيرجع إلى ما ذكرنا، كما لا يخفى.

و أمّا الجواب، فقوله (عليه السّلام): «أن تعرفوه بالستر و العفاف» معناه أن يكون الرجل معروفاً عند المسلمين، بحيث يعرفونه أو تعرفونه أنتم بالستر الذي هو الحياء، و العفاف الذي هو الحياء أيضاً، قال في لسان العرب: الستر بالكسر: الحياء، و الحِجر العقل «2». و قال في لغة عفّ: العفّة: الكف عمّا لا يحلّ و يَجمُلُ، عفّ عن المحارم

______________________________

(1) في ص 265 266.

(2) لسان العرب: 3/ 243.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 244

..........

______________________________

و الأطماع الدنيّة يعفّ عِفَّة و عفاً، و عفافاً و عفافة بفتح العين فهو عفيف، و عفّ أي كفّ و تعفّف «1».

و بالجملة: أن يكون الرجل معروفاً بالكفّ عمّا لا يجمل له بالحياء المانع عن ارتكابه، و أن يكون معروفاً بكفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان عمّا لا يليق بها و لا يجمل لها، و منشأ هذا الكفّ هو الستر و الحياء؛ لأنّه معه يتعسّر من الشخص صدور ما لا ينبغي أن يصدر من مثله بحسب المتعارف، فهذه الجملة تدلّ على اعتبار المروءة في العدالة، كما هو المشهور «2» بين المتأخّرين؛ لأنّها ليست

إلّا عبارة عن ترك ما لا يليق بحال الشخص عادة، و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّٰه تعالى «3».

و قوله (عليه السّلام): «و يعرف» الظاهر أنّه منصوب معطوف على قوله (عليه السّلام): «تعرفوه» المنصوب بكلمة «أن» الناصبة، كما أنّ الظاهر أنّه بصيغة المذكّر كما في الوسائل و غيرها و الضمير فيه يرجع إلى الرجل الذي يراد معرفة عدالته، و معناه حينئذٍ أن يكون الرجل معروفاً أيضاً باجتناب الكبائر التي أوعد اللّٰه عليها النار من شرب الخمر و الزنا و الربا إلخ، و عليه تكون كلّ واحدة من الجملتين بعض المعرّف للعدالة؛ لأنّ الجملة الأُولى تدلّ على اعتبار المروءة، و الثانية على اعتبار الاجتناب عن الكبائر التي أوعد اللّٰه عليها النار، و ليست الجملة الأُولى تمام المعرّف للعدالة؛ و الثانية دليلًا على المعرّف؛ لأنّه مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر العبارة التي هي بصيغة المذكّر كما عرفت، و إلى أنّه لا يبقى فرق حينئذٍ بين المعرّف و الدليل عليه أصلًا يلزم أن لا يكون الدليل دليلًا على تمام المعرّف؛ لأنّه حينئذٍ لا بدّ من حمل المعرف على الأعم من الأعمال غير اللائقة بحاله عرفاً، بحيث يشمل غير الجائزة شرعاً أيضاً، مع أنّ الدليل و الطريق ينحصر بخصوص الثانية.

و دعوى أنّ العطف على الجملة الأُولى يلزم منه الاختلاف بين المعطوف و المعطوف عليه؛ من جهة أنّ المعطوف عليه هو معرفة المسلمين للرجل، و المعطوف

______________________________

(1) لسان العرب: 4/ 376.

(2) رسائل فقهيّة للشيخ الأنصاري: 17.

(3) في ص 315.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 245

..........

______________________________

هو معروفيّة الرجل عندهم.

مدفوعة بأنّه لا مانع من ذلك، بل وقع نظيره في الكتاب العزيز في قوله تعالى وَ لٰا

يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّٰا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّٰا أَنْ يَخٰافٰا أَلّٰا يُقِيمٰا حُدُودَ اللّٰهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا يُقِيمٰا حُدُودَ اللّٰهِ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ «1». حيث نسب الخوف أوّلًا إلى الزوجين ثمّ إلى أهلهما، و ليس ذلك إلّا لأجل كون مجرّد المعرضية كافياً في النسبة، كما لا يخفى.

و بالجملة: فالظاهر أنّ هذه الجملة جزء أخير من معرّف العدالة معطوفة على الجملة الأُولى، و هو مطابق لِما أفاده سيّدنا العلّامة الأستاذ البروجردي (قدّس سرّه) على ما قرّرته في كتاب «نهاية التقرير» «2» الذي يشتمل على تقريراته في جلّ مباحث الصلاة، و قد طبع في ثلاثة أجزاء، و لكن فيه شي ء؛ و هو أنّ ذكر المروءة أوّلًا في تفسير العدالة، و بيان حقيقتها قبل ما هو بمنزلة الركن في معناها؛ و هو اجتناب الكبائر بالوصف المذكور فيها ربما لا يلائم مقام التعريف و بيان المعنى، خصوصاً مع ذكر عبارات مختلفة و جهات متنوّعة.

فالأولى أن يقال: إنّ الجملة الأُولى تدلّ على اعتبار كلا الأمرين من المروءة و اجتناب الكبيرة، و الجملة الثانية تخصيص بعد التعميم، و امتيازها إنّما هو من جهة كونها الركن في معناها، و بها قوام العدالة، و يؤيّده مضافاً إلى ما ذكرنا تفسير العفّة في اللغة كما عرفت بالكفّ عمّا لا يحلّ و يَجمُلُ، حيث جمع بين الاجتناب عن غير الجميل و الاجتناب عن غير الحلال، و بناءً على ذلك يكون اعتبار الملكة في العدالة و دلالة الرواية عليه واضحاً؛ لما عرفت من أنّ الستر و العفاف من الأوصاف النفسية، و أمّا كفّ البطن و الفرج إلخ فهو أيضاً يرجع إلى حالة نفسانية؛ لأنّه مضافاً إلى دلالة لفظ «الكفّ» عليها؛ لأنّه ليس مجرّد

الترك و الاجتناب كما هو ظاهر قد عرفت أنه ليس

______________________________

(1) سورة البقرة: 229.

(2) نهاية التقرير: 3/ 237.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 246

..........

______________________________

المراد مجرّد الكفّ في بعض الحالات و بعض الأزمنة بل في جميعهما، و هذا لا ينطبق إلّا على وجود حالة مانعة عن ارتكاب الحرام و باعثة على الإتيان بالواجب، و عليه فقوله (عليه السّلام) بعد ذلك: «و يُعرف باجتناب الكبائر» إذا كان تخصيصاً بعد التعميم لا بدّ و أن يكون المراد به هو ملكة الاجتناب.

و أمّا بناءً على ما أفاده الأستاذ (قدّس سرّه) من كون كلّ من الجملتين بعض المعرّف للعدالة، فدلالة الرواية على اعتبار الملكة في الجملة الأُولى واضحة. و أمّا الجملة الثانية، فدلالتها عليه مبنية على ما ذكرنا من أنّ المعروفية باجتناب الكبائر في جميع الحالات لا يكاد ينطبق إلّا على وجود حالة نفسانية و ملكة راسخة مانعة عن ارتكابها، مضافاً إلى أنّ اعتبار الملكة في ناحية المروءة يستلزم اعتبارها في طرف الاجتناب عن الكبيرة بطريق أولى، فتدبّر.

كما أنّ تفسير الكبائر بالتي أوعد اللّٰه عليها النار يشعر بل يدلّ على اعتبار كون الاجتناب ناشئاً لا عن عدم المقتضي و لا عن داعٍ نفساني، بل عن إيعاد اللّٰه تبارك و تعالى عليها النار و الخوف من ترتّب العقاب عليه، و على ما ذكرنا فدلالة الرواية على اعتبار الملكة في العدالة على كلا التقديرين واضحة.

ثمّ إنّه يشعر بل يدلّ على أنّ العدالة عبارة عن حالة نفسانية، نصب الطريق و الدليل عليه في هذه الرواية بقوله (عليه السّلام): «و الدلالة على ذلك كلّه» إلخ و معناه أنّ الدليل الشرعي و الكاشف عن وجود تلك الحالة بحيث يكون

وجوده كافياً في مقام ترتيب الآثار المترتّبة على العدالة و المرغوبة منها أن يكون الشخص ساتراً لجميع عيوبه على تقدير وجودها، أعمّ من العيوب المنافية للمروءة و غير الجائزة شرعاً، و ثمرة سترها أنّه معه يحرم على المسلمين تفحّص ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه و تفتيش خلف الساتر، بل يجب عليهم حينئذٍ تزكيته و إظهار عدالته في الناس مع سؤالهم عن حاله.

و حيث إنّ المعاصي على قسمين: وجوديّة؛ و هو ارتكاب شي ء من المحرّمات.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 247

..........

______________________________

و عدمية؛ و هو ترك شي ء من الواجبات، و المعاصي الوجودية على تقدير تحقّقها تحتاج إلى الستر الذي به يرائي عدم تحقّقها؛ لأنّه يحرم على المسلمين التفتيش و التفحّص، و أمّا المعاصي العدمية فيكفي في تحقّقها مجرّد الترك و عدم صدور الفعل، فلا محالة يحتاج في إراءة خلافها إلى إيجاد الفعل، فلذا جعل الدليل على خلافها التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ و حفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين، و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّا من علّة، و تخصيص الصلوات الخمس من بين الواجبات إنّما هو باعتبار كون ما عداها منها إمّا أن لا يكون وجوبه مطلقاً، بل مشروطاً بمثل الاستطاعة المالية أو البدنية أو كلتيهما أو ببعض الأُمور الأُخر، و إمّا أن لا يكون الشخص قادراً على مخالفته باعتبار إجبار الحاكم إيّاه عليه، كالزكاة و نحوها، و ما عدا ما ذكر ينحصر في الصلوات الخمس، فلذا جعل التعاهد عليها دليلًا على العدالة، مضافاً إلى أنّ الاهتمام بها من بين الواجبات بحيث يكون قبولها دائراً مدار قبولها أوجب تخصيصها من بينها، و يؤيّده قوله (عليه

السّلام) في الرواية: «لأنّ من لا يصلّي لا صلاح له بين المسلمين».

و هذا الذي جعله الإمام (عليه السّلام) على طبق هذه الرواية طريقاً و أمارة شرعيّة و يرجع محصّله إلى حسن الظاهر مركَّب من أمرين، كما انقدح ممّا ذكرنا:

أحدهما: كون الرجل ساتراً لعيوبه حتى لا يطّلع على المعاصي الوجوديّة و القبائح العرفية الصادرة منه على تقديره غيره من المسلمين، بل كان طريق اطّلاعهم منحصراً بالتفتيش و التفحّص عمّا وراء الساتر و هو محرّم عليهم.

ثانيهما: كونه متعاهداً للصلوات الخمس، و معنى تعاهده لها إمّا الالتزام بالحضور في جماعات المسلمين حتى يصلّي معهم جماعة لأجل مدخليّتها في قبول الصلاة كما يستفاد من ذيل الرواية الدالّ على أنّه لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين بعد الحمل على نفي القبول لا نفي الصحّة، و أمّا كون حضوره فيها دليلًا

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 248

..........

______________________________

على أنّه لا يتحقّق منه ترك الصلاة لا لأجل مدخلية الجماعة في قبولها فالملاك هو نفس الإتيان بالصلاة لا هي مع وصف الجماعة.

هذا ما يقتضيه التحقيق في معنى الرواية الشريفة من الجهة التي هي محطّ البحث، و به يظهر الخلل فيما أفادوه في هذا المقام، و لا بأس بالتعرّض للبعض، فنقول:

منها: ما أفاده بعض الأعاظم من المعاصرين في كتابه في الصلاة، و محصّله: «أنّ الظاهر من الرواية بيان معرفة العدالة في الخارج لا بيان مفهومها، و ظاهر السؤال عن طريق تشخيص العدالة أن يكون مفهومها معلوماً معيّناً عند السائل؛ لأنّها عرفاً هي الاستقامة و الاستواء، و إذا أطلق الشارع فلا يشكّ في أنّ مراده هو الاستقامة في جادّة الشرع الناشئة من الحالة النفسانية؛ و هي

التديّن الباعث له على ملازمة التقوى، و حيث لم يكن لهذا المعنى أثر خاصّ و كاشف قطعي ألجأ السائل إلى أن يسأل طريقه عن الإمام (عليه السّلام)، و هذا بخلاف سائر الملكات كالشجاعة و السخاوة و أمثال ذلك، فإنّها تستكشف قطعاً عن وجود آثارها الخاصّة، فعرَّفه الإمام (عليه السّلام) الطريق إلى تشخيصها و أجابه بالستر و العفاف إلخ.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، در يك جلد، دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم، قم - ايران، دوم، 1414 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد؛ ص: 248

و هذه العناوين المذكورة في الجواب و إن كانت مشتملة على الملكة، و لكن لا تدلّ على الملكة الخاصّة التي هي التديّن و الخوف من عقوبة اللّٰه جلّت عظمته التي هي عبارة عن العدالة، فلا ينافي جعلها طريقاً تعبديّاً إلى ثبوت العدالة.

ثمّ إنّه حيث تحتاج معرفة الشخص بالستر و العفاف، و أنّه تارك للقبائح على وجه الإطلاق إلى معاشرة تامّة في جميع الحالات، و هذه ممّا لا يتّفق لغالب الناس، فجعل الشارع لذلك دليلًا و طريقاً آخر؛ و هو كونه ساتراً لعيوبه في الملإ و بين أظهر الناس، و طريقاً ثالثاً نافعاً لمن ليس له معاشرة مع شخص مطلقاً إلّا في أوقات حضور الصلاة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 249

..........

______________________________

مع الجماعة، فمن حضر جماعة المسلمين يحكم بعدالته، و أنّه لا يرتكب القبائح الشرعيّة مع الجهل بأحوال ذلك الشخص، بل لحضوره في صلاة الجماعة ثلاث فوائد:

إحداها: أنّ ترك الجماعة مع المسلمين بدون علّة بحيث يعدّ إعراضاً عنها

من أعظم الذنوب، فمن تركها كذلك فليس ساتراً لعيوبه بل هو مظهر لها.

الثانية: أنّ من لم يحضر الجماعة لا دليل لنا على أنّه يصلّي.

الثالثة: أنّ حضوره للجماعة دليل شرعاً على كونه تاركاً لما نهى اللّٰه عنه و عاملًا بكلّ ما أمر اللّٰه به، و قد أشار إلى كلّ واحدٍ من هذه الفوائد الصحيحة المتقدّمة، فتدبّر فيها» «1».

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ جعل الأمارة المعرّفة للعدالة و بيانها للسائل مع جعل أمارة لتلك الأمارة و معرِّفاً لذلك المعرّف كما بيّنه (قدّس سرّه) بعيد جدّاً؛ لأنّه لا حاجة إلى جعل الأمارة المعرّفة حينئذٍ أصلًا، و إلى أنّ مجرّد الحضور لجماعة المسلمين لا ينافي عدم كونه ساتراً لعيوبه، فلا معنى لجعله طريقاً في قبال الستر للعيوب، خصوصاً مع كون ظاهر الرواية هو كون الستر للعيوب و الحضور لجماعة المسلمين معاً طريقاً و دليلًا لا كلّ واحد من الأمرين إنّ ذلك كلّه خلاف ظاهر الرواية، فإنّك عرفت أنّ السؤال فيها إنّما هو عن معنى العدالة و مفهومها لاختلاف المراجع في ذلك العصر في معناها، و كان غرض السائل السؤال عمّا يُراد منها عند أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام)، و الجواب لا ينطبق إلّا على ذلك كما حقّقناه.

ثمّ إنّ ظاهر هذا التفسير أنّه جعل قوله (عليه السّلام) «و يعرف باجتناب الكبائر» تتمّة للأمارة الأوّلية و جزء للمعرِّف و الطريق، و حينئذٍ يرد عليه أنّ ظاهره كون الملكة المانعة عن اجتناب الكبيرة ناشئة عن الخوف و العقاب، الذي أوعده اللّٰه تعالى على ارتكابها، و حينئذٍ فلا يبقى فرق بين العدالة و بين الأمارة الكاشفة عنها أصلًا، كما لا يخفى.

______________________________

(1) كتاب الصلاة للشيخ عبد الكريم الحائري: 516 518.

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 250

..........

______________________________

و منها: ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) في رسالة العدالة في معنى قوله (عليه السّلام): «و تُعرف باجتناب الكبائر» من أنّ الضمير في «تُعرف» إمّا راجع إلى العدالة بأن يكون معرّفاً مستقلا، و إمّا راجع إلى الشخص بأن يكون من تتمّة المعرّف الأوّل، و إمّا أن يكون راجعاً إلى الستر و ما عطف عليه ليكون معرّفاً للمعرّف، و قوله (عليه السّلام): «و الدليل على ذلك ..» معرّفاً ثالثاً، و استظهر في ذيل كلامه أنّ أظهر الاحتمالات المتقدّمة هو كونه تتمّة للمعرِّف؛ بأن يجعل المراد بكفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان كفّها عن المعاصي الخاصّة التي تتبادر عن إطلاق نسبة المعصية إلى إحدى الجوارح، و حينئذٍ فيكون قوله (عليه السّلام): «و تعرف باجتناب الكبار» من قبيل التخصيص بعد التعميم و التقييد بعد الإطلاق، تنبيهاً على أنّ ترك مطلق المعاصي غير معتبر في العدالة «1».

و يرد عليه أنّه لا مجال لجريان الاحتمالات الثلاثة بعد كون قوله (عليه السّلام): «و يُعرف» بصيغة المذكّر كما في الوسائل و غيرها، و عليه فلا بدّ من رجوع الضمير إلى الرجل، و أن تكون الجملة عطفاً على الجملة الأُولى تتمّة للمعرّف و جزءاً للمعنى و المفهوم. نعم، المغايرة بين الجملتين بناءً على ما اخترنا إنّما هو بالتخصيص و التعميم من جهتين: من جهة شمول الجملة الأُولى لملكة المروءة و الاجتناب عن مطلق المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة، و اختصاص الثانية بخصوص المعصية الكبيرة.

و منها: ما أفاده بعض الأعلام في الشرح على العروة، و يرجع حاصله إلى أنّ الرواية لا دلالة لها بوجه على اعتبار الملكة في العدالة، بل لا نظر

لها إلى بيان حقيقة العدالة بنفسها أو بلازمها، و إنّما أوكلته إلى الراوي نفسه؛ لوضوح معناها عند كلّ من يفهم اللغة العربية؛ أعني الاستقامة و عدم الانحراف، و إنّما سيقت الرواية لبيان كاشفها و معرّفها، و قد جعلت الكاشف عنها هو الاشتهار و المعروفية و الستر و غيرهما ممّا ورد في الحديث، إذاً هي كواشف تعبديّة عن العدالة، و حيث إنّ معرفة كون المكلّف معروفاً بالعفاف يتوقّف على الصحبة و طول المعاشرة، فقد جعل (عليه السّلام) الاجتناب عن الكبائر طريقاً و كاشفاً

______________________________

(1) رسائل فقهيّة للشيخ الأنصاري: 13 و 15 و 16.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 251

..........

______________________________

عن المعروفيّة بترك المحرّمات و الإتيان بالواجبات.

ثمّ إنّ كونه مجتنباً عن الكبائر لمّا لم يكن أمراً ظاهراً في نفسه، و كان محتاجاً إلى طول المعاشرة احتاج ذلك أيضاً إلى طريق كاشف عنه؛ و هو كون الرجل ساتراً لجميع عيوبه، و هذا هو المعبّر عنه بحسن الظاهر، كما أنّه جعل الإتيان بالفرائض في المجامع علناً و بمرأى و منظر من الناس كاشفاً عن أنّ فاعلها مجتنب عن المحرّمات، بحيث لو لم يتعاهد الفرائض في المجامع لم يحكم بعدالته، و بعد ذلك لا دلالة في الرواية على اعتبار الملكة في العدالة بوجه، بل هي بمعنى الاستقامة العملية في جادّة الشرع. نعم، لا بدّ و أن تكون مستمرّة و كالطبيعة الثانويّة للإنسان حتى يصدق أنّه مستقيم، فإنّ الاستقامة في بعض الأوقات دون بعض لا يوجب صدق الاستقامة، انتهى ملخّصاً «1».

و بملاحظة ما ذكرنا في معنى الرواية ينقدح الخلل في هذا الكلام من جهات كثيرة:

من جهة أنّ السؤال في الرواية إنّما هو عن معنى العدالة و

مفهومها لا عن الأمارة الكاشفة بعد وضوح معناها عند السائل، و عليه فقوله (عليه السّلام) في الجواب: «أن تعرفوه» بيان لحقيقة العدالة و ماهيّتها في لسان الشارع.

و من جهة أنّه على تقدير كون السؤال عن الأمارة تكون الأمارة هي نفس عناوين الستر و العفاف و أشباههما لا المعروفيّة بهذه العناوين، و ليت شعري أنّه ما معنى كون الكاشف هو الاشتهار و المعروفية و الستر و غيرهما، فإنّ جعل مثل الستر كاشفاً في مقابل الاشتهار و المعروفيّة ممّا لا يتصوّر، فإنّه إن كان الكاشف هو المعروفيّة فلا وجه لكون الستر بنفسه كاشفاً، و إن كان الكاشف هو الستر فلا معنى لكون المعروفية كاشفة في مقابل الستر. ثمّ إنّه بعد ما لا تكون الملكة معتبرة في العدالة كما هو مدّعاه لا يظهر وجه لكون مثل الستر و العفاف كاشفاً عنها؛ لعدم المغايرة بين الكاشف و المكشوف عنه أصلًا.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 268 270.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 252

..........

______________________________

و من جهة دلالة عناوين الستر و العفاف و أشباههما على اعتبار الملكة كما عرفت.

و من جهة أنّ قوله (عليه السّلام): «و يعرف» تتمّة للمعرّف الأوّل و جزء لمعنى العدالة و مفهومها لا أمارة عليها بل لا وجه للأمارية بعد عدم دخالة الملكة في شي ء من المعرِّف و المعرَّف، فإنّه أيّ فرق بين اجتناب الكبيرة و بين مثل الستر و العفاف. و إن أُريد بهما المعروفيّة فمن الواضح أنّ مجرّد الاجتناب لا دلالة فيه على المعروفيّة أصلًا.

و من جهة أنّ التعاهد للصلوات الخمس لم يجعل في الرواية طريقاً لخصوص الاجتناب عن الكبيرة، بل هو جزء من الطريق المركّب

منه و من كونه ساتراً لجميع عيوبه بالنحو الذي ذكرنا.

و من غير هذه الجهات الذي لا يكون مخفياً على المتأمّل فيما ذكرناه و ما أفاده.

في الكبيرة و الصغيرة و الكلام في هذا الباب يقع في أمرين:

الأمر الأوّل: صحّة تقسيم المعاصي إلى الكبائر و الصغائر، و اختلاف المعاصي من هذه الجهة التي يرجع إلى اتّصاف بعضها بكونها كبيرة مطلقة و بعضها الآخر بكونها صغيرة كذلك، فنقول:

غير خفيّ على الناظر في صحيحة عبد اللّٰه بن أبي يعفور المتقدّمة «1» أنّها مشعرة بل دالّة على أنّ المعاصي الشرعية على قسمين: كبيرة و صغيرة، كما أنّها تشعر بأنّ ضابط الكبيرة هو ما أوعد اللّٰه تعالى عليها النار، بناءً على كون الوصف توضيحيّاً لا احترازيّاً كما هو الظاهر.

______________________________

(1) في ص 272.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 253

..........

______________________________

و يدلّ على ذلك قبل الرواية قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ «1». و قوله تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ «2». حيث إنّ الآيتين تدلّان على اتّصاف بعض المنهيّات و الآثام بوصف الكبر و بعض آخر بخلافه.

نعم، تمكن المناقشة في الجميع بأنّه لا دلالة لشي ء منها على كون المعاصي على قسمين، بل غاية مفادها أنّ الأُمور التي تعلّق بها النهي و ينطبق عليها عنوان الإثم على قسمين، و حيث إنّ النهي على قسمين: تحريميّ و تنزيهي، فيمكن أن يكون المراد بالكبيرة خصوص ما تعلّق به النهي التحريمي، الشامل لجميع المعاصي في قبال ما تعلّق به النهي التنزيهي، و إطلاق السيّئة على المكروه لا مانع منه أصلًا، كما أنّ انطباق الإثم عليه أيضاً كذلك، و لا يكون في الرواية دلالة

على أنّ المضاف إليه في قوله (عليه السّلام): «و يعرف باجتناب الكبائر» هو خصوص المعاصي، فلعلّ المراد به المنهيّات التي تكون أعمّ من المعاصي.

و لكنّ الظاهر أنّ هذه المناقشة موهونة و الاحتمال لا يقاوم ظهور الآيتين و الرواية في كون المحرّمات و المعاصي على قسمين: كبيرة و صغيرة، و يؤيّده ما عرفت من ظهور الرواية في كون الوصف توضيحيّاً لا احترازياً، و أنّها بصدد إفادة الضابطة، و من المعلوم عدم جريانها في جميع المعاصي و المحرّمات؛ لعدم إيعاد اللّٰه تبارك و تعالى عليها النار؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد به هو الإيعاد عليه بالخصوص لا الإيعاد بنحو العموم في مثل قوله تعالى وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ «3» الآية.

و أمّا الأصحاب، فالقدماء منهم لا يظهر من كلماتهم هذا التقسيم أصلًا. نعم، ذكر ذلك الشيخ (قدّس سرّه) في كتاب المبسوط، حيث قال بعد تفسير العدالة في الشريعة

______________________________

(1) سورة النساء: 4/ 31.

(2) سورة النجم: 53/ 32.

(3) سورة الجنّ: 72/ 23.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 254

..........

______________________________

بأنّها عبارة عن العدالة في الدين و العدالة في المروءة و العدالة في الأحكام، و بعد تفسير كلّ واحد من هذه الأُمور الثلاثة-: فإن ارتكب شيئاً من الكبائر ثمّ عدّ جملة منها سقطت شهادته، فأمّا إن كان مجتنباً للكبائر مواقعاً للصغائر فإنّه يعتبر الأغلب من حاله، فإن كان الأغلب من حاله مجانبته للمعاصي، و كان يواقع ذلك نادراً قبلت شهادته، و إن كان الأغلب مواقعته للمعاصي و اجتنابه لذلك نادراً لم تقبل شهادته. قال: و إنّما اعتبرنا الأغلب في الصغائر لأنّا لو قلنا: إنّه لا تقبل شهادة من أوقع اليسير من

الصغائر أدّى ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد؛ لأنّه لا أحد ينفكّ من مواقعة بعض المعاصي «1».

و لكنّه أورد عليه ابن إدريس بقوله: «و هذا القول لم يذهب إليه (رحمه اللّٰه) إلّا في هذا الكتاب أعني المبسوط و لا ذهب إليه أحد من أصحابنا؛ لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلّا بالإضافة إلى غيرها، و ما خرجه و استدلّ به من أنّه يؤدّي ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد؛ لأنّه لا أحد ينفك من مواقعة بعض المعاصي، فغير واضح؛ لأنّه قادر على التوبة من ذلك الصغير فإذا تاب قبلت شهادته، و ليست التوبة ممّا يتعذّر على إنسان، و لا شكّ أنّ هذا القول تخريج لبعض المخالفين، فاختاره شيخنا هاهنا و نصره، و أورده على جهته و لم يقل عليه شيئاً؛ لأنّ هذا عادته في كثير ممّا يورده في هذا الكتاب «2».

و تبعه جماعة من المتأخّرين حيث أنكروا هذا التقسيم؛ و ذهبوا إلى أنّ المعاصي كلّها كبيرة، و لكنّ المشهور بينهم بل المنسوب إلى أكثر العلماء أو إلى العلماء أو إلى المشهور «3» المعروف هو اختلاف المعاصي، و اتّصاف بعضها بالكبر في حدّ ذاته و بعضها بالصغر كذلك.

و التحقيق أنّه لا مجال للمناقشة في أصل التقسيم؛ لأنّه مضافاً إلى ما عرفت من دلالة الكتاب و السنّة عليه يدلّ على ذلك أنّه مع دعوى الإضافة أيضاً لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنب أو ذنوب ليس لها فوق، و هذا الذي ليس له فوق كما أنّه كبيرة بالإضافة

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 217.

(2) السرائر: 2/ 118.

(3) مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 318 320، مفتاح الكرامة: 3/ 89، جواهر الكلام: 13/ 305.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة -

الاجتهاد و التقليد، ص: 255

..........

______________________________

إلى ما دونه من الذنوب كذلك كبيرة في حدّ نفسها و بقول مطلق، إذ لا يتصوّر فوق بالإضافة إليه كما هو المفروض حتى يتّصف هذا الذنب بالصغر بملاحظته، و هكذا الأمر في طرف الصغيرة، فإنّه مع دعوى الإضافة أيضاً لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنب أو ذنوب لم يكن دونه ذنب، و هذا الذي ليس تحته ذنب كما أنّه صغيرة بالإضافة إلى ما فوقه كذلك هي صغيرة بقول مطلق، إذ المفروض أنّه ليس تحته ذنب أصلًا، فلا محيص حينئذٍ عن الالتزام بوجود الكبيرة و الصغيرة بقول مطلق، و عليه فلا مانع من الأخذ بمقتضى الروايات الدالّة على وجود الكبائر و تعدادها.

غاية الأمر أنّ اختلافها كما سيجي ء «1» محمول على اختلاف المراتب، كما أنّه في نوع واحد من الكبائر يتصوّر المراتب أيضاً، فإنّ الظلم مثلًا الذي هو من الكبائر له مراتب يختلف على حسب اختلافها من حيث شدّة المعصية و عدمه، و كذلك غيره من الكبائر، و هذا هو الذي يساعده الاعتبار أيضاً.

ثمّ إنّه يقع الكلام بعد ذلك في عدد الكبائر، و المحكي عن العلّامة الطباطبائي (قدّس سرّه) أنّه بعد اختياره ما عليه المشهور من أنّ الكبائر هي المعاصي التي أوعد اللّٰه سبحانه عليها النار أو العذاب، سواء كان الوعيد بالنار صريحاً أو ضمنياً حصر الوارد في الكتاب في أربع و ثلاثين: منها أربع عشرة ممّا صرّح فيها بخصوصها بالوعيد بالنار، و أربع عشرة قد صرّح فيها بالعذاب دون النار، و البقيّة ممّا يستفاد من الكتاب وعيد النار عليها ضمناً أو لزوماً.

أمّا ما صرّح فيه الوعيد بالنار:

الأوّل: الكفر باللّٰه العظيم، لقوله تعالى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيٰاؤُهُمُ الطّٰاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى

الظُّلُمٰاتِ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ «2». و غير ذلك، و هي كثيرة.

______________________________

(1) في ص 303.

(2) سورة البقرة: 2/ 257.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 256

..........

______________________________

الثاني: الإضلال عن سبيل اللّٰه، لقوله تعالى ثٰانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ لَهُ فِي الدُّنْيٰا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ عَذٰابَ الْحَرِيقِ «1» و قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذٰابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذٰابُ الْحَرِيقِ «2».

الثالث: الكذب على اللّٰه تعالى و الافتراء عليه لقوله تعالى وَ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللّٰهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ «3»، و قوله تعالى قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ لٰا يُفْلِحُونَ. مَتٰاعٌ فِي الدُّنْيٰا ثُمَّ إِلَيْنٰا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذٰابَ الشَّدِيدَ بِمٰا كٰانُوا يَكْفُرُونَ «4».

و قد أورد عليه في الجواهر بأنّه ليس في الآية الثانية ذكر النار «5».

الرابع: قتل النفس التي حرّم اللّٰه قتلها قال اللّٰه تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا وَ غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذٰاباً عَظِيماً «6».

و قال عزّ و جل- وَ لٰا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰاناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نٰاراً وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اللّٰهِ يَسِيراً «7».

الخامس: الظلم قال اللّٰه عزّ و جلّ- إِنّٰا أَعْتَدْنٰا لِلظّٰالِمِينَ نٰاراً أَحٰاطَ بِهِمْ سُرٰادِقُهٰا وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغٰاثُوا بِمٰاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرٰابُ وَ سٰاءَتْ مُرْتَفَقاً «8».

______________________________

(1) سورة الحج: 22/ 9.

(2) سورة البروج: 85/ 10.

(3) سورة الزمر: 39/ 60.

(4) سورة يونس: 10/ 69 70.

(5) جواهر الكلام: 13/ 311.

(6) سورة النساء: 4/ 93.

(7) سورة النساء:

4/ 29 30.

(8) سورة الكهف: 18/ 29.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 257

..........

______________________________

السادس: الركون إلى الظالمين، قال اللّٰه تعالى وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ «1».

السابع: الكبر، لقوله تعالى فَادْخُلُوا أَبْوٰابَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ «2».

الثامن: ترك الصلاة، لقوله تعالى مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ «3».

التاسع: المنع من الزكاة، لقوله سبحانه وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لٰا يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ «4».

العاشر: التخلّف عن الجهاد، لقوله سبحانه فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلٰافَ رَسُولِ اللّٰهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ قٰالُوا لٰا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نٰارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كٰانُوا يَفْقَهُونَ «5».

الحادي عشر: الفرار من الزحف، لقوله تعالى وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّٰا مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بٰاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّٰهِ وَ مَأْوٰاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ «6».

______________________________

(1) سورة هود: 11/ 113.

(2) سورة غافر: 40/ 76.

(3) سورة المدّثر: 74/ 42 43.

(4) سورة التوبة: 9/ 34 35.

(5) سورة التوبة: 9/ 81.

(6) سورة الأنفال: 8/ 16.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 258

..........

______________________________

الثاني عشر: أكل الربا، لقوله عزّ و جلّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لٰا يَقُومُونَ إِلّٰا كَمٰا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ مِنَ الْمَسِّ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبٰا وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهىٰ فَلَهُ مٰا سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّٰهِ وَ مَنْ

عٰادَ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ «1».

الثالث عشر: أكل مال اليتيم ظلماً، لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «2».

الرابع عشر: الإسراف، لقوله عزّ و جلّ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحٰابُ النّٰارِ «3».

و أمّا المعاصي التي وقع التصريح فيها بالعذاب دون النار فهي أربع عشرة أيضاً:

الأوّل: كتمان ما أنزل اللّٰه، لقوله عزّ و جلّ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ مِنَ الْكِتٰابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولٰئِكَ مٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النّٰارَ وَ لٰا يُكَلِّمُهُمُ اللّٰهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ لٰا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ «4».

الثاني: الإعراض عن ذكر اللّٰه، لقوله عزّ و جلّ وَ قَدْ آتَيْنٰاكَ مِنْ لَدُنّٰا ذِكْراً. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وِزْراً. خٰالِدِينَ فِيهِ وَ سٰاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ حِمْلًا «5».

هذا، و الظاهر أنّ المراد بالذكر في الآية هو الكتاب العزيز، الذي عبّر عنه بالذكر في بعض الآيات الأُخر أيضاً، كقوله تعالى إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ «6».

و قد فصّلنا القول في تفسير هذه الآية و إثبات أنّ المراد بالذكر فيها هو القرآن المجيد في رسالتنا في مسألة عدم التحريف، و بالجملة: فالآية المستدلّ بها لا تنطبق على عنوان الإعراض عن ذكر اللّٰه، إلّا أن يكون المراد بالذكر في العنوان أيضاً هو القرآن

______________________________

(1) سورة البقرة: 2/ 275.

(2) سورة النساء: 4/ 10.

(3) سورة غافر: 40/ 43.

(4) سورة البقرة: 2/ 174.

(5) سورة طه: 20/ 99 101.

(6) سورة الحجر: 15/ 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 259

..........

______________________________

بقرينة الاستدلال بالآية، فتدبّر.

الثالث: الإلحاد في بيت اللّٰه عزّ اسمه لقوله تعالى وَ مَنْ

يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحٰادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ «1».

الرابع: المنع من مساجد اللّٰه، لقوله تعالى شأنه وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسٰاجِدَ اللّٰهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعىٰ فِي خَرٰابِهٰا أُولٰئِكَ مٰا كٰانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهٰا إِلّٰا خٰائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيٰا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ «2».

الخامس: أذيّة رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله)، لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّٰهُ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً «3».

السادس: الاستهزاء بالمؤمنين، لقوله عزّ و جلّ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقٰاتِ وَ الَّذِينَ لٰا يَجِدُونَ إِلّٰا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّٰهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ «4».

السابع و الثامن: نقض العهد و اليمين لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ أَيْمٰانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولٰئِكَ لٰا خَلٰاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لٰا يُكَلِّمُهُمُ اللّٰهُ وَ لٰا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ لٰا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ «5».

التاسع: قطع الرحم، قال اللّٰه تعالى وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّٰارِ «6».

______________________________

(1) سورة الحج: 22/ 25.

(2) سورة البقرة 2: 114.

(3) سورة الأحزاب: 33/ 57.

(4) سورة التوبة: 9/ 79.

(5) سورة آل عمران: 3/ 77.

(6) سورة الرعد: 13/ 25.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 260

..........

______________________________

و قال عزّ و جلّ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ. أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّٰهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمىٰ أَبْصٰارَهُمْ «1».

و أورد عليه في الجواهر، بأنّ «أولئك» في الآية الأُولى لم يعلم كونه إشارة

إلى كلّ واحد من النقض و القطع و الإفساد، و الآية الثانية مع ذلك لم تشتمل على وعيد بالعذاب، إلّا أن يقال: إنّه يفهم من اللعن و ما بعده «2».

العاشر: المحاربة و قطع السبيل، قال اللّٰه تعالى إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ «3».

و أورد عليه في الجواهر، بأنّه قد يرجع ذلك إلى الكفر و الوعيدين على الأمرين معاً «4».

الحادي عشر: الغناء، لقوله تعالى وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ «5».

الثاني عشر: الزنا، قال اللّٰه تعالى وَ لٰا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً يُضٰاعَفْ لَهُ الْعَذٰابُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهٰاناً «6».

الثالث عشر: إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، قال اللّٰه تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ «7».

الرابع عشر: قذف المحصنات، قال اللّٰه تعالى:

______________________________

(1) سورة محمّد (صلّى اللّٰه عليه و آله): 47/ 22 23.

(2) جواهر الكلام: 13/ 314.

(3) سورة المائدة: 5/ 33.

(4) جواهر الكلام: 13/ 314.

(5) سورة لقمان: 31/ 6.

(6) سورة الفرقان: 25/ 68 69.

(7) سورة النور: 24/ 19.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 261

..........

______________________________

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ الْغٰافِلٰاتِ الْمُؤْمِنٰاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ «1».

و أمّا المعاصي التي يستفاد من الكتاب العزيز وعيد النار عليها ضمناً و لزوماً فهي ستة:

الأوّل: الحكم بغير ما أنزل اللّٰه تعالى، قال اللّٰه عزّ

و جل- وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ «2».

الثاني: اليأس من روح اللّٰه عزّ و جل قال اللّٰه تعالى وَ لٰا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّٰهِ إِنَّهُ لٰا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّٰهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكٰافِرُونَ «3».

الثالث: ترك الحجّ، قال اللّٰه تعالى وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ «4».

الرابع: عقوق الوالدين، قال اللّٰه تعالى وَ بَرًّا بِوٰالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّٰاراً شَقِيًّا «5». مع قوله وَ خٰابَ كُلُّ جَبّٰارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرٰائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقىٰ مِنْ مٰاءٍ صَدِيدٍ «6».

و قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّٰارِ لَهُمْ فِيهٰا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ «7».

الخامس: الفتنة، لقوله تعالى وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ «8».

السادس: السحر، قال اللّٰه تعالى:

______________________________

(1) سورة النور 24: 23.

(2) سورة المائدة: 5/ 44.

(3) سورة يوسف: 12/ 87.

(4) سورة آل عمران: 3/ 97.

(5) سورة مريم: 19/ 32.

(6) سورة إبراهيم: 14/ 15 16.

(7) سورة هود: 11/ 106.

(8) سورة البقرة: 2/ 191.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 262

..........

______________________________

وَ اتَّبَعُوا مٰا تَتْلُوا الشَّيٰاطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمٰانَ وَ مٰا كَفَرَ سُلَيْمٰانُ وَ لٰكِنَّ الشَّيٰاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّٰاسَ السِّحْرَ وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلٰا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلّٰا بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لٰا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلٰاقٍ وَ لَبِئْسَ مٰا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ «1».

انتهى محكيّ ما أفاده العلّامة

الطباطبائي (قدّس سرّه) في هذا الباب «2»، و ظاهره أنّ الملاك هو إيعاد اللّٰه تبارك و تعالى في خصوص الكتاب العزيز.

و أورد عليه صاحب الجواهر (قدّس سرّه) ستّة إيرادات:

أحدها: أنّه يلزم على ما ذكر من حصر الكبائر في هذا العدد أن يكون ما عداها صغائر، و انّه لا يقدح في العدالة فعلها بل لا بدّ من الإصرار، و بدونه تقع مكفّرة لا تحتاج إلى توبة، فمثل اللواط و شرب الخمر و ترك صوم يوم من شهر رمضان و شهادة الزور و نحو ذلك من الصغائر التي لا تقدح في العدالة و لا تحتاج إلى توبة و هو واضح الفساد، و كيف يمكن الحكم بعدالة شخص قامت البيّنة على أنّه لاط في غلام في زمان قبل زمان أداء الشهادة بيسير، كما لا يخفى على المخالف لطريقة الشرع.

و إن شئت فانظر إلى كتب الرجال و ما يقدحون به في عدالة الرجل، و في رواية ابن أبي يعفور السابقة «3»: «أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اللسان و نحو ذلك». بل في ذلك إغراء للناس في كثير من المعاصي، فإنّه قلّ من يجتنب من المعاصي من جهة استحقاق العقاب بعد معرفته أن لا عقاب عليه.

ثانيها: أنّه قد ورد في السنة في تعداد الكبائر ما ليس مذكوراً فيما حصره، مع النصّ عليه فيها بأنّه كبيرة، و قوله (عليه السّلام): «إنّ الكبيرة كلّ ما أوعد اللّٰه عليها النار» «4» لا ينافيه، و لو لكونه (عليه السّلام) يعلم كيف توعّد اللّٰه عليها بالنار، قصارى ما هناك نحن بحسب وصولنا ما وصلنا كيف وعد اللّٰه عليها النار، فانظر إلى ما في حسنة عبيد بن زرارة لمّا سأله

(عليه السّلام) عن الكبائر فقال: هنّ في كتاب عليّ (عليه السّلام) سبع إلى أن قال: فقلت: هذا أكبر المعاصي؟ فقال:

______________________________

(1) سورة البقرة: 2/ 102.

(2) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 3/ 92 94 و جواهر الكلام: 13/ 310 316.

(3) في ص 272.

(4) الفقيه: 3/ 373 ح 1758، الوسائل: 15/ 327، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 24.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 263

..........

______________________________

نعم، قلت: فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلماً أكبر أم ترك الصلاة؟ قال: ترك الصلاة، قلت: فما عددت ترك الصلاة في الكبائر، قال: أيّ شي ء أوّل ما قلت لك؟ قلت: الكفر، قال: فإنّ تارك الصلاة كافر، يعني من غير علّة «1». من أنّه كيف أدخل ترك الصلاة في الكفر مع استحضاره (عليه السّلام) لقوله تعالى مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ «2».

ثالثها: أنّه قال اللّٰه تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ مٰا أَكَلَ السَّبُعُ إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ وَ مٰا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلٰامِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ «3». فإنّه إن أُريد بالإشارة إلى الأخير أو كلّ واحدٍ فقد حكم بالفسق، و احتمال إرادة الإصرار بعيد، كاحتمال إرادة ما لا ينافي العدالة من الفسق، بل مجرّد المعصية أو من غير مجتنب الكبائر.

رابعها: أنّه قد ورد في السنّة التوعّد بالنار و أيّ توعّد على كثير من المعاصي، و بناء على ما ذكر لا بدّ و أن يراد بها إمّا الإصرار عليها، أو من غير مجتنب الكبائر، و كلّه مخالف للظاهر من غير دليل يدلّ عليه.

خامسها: أنّ

فيما رواه عبد العظيم بن عبد اللّٰه الحسني ذكر من جملة الكبائر شرب الخمر، معلّلًا ذلك بأنّ اللّٰه تعالى نهى عنه كما عن عبادة الأوثان و ترك الصلاة متعمّداً، أو شيئاً ممّا فرض اللّٰه؛ لأنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) قال: من ترك الصلاة متعمّداً فقد برئ من ذمّة اللّٰه و ذمّة رسوله «4». فانظر كيف استدلّ على كونه كبيرة بما ورد من السنّة.

سادسها: نقل الإجماع على أنّ الإصرار على الصغيرة من جملة الكبائر «5». «6»

و قد أورد عليه بهذا الأخير تلميذه صاحب مفتاح الكرامة، حيث قال: و ليت شعري ما ذا يقول في الإصرار على الصغائر، فإنّه كبيرة إجماعاً، و ليس في القرآن المجيد وعيد عليه بالنار، و لعلّي أسأله عنه شفاهاً «7».

______________________________

(1) الكافي: 2/ 278 ح 8، الوسائل: 15/ 321، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 4.

(2) سورة المدّثر: 74/ 42 43.

(3) سورة المائدة: 5/ 3.

(4) الكافي: 2/ 285 ح 24، الوسائل: 15/ 318، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 2.

(5) تحرير الأحكام: 2/ 208، ذخيرة المعاد: 305.

(6) جواهر الكلام: 13/ 316 318.

(7) مفتاح الكرامة: 3/ 94.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 264

..........

______________________________

و أورد عليه ابن أخيه سيّدنا العلّامة الأستاذ البروجردي (قدّس سرّه) مضافاً إلى ما أورده عليه في الجواهر من الإيرادات الستّة المتقدّمة بأنّ الظاهر كون المقسّم للكبيرة و الصغيرة هي المعاصي الوجوديّة التي تتحقّق بالوجودات الصادرة من المكلّف، و عليه فيسقط من جملة ما عدّه من الكبائر، مثل ترك الصلاة، و منع الزكاة، و التخلّف عن الجهاد، و كتمان ما أنزل اللّٰه، و نقض العهد و اليمين، و قطع

الرحم، و عدم الحكم بما أنزل اللّٰه، و ترك الحج؛ لأنّها كلّها معاصي عدمية، أمّا مثل ترك الصلاة و منع الزكاة فواضح، و أمّا كتمان ما أنزل اللّٰه فالآية الواردة فيه ظاهرة في أنّ الواجب هو التبيين و الكتمان تركه، و هكذا نقض العهد و اليمين، و كذا قطع الرحم، و الحكم بغير ما أنزل اللّٰه، كما يظهر من آيتيهما.

و أيضاً الظاهر أنّ المراد بالمعاصي الكبيرة هي المعاصي التي يمكن أن تقع من المسلم غير الكافر، و عليه فيسقط من جملة ما ذكره مثل الكفر باللّٰه العظيم و الإضلال عن سبيل اللّٰه، و لذا لم يعدّ في جملة الكبائر في بعض الروايات الدالّة على أنّ الكبائر خمس، حيث إنّه بعد ذلك عدّها ستّاً، و هذا دليل على أنّه لا يكون مثل الشرك باللّٰه معدوداً من الكبائر.

و أيضاً تدخل جملة ممّا عدّه من الكبائر في الظلم الذي عدّه منها؛ مثل قتل النفس، و أكل مال اليتيم، و المنع من مساجد اللّٰه، و الاستهزاء بالمؤمنين، و إيذاء رسول اللّٰه، و قذف المحصنات، و المحاربة، و قطع السبيل، و عليه فلا يبقى إلّا مقدار قليل لا يتجاوز عن اثني عشر، كما لا يخفى.

و يمكن المناقشة في بعض ما أورده صاحب الجواهر (قدّس سرّه)، بأنّ مرجع النزاع إلى ضابط الكبيرة، و أنّها هل هي عبارة عن خصوص ما أوعد اللّٰه تعالى عليها النار، أو العذاب في خصوص الكتاب العزيز، أو يشمل ما أوعد اللّٰه عليها بلسان نبيّه (صلّى اللّٰه عليه و آله) و الأئمّة من عترته (عليهم السّلام)؟ و قد عرفت أنّ العلّامة الطباطبائي استظهر الاحتمال الأوّل «1» الذي هو خلاف الظاهر، كما أنّ دعوى الإجماع على أنّ الإصرار

على الصغيرة من جملة

______________________________

(1) في ص 289.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 265

..........

______________________________

الكبائر، لعلّ المراد بها ترتّب حكم ارتكاب الكبيرة عليه من حيث قادحيّته في العدالة لا أنّه كبيرة واقعاً و سيجي ء البحث فيه «1».

كما أنّه يمكن المناقشة في بعض ما أورده الأستاذ (قدّس سرّه)، بأنّ اختصاص الكبيرة بخصوص المعاصي الوجوديّة ينافي مع ما في صحيحة عبد اللّٰه بن أبي يعفور المتقدّمة «2»، من جعل المواظبة على الصلوات الخمس و الحضور في جماعة المسلمين أمارة شرعية و دليلًا تعبديّاً على تحقّق العدالة، التي يكون قوامها باجتناب الكبيرة على ما في الصحيحة، كما أنّ إخراج الشرك باللّٰه عن عنوان الكبيرة ينافي مع ما في الروايات الكثيرة الدالّة على أنّه من جملة الكبائر، بل من أعظمها.

و التحقيق أنّه لا بدّ في المقام من ملاحظة الروايات الواردة في الباب، التي أوردها في الوسائل في الباب السادس و الأربعين من أبواب جهاد النفس، و لكنّها مختلفة من حيث المفاد؛ لأنّ جملة منها واردة في تفسير الكبائر و بيان الضابط لها، و جملة منها دالّة على عددها و أنّها خمس أو سبع أو تسع، أو أزيد على اختلاف بين هذه الطائفة أيضاً، و جملة منها واردة في عدّ بعض المعاصي من الكبائر، من غير تعرّض لتفسيرها و لا كونها في مقام تعدادها، و بعض منها غير مرتبط بعنوان الباب، مثل رواية الأصبغ «3».

و الروايات الدالّة على أنّها سبع كثيرة: منها رواية ابن محبوب. و منها رواية عبيد بن زرارة. و منها رواية أبي بصير. و منها رواية محمّد بن مسلم. و منها رواية أحمد بن عمر الحلبي.

______________________________

(1) يأتي في ص 309 و ما

بعدها.

(2) في ص 272.

(3) الكافي: 2/ 281 ح 16، الوسائل: 15/ 321، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 266

..........

______________________________

و منها رواية عبد الرحمن بن كثير «1».

و لكن ذكر في رواية أبي بصير أنّ الكبائر سبعة و عدّها ثمانية، لكنّه قال في ذيلها: «و التعرّب و الشرك واحد». و في رواية محمّد بن مسلم أسقط عقوق الوالدين و عدّ السابعة كلّ ما أوجب اللّٰه عليها النار، مع أنّه تعريف للكبائر و ضابط لها لا أنّه من أفرادها، و لذا يحتمل أن يكون الراوي قد سها عن العقوق و ذكر موضعه هذه الضابطة.

و في رواية عبد الرحمن بن كثير أسقط التعرّب و أكل الربا بعد البيّنة، و ذكر موضع السابعة «إنكار حقّنا». و في إسقاط التعرّب بعد ذكر الشرك لا مانع لأنّه بمنزلته، كما مرّ في رواية أبي بصير، و في رواية أبي الصامت «2» ذكر أنّ أكبر الكبائر سبع و أسقط التعرّب و أكل الربا بعد البيّنة، و ذكر موضع السابعة «إنكار ما أنزل اللّٰه عزّ و جلّ». لكن قد عرفت أنّ إسقاط التعرّب بعد ذكر الشرك لا بأس به؛ لأنّ مرجع التعرّب إلى الرجوع إلى الحالة التي كان عليها قبل الهجرة إلى دار الإسلام لغرض الإسلام و الإيمان، فمرجعه إلى الرجوع و الارتداد عن الإسلام بعد الهجرة من الكفر إليه.

و في رواية مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) عدّها عشرة من غير تعرّض لكونها عشرة، و أضاف إلى السبع المذكورة في الروايات السابقة: القنوط من رحمة اللّٰه، و اليأس من روح اللّٰه، و الأمن من مكر اللّٰه «3».

و الظاهر أنّ الأوّلين واحد، و قد ذكرت هذه الزيادة في رواية عبد العظيم الآتية.

و في رواية أُخرى لمحمّد بن مسلم «4» عدّ أكبر الكبائر ثمانية من غير تعرّض لكونها ثمانية، و حيث إنّه عدّ فيها التعرّب و الشرك أمرين و قد عرفت أنّهما واحد فلا اختلاف بينها و بين الروايات الدالّة على أنّها سبعة.

و في رواية أُخرى لعبيد بن زرارة «5» ذكر أنّ الكبائر خمس و أسقط العقوق

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 15/ 318، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 1 و ص 321 ح 4 و ص 324 ح 16 و ص 322 ح 6 و ص 329 ح 32 و ص 326 ح 22.

(2) التهذيب: 4/ 149 ح 417، الوسائل: 15/ 325، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 20.

(3) الكافي: 2/ 280 ح 10، الوسائل: 15/ 324، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 13.

(4) الخصال: 411 ح 15، الوسائل: 15/ 330، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 35.

(5) الخصال: 273 ح 17، علل الشرائع: 475 ح 3، الوسائل: 15/ 327، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 28.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 267

..........

______________________________

و التعرّب، و لكن ذكر في موضعه «الشرك» من غير عدّها من جملة الخمس، ففي الحقيقة لم يذكر فيها خصوص العقوق.

و في مرسل ابن أبي عمير «1» ذكر أنّها خمس كالرواية السابقة، و عدّ الشرك و التعرّب أمرين، و بعد ما عرفت من اتّحادهما يرجع إلى الأربعة، ففي الحقيقة أسقطت فيها ثلاثة: القتل، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات.

و أمّا الروايات الدالّة على أنّ الكبائر أزيد

من ذلك فهي ثلاث روايات:

منها: رواية الأعمش الدالّة على أنّها ثلاث و ثلاثون «2».

و منها: رواية عبد العظيم الدالّة على أنّها عشرون «3».

و منها: رواية الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السّلام) الدالّة على أنّه ثلاث و ثلاثون «4»، و الظاهر اتّحادها مع رواية الأعمش، و الاختلاف بينهما يسير؛ لأنّه ذكر في رواية الأعمش أنّ الاشتغال بالملاهي التي تصدّ عن ذكر اللّٰه عزّ و جلّ مكروهة، و قد عدّت هي من الكبائر في رواية الفضل، و لكنّه لم يعلم أنّ المراد بها هي الكراهة المصطلحة المقابلة للحرمة، و إلّا لم يكن وجه لتخصيصه بالذكر في مقام ذكر المعاصي الكبيرة و تعدادها، فلعلّ المراد بها هي المرتبة الضعيفة من مراتب الكبيرة، فتأمّل.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا محيص عن الالتزام باتّصاف سبع من المعاصي بكونها كبيرة بقول مطلق؛ و هي السبع المذكورة في الروايات الدالّة على أنّ الكبائر سبع، أو أكبرها سبع، أو أنّ رتبة سائر الكبائر أدنى من رتبة هذه السبع، كما تدلّ عليه رواية الأعمش، و أمّا ما عدا السبع فما ذكر في مثل رواية الأعمش فالظاهر أنّها كبيرة بالإضافة إلى ما دونها، صغيرة بالإضافة إلى السبع التي هي فوقها، و بمثل

______________________________

(1) علل الشرائع: 475 ح 2، الخصال: 273 ح 16، الوسائل: 15/ 327، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 27.

(2) الخصال: 610 ح 9، الوسائل: 15/ 331، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 36.

(3) الكافي: 2/ 285 ح 24، الوسائل: 15/ 318، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 2.

(4) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام): 2/ 125 126 ح 1، الوسائل: 15/ 329، كتاب

الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 33.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 268

..........

______________________________

هذا يجمع بين ما دلّ على أنّ الزنا و السرقة ليستا من الكبائر، كروايتي محمّد بن حكيم «1» و محمّد بن مسلم «2» و ما دلّ على أنّهما منها كروايتي الفضل و الأعمش.

وجه الجمع أنّ ما دلّ على عدم كونهما من الكبائر يُراد به عدم كونهما من الكبائر بقول مطلق، و عدم كونهما في عرض الكبائر و المعاصي الّتي هي أكبر الكبائر، و ما دلّ على كونهما منها يُراد به أنّهما كبيرتان بالإضافة إلى ما تحتهما من المعاصي.

و لا بأس بتعداد الكبائر حسب ما تستفاد من الروايات رجاء أن يكون اللاحظ لها و الناظر فيها يجتنب عن جميعها بعد النظر و التوجّه لو لم يكن مجتنباً، فنقول: هي عبارة عن:

1 الشرك باللّٰه تبارك و تعالى.

2 قتل النفس الّتي حرّم اللّٰه تعالى.

3 عقوق الوالدين.

4 الفرار من الزحف.

5 أكل مال اليتيم ظلماً.

6 أكل الربا بعد البيّنة.

7 قذف المحصنات، و هذه هي السبع التي تكون من الكبائر بقول مطلق.

8 الزنا.

9 اللواط.

10 السرقة.

11 أكل الميتة.

12 أكل الدم.

______________________________

(1) الكافي: 2/ 284 ح 21، الوسائل: 15/ 325، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 18.

(2) الخصال: 411 ح 15، الوسائل: 15/ 320، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 46 ح 35.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 269

..........

______________________________

13 أكل لحم الخنزير.

14 أكل ما أهلّ لغير اللّٰه تعالى به من غير ضرورة.

15 البخس في المكيال و الميزان.

16 الميسر.

17 شهادة الزور.

18 اليأس من روح اللّٰه.

19 الأمن من مكر اللّٰه.

20 معونة الظالمين.

21 الركون إليهم.

22 اليمين الغموس الفاجرة، و المراد

بها هي اليمين الكاذبة على الإخبار عن شي ء مع العلم بالكذب، و التعبير عنها بالغموس لعلّه لأجل أنّها تغمس صاحبها في الإثم و العقاب.

23 الغلول، و الظاهر أنّ المراد به هي الخيانة في خصوص المغنم.

24 حبس الحقوق من غير عسر.

25 الكذب.

26 استعمال التكبّر و التجبّر.

27 الإسراف و التبذير.

28 الخيانة.

29 الاستخفاف بالحجّ، و الظاهر أنّ المُراد به هو الإتيان به عن استخفاف لا الترك رأساً، الذي أُطلق عليه الكفر في الآية الشريفة.

30 المحاربة لأولياء اللّٰه.

31 الاشتغال بالملاهي.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 270

..........

______________________________

32 السحر.

33 الإصرار على الصغيرة.

و لا بدّ من التكلّم في هذا الأخير و البحث عن أنّ الإصرار على الذنوب أي الصغائر منها هل يكون من الكبائر أم لا؟ مقتضى روايتي الأعمش و الفضل و غيرهما من الروايات الأُخَر، الواردة في هذا الباب التي جمعها في الوسائل في الباب (46) و (47) من أبواب جهاد النفس أنّ الإصرار على الصغائر من الذنوب أيضاً من جملة الكبائر، و في بعضها: «أنّه لا صغيرة مع الإصرار و لا كبيرة مع الاستغفار» «1».

و قد روي هذا المضمون بطرق العامّة عن ابن عبّاس «2» أيضاً، فلا ينبغي الإشكال حينئذٍ في أنّ الإصرار على الصغيرة كبيرة إمّا حقيقة و إمّا حكماً، من جهة القادحيّة في العدالة لو لم يكن أصل الإتيان بالصغيرة من غير إصرار مضرّاً بها، و من جهة الافتقار إلى التوبة و الاستغفار، فإنّ الظاهر افتراقهما أي الكبيرة و الصغيرة في الافتقار إلى التوبة و عدمه، و لو لم نقل بافتراقهما في باب العدالة أصلًا، فإنّ ظاهر قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ «3» بناءً على ما

استظهرنا منه من أنّ المراد به هي الكبائر من خصوص المحرّمات، و بالسيّئات هي الصغائر منها لا الكبائر من المنهيات التي هي أعمّ من المحرّمات، و الصغائر منها التي لا تنطبق إلّا على المكروهات، أنّ اجتناب الكبيرة يوجب التكفير للصغائر من دون حاجة إلى التوبة و الاستغفار. نعم، مع عدم الاجتناب عنها يحتاج كالكبيرة إليهما.

و بعبارة اخرى: المجتنب للكبيرة إذا ارتكب صغيرة لا يكون مكلّفاً بالتوبة لعدم الحاجة إليها، و إذا ارتكب كبيرة يكون مكلّفاً بها بالإضافة إلى الصغيرة أيضاً؛ لانحصار الطريق حينئذٍ فيها.

إنّما الإشكال في معنى الإصرار و أنّه بِمَ يتحقّق، و نقول: لا إشكال في تحقّق

______________________________

(1) الكافي: 2/ 288 ح 1، الوسائل: 19/ 338، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 48 ح 3.

(2) الكشّاف: 1/ 503.

(3) سورة النساء: 4/ 31.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 271

..........

______________________________

الإصرار مع الإكثار فعلًا و الإتيان بالمعصية في الخارج مكرّراً، سواء كانت من سنخ واحد أو من جنسين أو الأجناس، كما أنّه لا إشكال في عدم تحقّق الإصرار مع الإتيان بذنب مرّة واحدة ثمّ الندم عليه، بحيث كان يسوؤه التذكّر و الالتفات إليه، و الظاهر تحقّق هذا العنوان أيضاً مع الإتيان به مرّة، و كونه بحيث لو تهيّأت له مقدّماته يأتي به ثانياً.

إنّما الإشكال في تحقّقه بمجرّد الإتيان مع الالتفات إليه و عدم الندم عليه، و عدم كون تذكّره مسيئاً له، و عدم كونه كذلك؛ أي بحيث لو تهيّأت له مقدّماته يأتي به ثانياً؟

قيل: الظاهر تحقّقه به أيضاً لقوله تعالى وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّٰهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا

عَلىٰ مٰا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ «1». حيث إنّه يشعر بأنّ الإصرار يتحقّق بمجرّد عدم الاستغفار مع التوجّه و الالتفات، و لما ورد في تفسير الآية من رواية جابر، عن أبي جعفر (عليه السّلام) أنّه قال: الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر اللّٰه و لا يحدّث نفسه بالتوبة، فذلك الإصرار «2». و لرواية محمّد بن أبي عمير قال: سمعت موسى بن جعفر (عليهما السّلام) يقول: من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر قال اللّٰه تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً «3» قال: قلت: فالشفاعة لمن تجب؟ فقال: حدّثني أبي، عن آبائه، عن علي (عليهم السّلام) قال: قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل.

قال ابن أبي عمير؟ فقلت له يا بن رسول اللّٰه فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر، و اللّٰه تعالى يقول وَ لٰا يَشْفَعُونَ إِلّٰا لِمَنِ ارْتَضىٰ و من يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى؟! فقال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يذنب ذنباً إلّا ساءه ذلك و ندم عليه، و قد قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): كفى بالندم

______________________________

(1) سورة آل عمران: 3/ 135.

(2) الكافي: 2/ 288 ح 2، الوسائل: 15/ 338، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 48 ح 4.

(3) سورة النساء: 4/ 31.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 272

..........

______________________________

توبة، و قال: من سرّته حسنته و ساءته سيّئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن، و لم تجب له الشفاعة إلى أن قال: قال النبي (صلّى اللّٰه عليه و

آله): لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار، الحديث «1».

هذا، و يمكن المناقشة في دلالة الآية و الروايتين على ما ادّعاه القائل؛ من أنّ الإصرار على الذنب إنّما يتحقّق بمجرّد الإتيان بالمعصية، و عدم التوبة و الاستغفار مع الالتفات إلى صدورها و الإتيان بها.

أمّا الآية و الرواية الأُولى، فموردهما هو الذنب الذي يفتقر إلى الاستغفار كي يكفّر، فيمكن أن يقال بملاحظة الآية المتقدّمة: إنّ موردهما هي المعصية الكبيرة.

و أمّا الرواية الثانية، فلم يظهر دلالتها على مدّعى القائل أصلًا، فتأمّل.

نعم، لا مجال للإشكال على هذا القول؛ بأنّه بناءً عليه لا يبقى مورد للآية الشريفة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية، نظراً إلى أنّه إذا توقّف تكفير الصغيرة أيضاً على التوبة لم يتحقّق فرق بينها و بين الكبيرة، فلا يبقى مورد لهذه الآية أصلًا.

و ذلك لأنّه يمكن أن يجيب عن ذلك؛ بأنّ الذنب الصغير المكفّر باجتناب الكبائر هو الذنب الذي كان غافلًا عنه بعد الإتيان به، أو غافلًا عن وجوب التوبة عليه، و به يتحقّق الفرق بينه و بين الكبيرة، حيث إنّه ما لم تتحقّق التوبة عنها لا تكون مكفّرة أصلًا.

و هذا الجواب و إن كان غير صحيح؛ لأنّه مضافاً إلى مخالفته لظاهر الآية الشريفة الدالّة على أنّ اجتناب الكبائر موجب لتكفير الصغائر مطلقاً، من دون فرق بين صورتي الغفلة و عدمها يكون منافياً لرواية ابن أبي عمير المتقدّمة، الدالّة على انحصار الشفاعة بخصوص أهل الكبائر، و الظاهرة في عدم احتياج الصغيرة إلى الاستغفار ما لم يبلغ حدّ الإصرار فتدبّر، إلّا أنّه يكفي في إثبات بيان المورد للآية الشريفة، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه حكى في مفتاح الكرامة عن الفاضل السبزواري «2» أنّه استضعف هذا

القول،

______________________________

(1) التوحيد: 407 ح 6، الوسائل: 15/ 335، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 47 ح 11.

(2) ذخيرة المعاد: 305.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 273

..........

______________________________

و لكنّه ذكر نفسه بعد الاستدلال برواية جابر ثمّ الحكم بضعف سندها أنّه يمكن أن يقال: إنّه لمّا عصى و لم يتب فهو مخاطب بالتوبة، و لمّا لم يتب في الحال فقد عصى، فهو في كلّ آن مخاطب بالتوبة، و لمّا لم يتب فقد أقام و استمر على عدم التوبة التي هي معصية «1».

و يرد عليه أنّ التكليف بالتوبة إنّما هو في خصوص المعصية الكبيرة أو الصغيرة غير المكفّرة باجتناب الكبائر، و أمّا الذنب الصغير المكفّر باجتنابها فلا يحتاج إلى التوبة أصلًا، فهذا الدليل فاسد.

فينقدح من جميع ما ذكرنا صحّة ما حكي عن الشهيدين «2» و المقدّس الأردبيلي «3» قدّس اللّٰه أسرارهم من أنّهم بعد تقسيم الإصرار إلى فعلي و حكمي، و أنّ الفعلي هو الدوام على نوع واحد من الصغائر بلا توبة، أو الإكثار من جنسيها كذلك قالوا: «و الحكمي هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها» إذاً فالظاهر عدم تحقّق الإصرار بمجرّد الارتكاب و عدم الندم، و إن كان متوجّهاً إلى صدوره ملتفتاً إلى إتيانه.

الأمر الثاني: في أنّ المعتبر في العدالة هل هو اجتناب خصوص الكبائر الشاملة للإصرار على الصغائر، أو الأعمّ منه و من اجتناب الصغائر أيضاً؟ و العمدة في مستند القول الأوّل صحيحة عبد اللّٰه بن أبي يعفور المتقدّمة «4»، بناءً على ما استظهرنا منها من أن قوله (عليه السّلام): «و يعرف باجتناب الكبائر» عطف على قوله (عليه السّلام): «أن تعرفوه بالستر و العفاف». و عليه فيكون من

تتمّة المعرّف للعدالة أو تخصيصاً بعد التعميم، و يصير حاصل المراد أنّ العدالة هي ملكة الستر و العفاف، الرادعة عن ارتكاب شي ء من القبائح العرفية غير اللائقة بحاله، و ملكة الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة التي أوعد اللّٰه عليها النار، و لازمه حينئذٍ أنّ ارتكاب شي ء من المعاصي الصغيرة عند عدم الإصرار عليه لا يكون بقادح في العدالة.

و دعوى أنّه كيف لا يكون ارتكاب المعصية قادحاً في العدالة، مدفوعة بأنّها

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 3/ 88.

(2) القواعد و الفوائد: 1/ 227، قاعدة 68، الروضة البهيّة: 3/ 130، مسالك الأفهام: 14/ 168.

(3) مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 320.

(4) في ص 272.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 274

..........

______________________________

مجرّد استبعاد لا يقاوم الظهور اللفظي بعد كون ارتكابها مكفّرة باجتناب الكبائر المفروض في المقام.

نعم، لو قيل بأنّ قوله (عليه السّلام): «و يعرف باجتناب الكبائر» ليس من أجزاء المعرّف للعدالة، بل أمارة شرعية عليها كما استظهره بعض الأعاظم من المعاصرين على ما عرفت من كلامه «1» فلا دليل حينئذٍ على كون العدالة هي الملكة الرادعة عن ارتكاب خصوص الكبائر، بل مقتضى قوله (عليه السّلام): «أن تعرفوه بالستر و العفاف إلخ» إنّ العدالة هي ملكة الستر و العفاف الباعثة على كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان عن كلّ ذنب، سواء كان من الكبائر أو من الصغائر. غاية الأمر أنّ الأمارة الشرعيّة على ذلك إنّما هو الاجتناب العملي عن خصوص الكبائر، و من المعلوم أنّ الرجوع إلى الإمارة إنّما هو مع عدم العلم بخلافها، الذي يتحقّق بارتكاب صغيرة من الصغائر. هذا، و قد عرفت أنّ هذا المعنى بعيد عن سياق الرواية مخالف لقوله (عليه السّلام):

«يعرف» بصيغة المذكّر.

نعم، يمكن أن يورد على ما ذكرنا بأنّ اعتبار الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة ينافي قول الإمام (عليه السّلام) في ذيل الرواية: «و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون الشخص ساتراً لجميع عيوبه». فإنّ مقتضاه أن يكون ساتراً للذنوب الصغيرة أيضاً، بداهة أنّها أيضاً من العيوب، و مقتضى هذا القول أن يكون ساتراً لجميعها.

و لكنّ الجواب عنه مضافاً إلى إمكان دعوى كون المراد من العيوب هي خصوص الكبائر منها، بقرينة قوله (عليه السّلام) في الصدر: «و يعرف باجتناب الكبائر» في مقام تعريف العدالة و بيان معناها أنّه لا مانع من الالتزام بكون المراد بالعيوب هنا جميعها، نظراً إلى أنّ الأمارة الشرعية على العدالة هي أن يكون الشخص ساتراً لعيوبه بأجمعها، و لا منافاة بين أن يكون المعتبر في حقيقة العدالة و ماهيّتها خصوص الاجتناب عن الكبيرة، و بين أن يكون الدليل الشرعي عليها هو الستر لجميع المعاصي، فإنّ الرجوع إلى الإمارة إنّما هو مع الشكّ و عدم العلم.

______________________________

(1) في ص 282.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 275

..........

______________________________

ضرورة أنّه لا مجال للأمارة مع العلم بالواقع، ففي صورة الشكّ في تحقّق العدالة و حصول الاجتناب عن الكبيرة تكون الأمارة الشرعيّة هو الستر لجميع عيوبه و إخفاء جمع المعاصي و آثامه، كما أنّها لا محيص عن الالتزام بذلك بعد ملاحظة ما ذكرنا من عدم كون ترك الواجبات معدوداً من الكبائر؛ لما عرفت «1» من تعدادها، و عدم كون ترك شي ء من الواجبات منها بضميمة ما في ذيل الصحيحة من اعتبار المواظبة على الصلوات الخمس و الحضور في جماعة المسلمين، فإنّ ترك الصلاة حينئذٍ لا يكون من الكبائر، فكيف جعلت المواظبة

عليها أمارة شرعية على تحقّق العدالة التي تتقوّم بالاجتناب عن خصوص الكبائر فقط، فإنّ الجمع بين الأمرين إنّما يتحقّق بأنّه لا يلزم أن يكون المعتبر في الأمارة على شي ء أن لا يتعدّى عن الخصوصيّات الدخيلة فيه، خصوصاً إذا كانت أمارة شرعية تعبديّة.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ المواظبة على الصلوات الخمس و حفظ مواقيتها لا يتوقّف على الحضور في جماعة المسلمين دائماً، بل يكفي الحضور فيها نوعاً، و حينئذٍ لا مانع من جعل ذلك أمارة شرعيّة؛ لأنّ ترك الصلاة أيضاً بناءً على ذلك يكون الإصرار عليه قادحاً في تحقّق العدالة لفرض كونه صغيرة، إلّا أن يستبعد كون ترك الصلاة من جملة المعاصي غير الكبيرة؛ لكنّه لا يقاوم هذا الاستبعاد مع الروايات الكثيرة المتقدمة الواردة في تعداد الكبائر «2»، و لم يقع فيها التعرّض لكون ترك الصلاة منها كما عرفت مدلول الروايات إجمالًا.

فالإنصاف أنّه لم يظهر من ذيل الرواية ما ينافي صدرها، الظاهر في اعتبار الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة في تحقّق العدالة واقعاً.

ثمّ إنّ المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) ذكر في هذا المقام كلاماً محصّله: «أنّ الذي يقوى في النظر أنّ صدور الصغيرة أيضاً إذا كان عن عمد و التفات إلى حرمتها كالكبيرة منافٍ للعدالة، و لكنّ الذنوب التي ليست في أنظار أهل الشرع كبيرة قد

______________________________

(1) في ص 303 305.

(2) في ص 300 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 276

..........

______________________________

يتسامحون في أمرها، فكثيراً ما لا يلتفتون إلى حرمتها حال الارتكاب، أو يلتفتون إليها و لكن يكتفون في ارتكابها بأعذار عرفية مسامحة، كترك الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو الخروج عن مجلس الغيبة و نحوها حياءً مع كونهم

كارهين لذلك في نفوسهم، فالظاهر عدم كون مثل ذلك منافياً لاتّصافه بالفعل عرفاً بكونه من أهل الستر و العفاف و الخير و الصلاح.

و هذا بخلاف مثل الزنا و اللواط و نظائرهما ممّا يرونها كبيرة، فإنّها غير قابلة عندهم للمسامحة، و هذا هو الفارق بين ما يراه العرف صغيرة و كبيرة، فإن ثبت بدليل شرعي أنّ بعض الأشياء التي يتسامح فيها أهل العرف و لا يرونها كبيرة، كالغيبة مثلًا حاله حال الزنا، و السرقة لدى الشارع في كونها كبيرة، كشف ذلك عن خطأ العرف في مسامحتهم، و أنّ هذا أيضاً كالزنا منافٍ للعدالة مطلقاً، فالذي يعتبر في تحقّق وصف العدالة أن يكون الشخص من حيث هو لو خلّي و نفسه كافّاً نفسه عن مطلق ما يراه معصية، و مجتنباً بالفعل عن كلّ ما هو كبيرة شرعاً أو في أنظار أهل العرف «1».

و الجواب عن ذلك أنّه بعد دلالة الصحيحة المتقدّمة على أنّ الذي تتقوّم به العدالة هو الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة كما استظهرنا منها و بعد ورود الروايات الكثيرة في تعداد الكبائر لا مجال لتوهّم كون ارتكاب الصغيرة أيضاً قادحاً في العدالة، و إن كان حال الارتكاب ملتفتاً إلى حرمتها و لم يكن هناك عذر موجب للتسامح أصلًا، كما لا يخفى.

هذا، مع أنّه لم يعلم حقيقة مرامه (قدّس سرّه)، و أنّه هل هو بصدد التفصيل بين ما يراه العرف صغيرة و بين ما يراه كبيرة، أو بصدد التفصيل بين ما يكون هناك عذر موجب للتسامح و بين ما لا يكون كذلك، أو بصدد التفصيل بين ما إذا كان حال الارتكاب متوجّهاً إلى حرمتها و بين ما إذا لم يكن، أو في مقام الفرق بين الشرع

و العرف؟ و الظاهر بطلان التفصيل بجميع احتمالاته الأربعة، و التفصيل الصحيح ما اخترناه من عدم قدح

______________________________

(1) كتاب الصلاة من مصباح الفقيه: 675.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 277

..........

______________________________

ارتكاب الصغيرة شرعاً في تحقّق العدالة ما لم يبلغ حدّ الإصرار الموجب لكونه كبيرة أو للحوقه بها، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه قد اتّفقت آراء المسلمين تقريباً على أنّ مجرّد الإتيان بالكبيرة يمنع عن قبول الشهادة و ما يجري مجراه من جواز الاقتداء به في الصلاة و غيره. كما أنّه قد ادّعى الإجماع جماعة من المتأخّرين على أنّ التوبة عن الكبيرة و الرجوع عنها تزيل حكم المعصية، و معها تقبل الشهادة و يجري سائر أحكام العدالة «1».

و قد وقع الخلاف في ذلك بين المسلمين، و مورد الخلاف بينهم هي مسألة القذف، و المنشأ له هي الآية الشريفة «2»، و قد تعرّض لهذه المسألة الشيخ (قدّس سرّه) في كتاب الخلاف في باب الشهادات، حيث قال: القاذف إذا تاب و صلح قبلت توبته و زال فسقه بلا خلاف، و تقبل عندنا شهادته فيما بعد. و به قال عمر بن الخطاب، و روى عنه أنّه جلد أبا بكرة حين شهد على المغيرة بالزنا، ثمّ قال له: تب تقبل شهادتك «3»، و عن جماعة أنّهم قالوا: إذا تاب القاذف قبلت شهادته «4». و لا مخالف لهما، ثمّ عدّ جماعة من التابعين و الفقهاء و الموافقين لذلك.

ثمّ قال: و ذهبت طائفة إلى أنّهما تسقط فلا تقبل أبداً، ذهب إليه في التابعين شريح، و الحسن البصري، و النخعي، و الثوري، و أبو حنيفة، و أصحابه «5». ثمّ قال: و الكلام مع أبي حنيفة في فصلين: عندنا و عند

الشافعي تردّ شهادته بمجرّد القذف، و عنده لا تردّ بمجرّد القذف حتى يجلد، فإذا جلد ردّت شهادته بالجلد لا بالقذف، و الثاني: عندنا تقبل شهادته إذا تاب، و عنده لا تقبل و لو تاب ألف مرّة. دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم.

و الدليل على أنّ ردّ الشهادة يتعلّق بمجرّد القذف. و لا يعتبر الجلد قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً «6» فذكر القذف و علّق وجوب الجلد بردّ الشهادة، فثبت أنّهما يتعلّقان

______________________________

(1) ذخيرة المعاد: 305، مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 321.

(2) سورة النور: 24/ 4.

(3) الامّ: 7/ 48، السنن الكبرى للبيهقي: 15/ 171، كتاب الشهادات ح 21133.

(4) الامّ: 7/ 48، السنن الكبرى للبيهقي: 15/ 173، كتاب الشهادات ح 21137 21143.

(5) الامّ: 7/ 47- 48، المغني لابن قدامة: 12/ 74 75، الحاوي الكبير: 21/ 25 26، المبسوط: 16/ 125.

(6) سورة النور: 24/ 4 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 278

..........

______________________________

به، و الذي يدلّ على أنّ شهادتهم لا تسقط أبداً قوله تعالى في سياق الآية وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1».

و وجه الدلالة أنّ الخطاب إذا اشتمل على جمل معطوفة بعضها على بعض بالواو، ثمّ تعقّبها استثناء رجع الاستثناء على جميعها إذا كانت كلّ واحدة منها ممّا لو انفردت رجع الاستثناء إليها إلى أن قال: فإن قالوا: الاستثناء يرجع إلى أقرب المذكورين، فقد دلّلنا على فساد ذلك في كتاب أصول الفقه «2»، و الثاني: أنّ في الآية ما يدلّ على أنّه لا يرجع إلى أقرب المذكورين،

فإنّ أقربه الفسق و الفسق يزول بمجرّد التوبة و قبول الشهادة لا يثبت بمجرد التوبة، بل تقبل بالتوبة و إصلاح العمل «3».

و لا يخفى أنّ اعتبار الإصلاح مضافاً إلى التوبة ينحصر بباب القذف، و لا دليل عليه في غير ذلك الباب.

و كيف كان، فلا ينبغي المناقشة في قبول الشهادة و ما يجري مجراه بعد التوبة عن المعصية. نعم، ربما يناقش في ذلك بأنّ العدالة هي الملكة النفسانية الكذائيّة على ما دلّت عليه صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة «4»، و بعد زوالها بإتيان الكبيرة لا دليل على عودها بمجرّد الاستغفار و التوبة حتى تقبل الشهادة، و لذا خصّ بعض المعاصرين «5» على ما حكي عنه قبول الشهادة بالتوبة بما إذا عادت معها الملكة التي كانت حاصلة له قبل الإتيان بالمعصية الكبيرة.

و لكن الظاهر أنّ الإتيان بالكبيرة لا يؤثّر في زوال الملكة، بل الملكة بعده أيضاً باقية و إن لم تتحقّق التوبة بعد. نعم، العدالة لا تكون عبارة عن مجرّد الملكة، بل الاجتناب الناشئ عنها؛ لما عرفت من أنّ الدليل على اعتبار الملكة هي الصحيحة المتقدّمة، الدالة على اعتبار الاجتناب العملي عن الكبيرة. غاية الأمر قيام بعض القرائن على اعتبار كون الاجتناب ناشئاً عن الملكة، فقدح الإتيان بالكبيرة إنّما هو لأجل عدم تحقّق الاجتناب لا لأجل زوال الملكة.

______________________________

(1) سورة النور: 24/ 4 5.

(2) عدّة الأُصول: 1/ 320 321.

(3) الخلاف: 6/ 260 262 مسألة 11.

(4) في ص 272.

(5) راجع كتاب الصلاة للشيخ عبد الكريم الحائري: 519.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 279

..........

______________________________

نعم، حيث إنّ التوبة تكفّر الخطيئة و الاستغفار يزيل المعصية فلا محالة تترتّب آثار العدالة بعد التوبة، و يعود الشخص كما

كان قبل صدور المعصية، و قد اشتهرت: التائب من الذنب كمن لا ذنب له «1»، إلّا أن تتحقّق منه المعصية مكرّرة، فإنّه يوجب زوال الملكة فلا تعود العدالة و إن تاب عن كلّ واحدة منها بعد تحقّقها، إلّا أن تتحقّق مقدّمات ثبوتها كالابتداء، كما لا يخفى.

تتميم المعروف بين المتأخّرين على ما نسب إليهم هو اعتبار المروءة في العدالة «2»، و إنّ ارتكاب خلافها ينافي العدالة و يمنع عن تحقّقها، و الظاهر أنّ الدليل المهمّ على ذلك قوله (عليه السّلام) في صحيحة عبد اللّٰه بن أبي يعفور المتقدّمة «3» في مقام الجواب عن السؤال عن ماهيّة العدالة و حقيقتها: «أن تعرفوه بالستر و العفاف» بناءً على ما نقلنا «4» عن كتب اللغة في معنى العفاف من أنّه هو الكفّ عمّا لا يحلّ و يَجمُلُ «5»، فارتكاب ما لا يكون جميلًا لائقاً بحال الشخص، مناسباً لمقامه و شئونه العرفية مخلّ بالعدالة مانع عن تحقّق عنوان العفاف المعتبر فيها على ما هو ظاهر الرواية، و كما أنّ المعتبر في ناحية المعاصي هي ملكة الاجتناب، كذلك المعتبر في طرف المروءة أيضاً ملكتها التي يتعسّر معها أن يصدر من الشخص ما لا ينبغي أن يصدر من مثله بحسب المتعارف.

فالدليل المهمّ على اعتبار المروءة ما ذكرنا لا قوله (عليه السّلام) في الصحيحة في مقام جعل الأمارة الكاشفة: «و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون الشخص ساتراً لجميع عيوبه» بتقريب أنّ «العيوب» عامّة شاملة لجميع أفرادها الشرعيّة و العرفية، حتى يدفع بأنّ مقتضى مناسبة الحكم و الموضوع، و كون الإمام (عليه السّلام) هو الملقي للكلام أن يكون

______________________________

(1) الكافي: 2/ 435 ح 10، عيون أخبار الرضا (عليه السّلام): 2/ 74 ح 347،

الوسائل: 16/ 74 و 75، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 86 ح 8 و 14.

(2) رسائل فقهيّة للشيخ الأنصاري: 17.

(3) في ص 272.

(4) في ص 277.

(5) في ص 272.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 280

..........

______________________________

المراد منها خصوص العيوب المضافة إلى الشرع و المرتبطة بالشارع. و لا الملازمة بين عدم الخجلة من الناس و عدم الاستحياء من غير اللّٰه، و بين عدم الخجلة و الاستحياء من اللّٰه تبارك و تعالى حتى يدفع بمنع الملازمة، و عدم كون عدم الاستحياء من غير اللّٰه كاشفاً عن عدمه من اللّٰه تبارك و تعالى خصوصاً بالإضافة إلى من يكون متفانياً في اللّٰه و في الأُمور المعنوية و متمحّضاً فيها، بحيث لا يعتني بالناس و بالشئون التي يترقّبونها منه.

فالإنصاف بمقتضى ما ذكرنا اعتبار ملكة المروءة في العدالة، و استبعاد مدخلية المروءة فيها دون الاجتناب عن الصغيرة، نظراً إلى أنّه كيف يكون ارتكاب أمر مباح قادحاً في العدالة، و الإتيان بالمحرّم الشرعي غير قادح فيها لا يقاوم ظهور الدليل، خصوصاً بعد ملاحظة كون الإصرار على الصغيرة من جملة الكبائر القادحة، و أنّه يتحقّق بمجرّد الإتيان بذنب و العزم على العود إليه، بل بمجرّد الإتيان به و عدم الندم عليه و إن لم يعزم على العود، كما اختاره بعض الأعاظم من المحقّقين «1» على خلاف ما اخترناه.

و ليعلم أنّ محلّ الكلام في ارتكاب خلاف المروءة من جهة كونه قادحاً في العدالة هو ما إذا لم ينطبق عليه عنوان محرّم، و أمّا إذا انطبق عليه عنوان محرّم كالهتك و نحوه فلا إشكال في دخوله حينئذٍ في الذنوب التي يكون الإتيان بها مانعاً عن تحقّق العدالة إذا تحقّق

الإصرار. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل الذي كان البحث فيه مرتبطاً بمفهوم العدالة و معناها.

المقام الثاني: في الكاشف عن العدالة و الأمارة الشرعية التعبديّة عليها، و الكلام فيه يقع في مرحلتين:

المرحلة الأُولى: في أصل وجود الكاشف و الأمارة عليها بالخصوص زائداً على الأمارة أو الأمارات الشرعية العامّة، كالبيّنة و إخبار عادل واحد أو ثقة كذلك على

______________________________

(1) كتاب الصلاة للشيخ عبد الكريم الحائري: 519.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 281

..........

______________________________

اختلاف في الأخيرين، كما مرّ في مبحث اعتبار البيّنة و حجيّتها «1».

و الظاهر كما هو المتسالم عليه بين الأصحاب وجود أمارة خاصّة و إنّ حسن الظاهر كاشف شرعي عن العدالة، و هذا مع قيام الدليل عليه يساعده الاعتبار، إذ لولاه لم يمكن كشف العدالة نوعاً، و لو مع كمال المعاشرة و طول المخالطة؛ لعدم إمكان العلم نوعاً بعدم صدور المعصية منه كما هو واضح، و قيام البيّنة لا بدّ و أن يكون مستنداً إلى العلم لا محالة، و لو كانت هناك واسطة، كبيّنة أُخرى إذا قلنا بجواز استناد البيّنة إلى مثلها، و بالجملة: لا إشكال في عدم إمكان كشف العدالة نوعاً لو لم يكن أمارة شرعية خاصّة عليها، فالاعتبار يساعد وجودها.

و أمّا الدليل، فالعمدة كما عرفت هي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة «2» المشتملة على أنّ الدليل الشرعي على تحقّق ملكة العدالة و القيود المعتبرة فيها هو الأمر المركّب من الستر لجميع العيوب في المعاصي الوجوديّة، و المحافظة على الصلوات الخمس في المعاصي العدميّة، و قد عرفت النكتة في تخصيص الصلوات الخمس من بين الواجبات بالذكر «3». و هذا الأمر المركّب هو الذي يعبّر عنه بحسن الظاهر، و عليه

فلا ينبغي الإشكال في كونه كاشفاً عن العدالة في الجملة.

و تؤيّد الصحيحة في الدلالة على ذلك روايات اخرى لا يخلو بعضها عن الخلل في السند أو المناقشة في الدلالة:

منها: رواية حريز، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا، فعدل منهم اثنان و لم يعدل الآخران، فقال: إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أُجيزت شهادتهم جميعاً، الحديث «4». و من المعلوم أنّه لا خصوصيّة لشهادة الزور، بل المعتبر هو عدم المعروفيّة بارتكاب المعاصي، و يرجع ذلك إلى حسن الظاهر.

______________________________

(1) في ص 216 227.

(2) في ص 272.

(3) في ص 280.

(4) التهذيب: 6/ 277 ح 759، الاستبصار: 3/ 14 ح 36، الوسائل: 27/ 397، كتاب الشهادات ب 41 ح 18.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 282

..........

______________________________

و منها: موثّقة أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً «1».

و منها: رواية علقمة قال: قال الصادق (عليه السّلام) و قد قلت له: يا ابن رسول اللّٰه أخبرني عمّن تُقبل شهادته و من لا تقبل؟ فقال: يا علقمة كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته، قال: قلت له: تقبل شهادة مقترف بالذنوب؟ فقال: يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلّا شهادة الأنبياء و الأوصياء (عليهم السّلام)؛ لأنّهم المعصومون دون سائر الخلق، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر، و شهادته مقبولة و إن كان في نفسه مذنباً، و من اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية اللّٰه، داخل في ولاية الشيطان «2».

ثمّ

إنّه لا مجال لدعوى اعتبار المعاشرة في كاشفيّة حسن الظاهر، بحيث لو كان الشخص منزوياً جالساً في بيته غير مرئيّ في الاجتماع إلّا في حال الصلاة مثلًا لا يكون هنا طريق إلى عدالته من جهة حسن الظاهر، و ذلك لأنّه مضافاً إلى أنّ نفس الحضور في جماعة المسلمين و الجهات الملازمة لذلك لا يكاد ينفك عن المعاشرة كما هو واضح لا دليل على اعتبارها أصلًا، فإنّ الأمارة الشرعيّة هي الساتريّة للعيوب بأجمعها، و نفس الانزواء و عدم المخالطة من جملة الطرق للستر.

نعم، لا بدّ من تحقّق العلم بحصول الأمارة الشرعيّة أو ما يقوم مقامه، كالبيّنة لو فرض اعتبارها في جميع الموارد، فإذا قامت البيّنة على ثبوت حسن الظاهر يكفي كما إذا قامت على شهادة البيّنة بنجاسة الشي ء الفلاني أو حرمته، فتدبّر جيّداً.

المرحلة الثانية: في أنّ كاشفيّة حسن الظاهر هل تختصّ بما إذا أفاد العلم أو الظنّ الشخصي بتحقّق ملكة العدالة و الجهات المعتبرة فيها، كما هو ظاهر عبارة العروة بل

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 27 ح 77، الوسائل: 395، كتاب الشهادات ب 41 ح 10.

(2) أمالي الصدوق: 163 ح 3، الوسائل: 27/ 395، كتاب الشهادات ب 41 ح 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 283

..........

______________________________

صريحها، أو أنّه كاشف مطلقاً و لو لم يفد العلم بل و لا الظنّ؟ كما استظهره سيّدنا العلّامة الأستاذ الماتن دام ظلّه في ذيل المسألة السابعة و العشرين المتقدّمة. و الظاهر هو الوجه الثاني؛ لأنّك عرفت أنّ العمدة في هذا الباب هي الصحيحة المتقدّمة الدالّة على أنّ الساتريّة و الحضور في جماعة المسلمين كاشف عن العدالة و دليل شرعي عليها، و لم يقع فيها التقييد بما

إذا أفاد العلم أو الظنّ الشخصي بتحقّق الملكة و سائر الأُمور المعتبرة.

و قد استدلّ على مختار العروة بروايتين:

إحداهما: مرسلة يونس بن عبد الرحمن، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ أ يحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة؟ فقال: خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات، و المناكح، و الذبائح، و الشهادات، و الأنساب، فإذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته و لا يُسأل عن باطنه «1». نظراً إلى أنّ توصيف الظاهر بكونه مأموناً مرجعه إلى حصول الوثوق و الاطمئنان بكونه مطابقاً للواقع.

و الجواب عنه: أنّ المأمونيّة إنّما هي في مقابل الفسق و الفجور، و معنى الرواية أنّه إذا كان ظاهر الرجل ظاهراً دينيّاً، عاملًا بالوظائف، مجتنباً عن المعاصي فشهادته جائزة في مقابل من كان ظاهره الفسق و الفجور و الإخلال بالوظائف الشرعيّة.

و بعبارة أُخرى: الرواية ظاهرة في أنّ الظاهر على قسمين: أحدهما المأمونيّة و الأُخرى مقابلها، و ليست فيها دلالة بوجه على أنّ من كان ظاهره القيام بالوظائف الشرعيّة يجب أن يحصل منه الظن بالمطابقة مع الواقع حتى تكون شهادته جائزة كما هو ظاهر.

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 9 ح 29، الوسائل: 27/ 392، كتاب الشهادات ب 41 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 284

[إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأً يجب عليه إعلام من تعلّم منه]

مسألة 30: إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأً يجب عليه إعلام من تعلّم منه (1).

______________________________

ثانيتهما: رواية أبي علي بن راشد قال: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): إنّ مواليك قد اختلفوا فأُصلّي خلفهم جميعاً؟ فقال: لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه «1». فإنّ ظاهره اعتبار الوثاقة الشخصية بالدين أو به و الأمانة، كما في

رواية الشيخ.

و الجواب: إنّ الوثاقة بالدّين ظاهرة في الوثاقة بكونه إماميّاً اثني عشرياً و لا كلام فيه، و أمّا الوثاقة بالأمانة كما فيما رواه الشيخ فالظاهر عدم اعتبارها في جواز الاقتداء لو كان المراد بها هي الوثاقة الشخصية؛ لوضوح جواز الاقتداء بمن قامت البيّنة على عدالته، أو كان مقتضى الاستصحاب بقاء عدالته، إذاً فالمراد بالوثاقة إمّا الوثاقة النوعيّة أو الوثاقة بكونه أميناً في الظاهر، و مرجعه إلى الوثوق بوجود الأمارة الكاشفة عن العدالة و الاطمئنان بتحقّق حسن الظاهر، و بالجملة: فلم يقم في مقابل ما دلّ على كاشفيّة حسن الظاهر بنحو الإطلاق الشامل لصورة عدم حصول الظنّ فضلًا عن العلم دليل على التقييد بخصوص ما إذا أفاد العلم أو الظنّ، كما عرفت.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بمبحث العدالة، و قد انقدح ممّا ذكرنا أنّ العدالة لا تكون عبارة عن مجرّد الملكة الراسخة الباعثة، كما أفاده الماتن دام ظلّه بل هي بضميمة الاجتناب العملي تحقّق التقوى خارجاً، بحيث لو تحقّق ارتكاب الكبيرة لا تتحقّق العدالة بوجه، و منه يظهر أنّ ارتكاب الكبيرة إنّما يؤثّر في زوال صفة العدالة حقيقة و يمنع عن تحقّقها واقعاً، لدخالة الاجتناب عنها في الحقيقة و الماهيّة، كما أنّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ ارتكاب الصغيرة من دون إصرار لا يقدح في العدالة أصلًا، و أنّ ملكة المروءة دخيلة فيها بمقتضى الرواية، فتأمّل جيّداً.

(1) الخطأ في نقل فتوى المجتهد و كذا في بيان المجتهد فتوى نفسه تارة بنحو تكون الفتوى الواقعيّة عبارة عن الحكم اللزومي من الوجوب أو الحرمة،

______________________________

(1) الكافي: 3743 ح 5، التهذيب: 3/ 266 ح 755، و فيه: بدينه و أمانته، الوسائل: 8/ 309، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة ب 10

ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 285

..........

______________________________

و الناقل ينقله بنحو الإباحة. و أُخرى بالعكس، فهنا صورتان:

الاولى: ما اعتمد عليه بعض الأعلام في الشرح على العروة ممّا حاصله: أنّه يتحقّق بذلك التسبيب إلى فعل الحرام، و المستفاد من دليل الحرمة في جميع الموارد حسب المتفاهم العرفي إنّما هو مبغوضيّة انتساب العمل المحرّم إلى المكلّفين، من دون فرق في ذلك بين أن يكون بالمباشرة أو بالتسبيب، و من هنا يكون تقديم الطعام النجس إلى الجاهل ليأكله أمر حرام؛ لأنّ النهي و التحريم و إن كانا قد تعلّقا بأكل النجس إلّا أنّ العرف يفهم من ذلك أنّ أكل النجس مبغوض مطلقاً، سواء صدر ذلك عن المكلّف بالمباشرة أم صدر بالتسبيب، و إن كان الآكل حينئذٍ معذوراً بجهله، بل يمكن أن يقال باستقلال العقل أيضاً بذلك؛ لأنّ ما هو الملاك في المنع عن العمل بالمباشرة موجود في العمل بالتسبيب، و حيث إنّ الناقل أو المجتهد في المقام أفتى بإباحة ما هو لازم فعله أو تركه فقد سببا إلى وقوع المكلّف في الأمر المبغوض. نعم، ما داما غافلين معذوران في التسبيب، فإذا ارتفعت الغفلة وجب عليهما الإعلام.

و أيّد ذلك بل استدلّ عليه بما ورد من أنّ المفتي ضامن كما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج المتقدّمة في بحث التقليد «1» قال: كان أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) قاعداً في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابيّ فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه، فلمّا سكت قال له الأعرابيّ: أ هو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة و لم يردّ عليه شيئاً، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك، فقال له الأعرابي: أ هو في عنقك؟ فسكت ربيعة، فقال

أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): هو في عنقه. قال: أو لم يقل: و كلّ مفت ضامن؟! «2». بناءً على أنّ المفتي عبارة عن مطلق من ينقل الحكم، فيشمل المجتهد و الناقل كلاهما.

قال: بل ورد في بعض الأخبار «3» أنّ كفارة تقليم المحرم أظفاره على من أفتى

______________________________

(1) في ص 57 58.

(2) الكافي: 7/ 409 ح 1، الوسائل: 27/ 220، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي ب 7 ح 2.

(3) الوسائل: 13/ 164 165، كتاب الحج، أبواب بقيّة كفّارات الإحرام ب 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 286

..........

______________________________

بجوازه، و تدلّ عليه أيضاً صحيحة أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام): من أفتى الناس بغير علم و لا هدًى من اللّٰه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه «1». و كذلك غيرها من الأخبار «2» الدالّة على حرمة الفتوى بغير علم، و ذلك لأنّ الفتوى بالإباحة في المقام أيضاً من غير علم و إن كان المجتهد أو الناقل معذورين ما داما مشتبهين أو غافلين، إلّا أنّه إذا ارتفعت الغفلة وجب عليهما إعلام الجاهل بالحال كما مرّ «3».

أقول: الكلام في هذا الوجه تارة من حيث الكبرى، و أنّ التسبيب إلى الحرام هل يكون حراماً أم لا؟ و أُخرى من حيث الصغرى، و أنّ المقام هل يكون مصداقاً لتلك القاعدة أم لا؟

أمّا من الجهة الأُولى: فسيأتي تفصيل البحث فيها في بعض مباحث النجاسات إن شاء اللّٰه تعالى.

و أمّا من الجهة الثانية: فربما يقال بعدم كون المقام من صغريات تلك القاعدة، نظراً إلى أنّ عمل العامي المباشر لترك الواجب أو فعل الحرام إن أُريد كونه مستنداً إلى الفتوى

بالإباحة أو نقلها، فهو و إن كان صحيحاً إلّا أنّ ذلك يقتضي الحرمة لو كان عمداً، و المفروض خلافه. و إن أُريد استناده إلى ترك الإعلام الذي هو محلّ الكلام فهو غير صحيح؛ لعدم استناد عمل العامي إلى ترك الإعلام أصلًا، فالمقام لا يكون من صغريات قاعدة حرمة التسبيب على فرض تماميّتها.

و الظاهر أنّه لا مجال للمناقشة في هذه الجهة، فإنّ الفتوى أو نقلها و إن لم يكن عن عمد حتى يكون التسبيب مقتضياً لحرمته، إلّا أنّ ظهوره في البقاء و الاستمرار الناشئ من البيان و ترك الإعلام أمرٌ عمدي و الفعل مستند إليه، ضرورة أنّ الفعل

______________________________

(1) الكافي: 7/ 409 ح 2، الوسائل: 27/ 20، أبواب آداب القاضي ب 4 ح 1.

(2) الوسائل: 27/ 20 31، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي ب 4.

(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 372 272.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 287

..........

______________________________

لا يكون مستنداً إلى الفتوى و لو مع رفع اليد عنها و إعلام خلافها، بل هو مستند إلى الفتوى مع بقائها و عدم رفع اليد عنها، و هو يحصل بترك الإعلام كما هو ظاهر، و المفروض أنّه عمديّ، فبناءً على حرمة التسبيب يكون محرّماً.

نعم، ربما يناقش في أنّ مقتضى ذلك حرمة السكوت و ترك الإعلام لا وجوب الإعلام، كما أنّه ربما يناقش بأنّ قاعدة حرمة التسبيب إنّما يكون مجراها خصوص التسبيب إلى فعل المحرّم، و لا تشمل التسبيب إلى ترك الواجب لعدم كون ترك الواجب محرّماً، بل الواجب ما كان فعله واجباً، كما أنّ الحرام ما كان فعله محرّماً لا ما كان تركه واجباً.

و أمّا الروايات فيمكن المناقشة في دلالتها

مضافاً إلى أنّها تختصّ بخصوص المجتهد؛ لظهور عنوان «المفتي» أو «من أفتى» في خصوص المجتهد، و لا يشمل الناقل بمجرّده بأنّ صحيحة عبد الرحمن ظاهرة إمّا في ضمان كلّ مفت و لو كانت فتواه عن علم و هدى من اللّٰه، و إمّا في ضمان خصوص من كانت فتواه على خلاف الواقع عن عمد و قصد، و على أيّ فلا دلالة لها على الحرمة في المقام إلّا أن يقال: إنّ فتواه بخلاف الواقع و إن لم تكن في المقام عن عمد و اختيار، إلّا أنّ ترك الإعلام الموجب لظهورها في البقاء موجب لذلك، كما لا يخفى، و صحيحة أبي عبيدة لا دلالة لها إلّا على ثبوت وزر من عمل بفتياه للمفتي، و هذا مضافاً إلى أنّه لا يلازم الوجوب الشرعي، بل غايته اللزوم العقلي من جهة تخفيف الوزر، يكون مورده الفتوى بغير علم؛ و هو لا يشمل المقام إلّا على النحو الذي ذكرنا.

الوجه الثاني: ما أفاده في المستمسك من أنّ المستفاد من آية النفر «1» الشريفة وجوب الإعلام، حيث يترتّب عليه إحداث الداعي العقلي إلى العمل بالواقع، الذي هو متعلّق الإعلام لاختصاص الإنذار بذلك، فإذا كان المكلّف غافلًا عن الحكم الكلّي أو قاطعاً بالخلاف أو متردّداً على نحو يكون جهله عذراً وجب إعلامه؛ لما يترتّب عليه

______________________________

(1) سورة التوبة: 9/ 122.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 288

..........

______________________________

من إحداث الدّاعي العقلي، و إذا كان جاهلًا جهلًا لا يعذر فيه لا يجب إعلامه.

و كذا لو انحصر الإعلام بطريق الخبر الذي لا يكون حجّة في نظر السامع، فإنّه لا يجب لعدم ترتّب الأثر المذكور، و لا تبعد استفادة ذلك أيضاً ممّا تضمّن أنّ

الغرض من إرسال الرسل قطع أعذار المكلّفين و إقامة الحجّة عليهم؛ مثل قوله تعالى أَنْ تَقُولُوا مٰا جٰاءَنٰا مِنْ بَشِيرٍ وَ لٰا نَذِيرٍ فَقَدْ جٰاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ «1» لِئَلّٰا يَكُونَ لِلنّٰاسِ عَلَى اللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ «2» فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبٰالِغَةُ «3» و نحوه، فتأمّل.

ثمّ إنّ الظاهر اختصاص هذا الصنف من الآيات بالحكم الإلزامي، فإذا كان المجهول حكماً غير إلزاميّ لم يجب إعلامه، و أمّا آية الكتمان «4» فظاهرها وجوب الإظهار في مقام الاستعلام، سواء ترتّب عليه الإنذار أم لا، و سواء أ كان الاستعلام بطريق السؤال كما في المتردّد إذا سأل عن الحكم أم بمحض وجود الداعي إلى معرفة الحكم و العلم به، و إن كان غافلًا عن ذلك، سواء أ كان معتقداً لخلاف الواقع أم غافلًا عنه أم متردّداً غافلًا عن وجود من يجب سؤاله، أم غير ذلك من موارد وجود الرغبة النفسانية في معرفة الحكم، و لو لم تدفع إلى السؤال للوجود المانع، فيكون بين مفاد الآية الشريفة و ما سبق العموم من وجه، و لعدم التنافي بين المفادين لكونهما من قبيل المثبتين يتعيّن العمل بهما معاً، و لازم ذلك وجوب البيان مع السؤال، و إن لم يكن السائل معذوراً في جهله، بل لعلّها تقتضي وجوبه مع عدم اعتقاد السائل حجيّة الخبر، و قد عرفت عدم اقتضاء آية النفر وجوب الإعلام حينئذٍ.

و كيف كان، ففي فرض المسألة كما يجب على الناقل أو المفتي خطأً إخبار الجاهل، كذلك يجب على غيره من المكلّفين؛ لعموم الأدلّة الدالّة على وجوب الإعلام «5» انتهى.

و أنت خبير بأنّ مرجع ما أفاده (قدّس سرّه) إلى وجوب تبليغ الأحكام الشرعيّة و بيانها للناس و حفظها عن الخفاء و الاندراس،

و لأجله صرّح في ذيل كلامه

______________________________

(1) سورة المائدة: 5/ 19.

(2) سورة النساء: 4/ 165.

(3) سورة الأنعام: 6/ 149.

(4) سورة البقرة: 2/ 140، 159، 174.

(5) مستمسك العروة: 1/ 75 77.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 289

..........

______________________________

بأنّه كما يجب على المفتي أو الناقل خطأً إخبار الجاهل، كذلك يجب على غيره من المكلّفين؛ لعموم الأدلّة الدالّة على وجوب الإعلام، مع أنّ الظاهر أنّ المقصود في هذه المسألة وجوب الإعلام على خصوص الناقل أو المفتي خطأً دون سائر المكلّفين، مضافاً إلى اختلاف كيفيّة الإعلام في المقامين، فإنّ الإعلام هناك إنّما يتحقّق ببيان الأحكام الشرعيّة على النحو المتعارف الذي يتمكّن العامي من الوصول إليه، و الإعلام هنا إنّما هو بإعلام كلّ فرد ممّن تعلّم الفتوى على خلاف الواقع بأيّ نحو أمكن، فبين المقامين فرق ظاهر.

و أمّا الصورة الثانية: أعني ما إذا كانت الفتوى الواقعيّة غير إلزامية، و الناقل أو المجتهد نقلها بنحو الإلزام، فربّما يقال بعدم وجوب الإعلام حينئذٍ، لعدم جريان قاعدة حرمة التسبيب في هذه الصورة؛ لأنّ المفروض أنّ الفتوى صارت سبباً لترك أمر مباح أو فعل أمر لا يكون واجباً، و ليس شي ء منهما بحرام، و أدلّة وجوب تبليغ الأحكام مضافاً إلى أنّ مقتضاها وجوب البيان بالنحو المذكور لا وجوب إيصالها إلى آحاد المكلّفين مختصّة بالأحكام الإلزامية، و لا تشمل الأحكام الترخيصيّة، إمّا لاقترانها بالقرينة في نفسها، و إمّا لأنّ التعلّم واجب طريقي، و الوجه فيه هو التحفّظ على المصالح لئلا تفوت، و التجنّب عن الوقوع في المفاسد، و من الظاهر عدم وجوب التعليم إلّا فيما وجب فيه التعلّم، و التعلّم إنّما يجب في خصوص الأحكام الإلزامية؛ لأنّ الأحكام الترخيصيّة لا

يجب فيها التعلّم و التقليد.

هذا، و يمكن أن يقال بأنّ التضييق على العامي المكلّف سبب ترك إعلامه بعدم الوجوب أو الحرمة مخالف لما هو المقصود للشارع المقدّس، و لكون هذه الشريعة المطهّرة سمحة سهلة، ضرورة أنّ إيقاعه في الكلفة و المشقّة من دون موجب ممّا لا يرتضيه الشارع، و أدلّة وجوب تبليغ الأحكام لا وجه لدعوى اختصاصها بالأحكام الالتزامية، خصوصاً في مثل المقام، فإنّه تارة يكون الحكم الترخيصي مسكوتاً عنه، و أخرى

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 290

[ابتلاء المصلّي في أثناء الصلاة بما لا يعلم حكمه]

مسألة 31: إذا اتّفق في أثناء الصلاة مسألة لا يعلم حكمها و لم يتمكّن حينئذ من استعلامها بنى على أحد الطرفين بقصد أن يسأل عن الحكم بعد الصلاة، و أن يعيدها إذا ظهر كون المأتي به خلاف الواقع، فلو فعل كذلك فظهرت المطابقة صحّت صلاته (1).

______________________________

يحكم مكانه بحكم إلزامي موجب لوقوع المكلّف في الضيق، فإنّه لا تبعد دعوى وجوب الإعلام في الصورة الثانية ليخرج المكلّف بسببه عن المشقّة و الكلفة، فتدبّر جيّداً.

(1) الظاهر أنّ المراد بهذه المسألة ما إذا اتّفق في أثناء الصلاة مسألة لا يعلم حكمها و لم يكن يعلم أو يحتمل اتّفاقها، فإنّ صورة العلم أو الاحتمال قد تقدّم البحث عنها سابقاً في المسألة الثالثة و العشرين، و في المقام إذا كان الاحتياط ممكناً بالإضافة إليه، كما إذا شكّ في قراءة الفاتحة بعد الدخول في السورة و لم يعلم أنّ حكمه عدم الاعتناء بهذا الشكّ لأجل تحقّق التجاوز عن المحلّ، أو الاعتناء به لعدم تحقّق التجاوز إلّا بالدخول في الركوع مثلًا، فالظاهر وجوب الاحتياط عليه عقلًا بناءً على القول بحرمة قطع الصلاة، كما هو المنسوب إلى المشهور «1».

و

أمّا إذا لم يمكن الاحتياط، كما إذا حصل له مثل هذا الشكّ بالنسبة إلى الركن الذي تكون زيادته و نقيصته موجباً للبطلان مطلقاً عمداً و سهواً، فعلى تقدير عدم كون قطع الصلاة محرّماً، أو عدم كون الحرمة ثابتة في المقام؛ لأنّ الدليل عليها منحصر بالإجماع، و القدر المتيقّن منه غير المقام ممّا كان المكلّف متمكّناً من إتمام الصلاة مع الجزم بصحّتها، يجوز له أن يقطع الصلاة و يأتي بصلاة اخرى فاقدة لمثل هذا الشكّ، كما أنّه يجوز له أن يبني على أحد الطرفين بقصد السؤال عن الحكم بعد الصلاة، و أنّه إذا كان ما أتى به على خلاف الواقع بحيث كان الواجب عليه الإعادة يعيد صلاته، فإذا فعل ذلك و كان عمله مطابقاً للواقع أو مخالفاً له بنحو لم تكن الإعادة واجبة لا تجب عليه الإعادة، بل لا يبعد أن يقال كما مرّ بأنّه لو بنى على أحد الطرفين مطلقاً،

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: 3/ 45، جواهر الكلام: 11/ 123، كتاب الصلاة من مصباح الفقيه: 427، كتاب الصلاة للشيخ عبد الكريم الحائري: 308.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 291

[الوكيل عن الغير يعمل علىٰ رأي مجتهده]

مسألة 32: الوكيل في عمل عن الغير كإجراء عقد أو إيقاع أو أداء خمس أو زكاة أو كفارة أو نحوها يجب عليه أن يعمل بمقتضى تقليد الموكّل لا تقليد نفسه إذا كانا مختلفين، و أمّا الأجير عن الوصي أو الولي في إتيان الصلاة و نحوها عن الميّت فالأقوى لزوم مراعاة تقليده لا تقليد الميّت و لا تقليدهما، و كذا لو أتى الوصي بها تبرّعاً أو استئجاراً يجب عليه مراعاة تقليده لا تقليد الميّت، و كذا الولي (1).

______________________________

و لم يقصد الإعادة على فرض

المخالفة و وجوبها يحكم بصحّة عمله مع المطابقة، أو مثلها إذا لم يكن ذلك مخِلّاً بقصد القربة، كما عرفت في بعض المسائل السابقة «1».

و أمّا لو قلنا بحرمة قطع الصلاة و شمول دليلها لمثل المقام فالطريق ينحصر بالثاني. نعم، قد عرفت في المسألة الثالثة و العشرين المتقدّمة أنّه بناء على هذا المبنى أيضاً لو ارتكب قطع الصلاة المحرّم لا يكون ذلك مخِلّاً بما هو المقصود في المقام من تحقّق الامتثال و الخروج عن عهدة التكليف العبادي المتوجّه إليه، فإنّ حرمة قطع الصلاة أمر، و تحقّق الامتثال و حصول وصف الصحّة للعبادة أمر آخر، و قد وقع بينهما الخلط في بعض الكلمات فلاحظ.

(1) ربّما يقال في مقام الإشكال على ما أفاده الماتن دام ظلّه من وجوب عمل الوكيل بمقتضى تقليد الموكّل لا تقليد نفسه إذا كانا مختلفين ما ملخّصه: أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ إطلاق الوكالة يقتضي إيكال تطبيق العمل الموكّل عليه إلى نظر الوكيل. نعم، إذا اتّفق التفات الموكّل إلى الاختلاف في التطبيق فقد يشكل ذلك من جهة أنّ نظر الموكّل مانع عن عموم التوكيل لمورد الاختلاف، و لكن يدفعه أنّه و إن كان يمنع من عمومه بنظر الموكّل تفصيلًا لكن لا يمنع من عمومه إجمالًا، و هو كاف في جواز العمل.

______________________________

(1) في ص 229 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 292

..........

______________________________

مثلًا إذا وكّله في أن يعقد له على امرأة و كان الموكّل يعتقد فساد العقد بالفارسية و الوكيل يعتقد صحّته، فإنّ موضوع الوكالة و هو العقد الصحيح بإطلاقه الإجمالي ينطبق على العقد بالفارسيّة، و إن كان لا ينطبق بإطلاقه التفصيلي بنظر الموكّل. نعم، إذا كانت

قرينة على تقييد الوكالة بالعمل بنظر الموكّل أو كان ما يصلح أن يكون قرينة على ذلك لم يكن عمل الوكيل المخالف لنظر الموكّل صحيحاً، و إن لم يكن كذلك فإطلاق التوكيل يقتضي جواز عمل الوكيل بنظره، و مجرّد التفات الموكّل إلى الاختلاف لا يكفي في تقييد إطلاق التوكيل مع وجود مقدّماته، و كذلك الكلام في الوصي فإنّ الوصاية استنابة في التصرّف بعد الممات «1».

و التحقيق أنّه يقع الكلام تارة فيما هو وظيفة الوكيل و ما يجب عليه بعد قبول الوكالة و الالتزام بالفعل الموكّل عليه، و أُخرى في جواز اكتفاء الموكّل بما عمله الوكيل بمقتضى تقليد نفسه.

أمّا الأوّل: فالظاهر كما أفاده المستشكل من أنّه لا يجب على الوكيل إلّا ما هو الصحيح بنظره الموضوع لترتّب الآثار عليه، فإنّه لم يلتزم إلّا بالإتيان بالفعل الموكّل عليه بنحو يكون صحيحاً موضوعاً للأثر، و المفروض أنه أتى به كذلك، و هذا لا فرق فيه بين صورتي العلم بالاختلاف و عدمه، كما أنّه لا فرق بين أن يكون العالم بالاختلاف هو الموكّل أو الوكيل أو هما معاً، و لا وجه لوجوب العمل بمقتضى تقليد الموكّل كما أفاده الماتن دام ظلّه، فإذا التزم بأن يعقد للموكّل و يزوّجه امرأة و هو يعتقد صحّة العقد بالفارسية، و زوّجه كذلك فقد وفى بما هو مقتضى الوكالة و عمل بما التزم عمله.

و أمّا الثاني: فالظاهر أنّه لا يجوز للموكّل ترتيب الأثر على ما لا يراه موضوعاً للأثر، فإذا لم يكن يعتقد صحّة العقد بالفارسية و الوكيل زوّجه كذلك فلا وجه لترتيب آثار الزوجية على العقد الكذائي، فإنّه لا يكون وجود العقد بالفارسية عند الموكّل إلّا

______________________________

(1) مستمسك العروة: 1/ 86 87.

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 293

..........

______________________________

كالعدم، فلا يبقى مجال لاحتمال وجوب ترتيب الآثار عليه أصلًا.

نعم، يمكن أن يورد على ما ذكرنا بأنّ الجمع بين جواز اقتصار الوكيل على ما هو الصحيح بنظره غير الصحيح عند الموكّل كما هو المفروض، و بين عدم جواز ترتيب الموكّل آثار العمل الصحيح عليه غير وجيه، فإنّه حينئذٍ لا يكون عمل الوكيل إلّا لغواً غير موضوع للأثر، فكيف يكون العمل الموصوف بكونه لغواً موضوعاً للحكم الشرعي بالجواز، فتدبّر.

و من هنا يمكن أن يقال بأنّ العمل الموكّل عليه إذا كان راجعاً إلى تفريغ ذمّة الموكّل عن التكليف المتوجّه إليه، فلا وجه للاقتصار على ما هو الصحيح عنده الذي لا يؤثّر في فراغ ذمّة الموكّل أصلًا، كما أنّ الأمر في الوصي نوعاً كذلك. نعم، في المتبرّع و الولي كالولد الأكبر الحكم هو تفريغ الذمّة بما هو الصحيح عندهما لا عند الميّت، و ذلك لأنّ التكليف الوجوبي أو الاستحبابي متوجّه إليهما ابتداءً، بخلاف الوكيل و الوصي اللذين هما نائبان و بمنزلة الموكّل و الموصى قائمان مقامه.

و أمّا الأجير، فإن كان مورد الإجارة أمراً عباديا فمع علم الأجير ببطلانها لا تصحّ الإجارة عليها؛ لأنّه لا يتمشّى منه قصد التقرّب، ضرورة أنّه كيف يمكن أن يقصد التقرّب بما يعلم عدم كونه مقرّباً مطلوباً للمولى بوجه. نعم، مع احتمال الصحّة المساق لاحتمال المطلوبية و رجائها يصحّ الإتيان بها كذلك، و يتمشّى منه قصد التقرّب بهذه الكيفيّة الراجعة إلى الإتيان بها برجاء المحبوبية، كما في موارد احتمال تعلّق الأمر في أعمال نفسه كالإتيان بغسل الجنابة مع احتمالها.

و أمّا إذا كان المستأجر عالماً بالبطلان و الأجير معتقداً للصحّة فالظاهر أيضاً بطلان الإجارة، لعدم اشتمال

العمل المستأجر عليه على منفعة عائدة عقلائيّة عند المستأجر، فأكل المال في مقابله أكل المال بالباطل، هذا بحسب مقام الثبوت.

و أما بحسب مقام الإثبات، فالظاهر أنّه لا يجب على الأجير عند الإطلاق إلّا الإتيان

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 294

[اختلاف المتعاملين في التقليد]

مسألة 33: إذا وقعت معاملة بين شخصين و كان أحدهما مقلّداً لمن يقول بصحّتها، و الآخر مقلداً لمن يقول ببطلانها يجب على كلّ منهما مراعاة فتوى مجتهده، فلو وقع النزاع بينهما يترافعان عند أحد المجتهدين أو عند مجتهد آخر، فيحكم بينهما على طبق فتواه و ينفذ

______________________________

بما هو صحيح بحسب اعتقاده و الموضوع للأثر على نحو ما مرّ في الوكالة.

و أمّا لو كان مورد الإجارة أمراً غير عبادي كما إذا استأجره لإيقاع عقد أو إيقاع فهل المعتبر حينئذٍ لزوم الإتيان بما يكون صحيحاً عنده، أو أنّه لا بدّ من رعاية الصحيح عند المستأجر؟ ربّما يقال بأنّه في مقام الإثبات إن كان هناك قرينة على تقييد العلم بنظر شخص معيّن تعيّن العمل عليها و إلّا كان مقتضى إطلاق الإجارة العمل بنظر الأجير على نحو ما تقدّم في الوكيل.

و مقتضى ذلك جواز الاقتصار على الصحيح عنده و لو مع العلم بالبطلان عند المستأجر، مع أنّه يمكن أن يقال ببطلان الإجارة في هذا الفرض أيضاً، فإنّه مع العلم ببطلان العقد عند المستأجر و أنّه لا يكون موضوعاً للأثر الشرعي بوجه لا يكون العمل المستأجر عليه حينئذٍ إلّا لغواً خالياً عن الفائدة، مع أنّه يعتبر في صحّة الإجارة على المشهور «1» أن يكون في العمل المستأجر عليه منفعة عائدة إلى المستأجر و نفع واصل إليه، فإذا لم يكن العقد بالفارسيّة عنده إلّا كالعدم

فكيف يصحّ الاستئجار عليه و بذل المال في مقابله؟! اللّهم إلّا أن يقال: إنّ مورد الإجارة ليس خصوص العقد بالفارسية حتى لا يصحّ الاستئجار عليه، بل إيقاع عقد صحيح بنحو كلّي. غاية الأمر أنّ الأجير اختار من مصاديقه ما يكون صحيحاً بنظره غير صحيح بنظر المستأجر، إلّا أن يناقش في صحّة الإجارة بهذه الكيفيّة الراجعة إلى كون المستأجر عليه كلّياً قابلًا للانطباق على ما لا يكون فيه منفعة عائدة إلى المستأجر، و التحقيق في محلّه.

______________________________

(1) راجع مسالك الافهام: 3/ 130، جواهر الكلام: 22/ 116 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 295

حكمه على الطرفين، و كذا الحال فيما إذا وقع إيقاع متعلّق بشخصين، كالطلاق و العتق و نحوهما (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة وجوه بل أقوال ثلاثة:

أحدها: ما اختاره صاحب العروة (قدّس سرّه) «1» من الحكم ببطلان المعاملة من كلا الجانبين لأنّها متقوّمة بالطرفين، و معاقدة و ارتباط بين الالتزامين، فلا يعقل أن يكون صحيحاً من جانب واحد، فإذا حكم ببطلانه من طرف واحد فاللازم الحكم بالبطلان من كلا الطرفين.

ثانيها: ما اختاره المحقّق الأصفهاني (قدّس سرّه) «2» في حاشية المكاسب من الحكم بصحّة المعاملة من كلا الطرفين، و جواز ترتيب الأثر عليها من كلّ من المتعاملين؛ لأنّ المعاملة أمرٌ يتقوّم بطرفي المعاملة، فإذا كانت محكومة بالصحّة من طرف واحد فمقتضى ذلك صحّتها من الطرف الآخر أيضاً للدلالة الالتزامية.

ثالثها: ما اختاره الماتن دام ظلّه و الشارحان «3» للعروة من أنّه لا مانع من التفكيك و الحكم بصحّة المعاملة من طرف و بطلانها من الطرف الآخر، فالمعاملة عند من يرى جواز العقد بالفارسية و أوقعها كذلك صحيحة مؤثّرة في النقل و

الانتقال، و عند من لا يرى جواز ذلك لم يؤثّر في التمليك و التملّك بوجه.

و دعوى: أنّه كيف يمكن التفكيك مع العلم ببطلانه، فإنّ المعاملة إذا كانت صحيحة تكون كذلك من الجانبين، و إذا لم تكن صحيحة تكون كذلك من الطرفين، و بعبارة اخرى لا يعقل تأثيرها في نقل المبيع مثلًا فقط، من دون أن تكون مؤثّرة في انتقال الثمن أو بالعكس، فكيف يمكن تحقّق التأثير بالإضافة إلى الثمن دون المثمن.

مدفوعة بأنّ ذلك إنّما هو بالإضافة إلى الحكم الواقعي، فإنّ المعاملة بهذه الملاحظة لا يعقل أن تكون صحيحة و فاسدة معاً، و أمّا بالإضافة إلى الحكم الظاهري

______________________________

(1) العروة: 1/ 19 مسألة 55.

(2) راجع حاشية المكاسب للأصفهاني: 1/ 295 296.

(3) مستمسك العروة: 1/ 88 89، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 385.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 296

[معنىٰ الاحتياط المطلق]

مسألة 34: الاحتياط المطلق في مقام الفتوى من غير سبق فتوى على خلافه أو لحوقها كذلك لا يجوز تركه، بل يجب إمّا العمل بالاحتياط أو الرجوع إلى الغير الأعلم فالأعلم، و أمّا إذا كان الاحتياط

______________________________

الذي هو مفروض البحث في المقام؛ لأنّ الكلام في التقليد الذي هو أمارة شرعية و تكون نتيجته الحكم الظاهري فلا مانع من التفكيك كما في سائر موارد الحكم الظاهري، أعمّ ممّا كان مدلولًا لأمارة شرعية أو مقتضى أصل عمليّ، فإذا قامت البيّنة على كون مائع خمراً يكون شربه حراماً على ما قامت عنده البيّنة، و إذا قامت بيّنة اخرى على عدم كونه كذلك يكون حلالًا على من قامت عنده هذه البيّنة، كما أنّه إذا كان أحد الشخصين عالماً بأنّ الثوب كان في السابق نجساً، و

قد شكّ فعلًا في طهارته، يكون مقتضى الاستصحاب الجاري في حقّه بقاء نجاسته و وجوب الاجتناب عنه بالإضافة إلى هذا الشخص، و مقتضى أصالة الطهارة الجارية في حقّ الشخص الآخر الذي لم يكن عالماً بحالته السابقة أنّه طاهر، و لا مانع من اجتماع الحكمين بالإضافة إلى الشخصين.

نعم، في مثل المقام و هو المعاملة المتقوّمة بالطرفين و المضافة إلى الشخصين، أعمّ ممّا إذا كان عقداً أو إيقاعاً كالعتق و الطلاق ربّما يؤدّي التفكيك إلى الاختلاف و النزاع بين المتعاملين، فاللازم حينئذٍ الرجوع إلى الحاكم من دون فرق بين كونه أحد المجتهدين المقلّدين لهذين الشخصين أو مجتهداً ثالثاً، فيحكم بينهما على طبق فتواه و ينفذ حكمه على الطرفين، فيرتفع النزاع من البين، كما في سائر موارد فصل الخصومة بين الشخصين، فإذا حكم الحاكم بثبوت المال الذي هو مورد الاختلاف للمدّعي لا يجوز للمنكر مزاحمته و التصرّف فيه بوجه، و لو كان عالماً بكذب المدّعى و عدم كونه مالكاً للمال بوجه، و التحقيق في محلّه، و الظاهر هو هذا الوجه الثالث لما عرفت من وجهه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 297

في الرسائل العملية مسبوقاً بالفتوى على خلافه، كما لو قال بعد الفتوى في المسألة: و إن كان الأحوط كذا، أو ملحوقاً بالفتوى على خلافه، كأن يقول: الأحوط كذا، و إن كان الحكم كذا، أو و إن كان الأقوى كذا، أو كان مقروناً بما يظهر منه الاستحباب، كأن يقول: الأولى و الأحوط كذا، جاز في الموارد الثلاثة ترك الاحتياط (1)

______________________________

(1) الفرق بين الاحتياط المطلق الذي يعبَّر عنه بالاحتياط الوجوبي أيضاً؛ و هو الذي يذكر في مقام الفتوى و مكانها من غير سبق فتوى

على خلافه أو لحوقها كذلك، و من غير اقتران بما يدلّ على جواز تركه و بين الاحتياط غير المطلق، الذي يعبَّر عنه بالاحتياط الاستحبابي؛ و هو ما يقابل الأوّل إنّما هو في أمرين:

أحدهما: أنّ الاحتياط المطلق لا يجوز تركه و الاحتياط الاستحبابي يجوز تركه، و هذا هو الفارق المهمّ بين الاحتياطين، و الوجه فيه واضح؛ لأنّ الاحتياط المطلق إنّما قام مقام الفتوى، و قد اعترف المجتهد فيه بعدم وصوله إلى الحكم الواقعي و لو من طريق الأمارة، فلا محيص حينئذٍ عن الاحتياط عقلًا لكون المورد من موارده، و هذا بخلاف الاحتياط غير المطلق الذي وصل المجتهد فيه إلى الحكم. غاية الأمر أنّه يحتاط للعلم بتحقّق الواقع مع عدم لزومه بنظر العقل، و هذا الفرق مصرّح به في المتن.

ثانيهما: أنّ الاحتياط المطلق يجوز فيه الرجوع إلى الغير مع رعاية الأعلم فالأعلم، و الاحتياط الاستحبابي لا يجوز فيه الرجوع إلى الغير و الوجه فيه أنّه في مورد الاحتياط الوجوبي لا يكون للأعلم رأي و نظر، فلا مانع من الرجوع إلى الغير الذي يكون صاحب الرأي مع الرعاية المذكورة، ضرورة إنّما دلّ على عدم جواز الرجوع إلى الغير إنّما هو في مورد ثبوت الرأي للأعلم. و أمّا مع عدمه كما هو المفروض في مورد الاحتياط الوجوبي فلا مانع من الرجوع إليه. و أمّا في الاحتياط الاستحبابي فالمفروض فيه ثبوت الفتوى و الرأي للأعلم، فلا مسوّغ للعدول عنه إلى غيره بعد تعيّن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 298

..........

______________________________

الأعلم للتقليد.

ضرورة أنّه ليس المراد الرجوع إلى الغير بالإضافة إلى الاحتياط، لما مرّ مراراً «1» من أنّ الاحتياط طريق ثالث في مقابل الطريقين الاجتهاد و

التقليد، بل المراد الرجوع إليه بالنسبة إلى الفتوى الّتي تكون مسبوقة بالاحتياط أو ملحوقة به، و مع ثبوت الفتوى للأعلم و تعيّنه للتقليد كما هو المفروض لا مجال للرجوع إلى الغير و لو مع الرعاية المذكورة، و هذا الفرق و إن لم يقع التصريح به في المتن إلّا أنّه يظهر منه باعتبار التصريح بجواز الرجوع إلى الغير في خصوص الاحتياط المطلق الظاهر في عدم الجواز في مقابله.

نعم، هنا شي ء قد وقع البحث عنه سابقاً في ذيل المسألة الحادية عشر المتقدّمة؛ و هو أنّ ما اشتهر من جواز الرجوع إلى غير الأعلم في الاحتياطات الوجوبية المطلقة للأعلم، هل يكون تماماً على إطلاقه، أو أن جواز ذلك إنّما يختصّ بما إذا كان منشأ الاحتياط الوجوبي عنده عدم تماميّة الاستنباط عنده و عدم كماله لديه؟ و أمّا إذا كان المنشأ عدم تماميّة الأدلّة للحكم بأحد الطرفين أو الأطراف عنده فلا يجوز الرجوع إلى الغير الذي تكون فتواه تعيّن أحدهما أو أحدها أو التخيير، و ذلك لأنّ مستند رأي غير الأعلم حينئذٍ يكون باطلًا بنظر الأعلم مخدوشاً عنده، غير قابل للاستناد إليه و الحكم على طبقه، و هذا أمرٌ يكون للأعلم فيه النظر و الرأي، حيث إنّه يرى ذلك و يعتقد البطلان، فلا مجال حينئذٍ للحكم بجواز الرجوع إلى الغير.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ عدم تماميّة الدليل عند الأعلم لا يوجب بطلان الحكم و فتوى الغير عنده، ضرورة أنّه مع ثبوت البطلان لا يبقى مجال للاحتياط، بل يوجب عدم صلاحيّته للاستناد مع احتمال كون الحكم الواقعي مطابقاً لمدلوله و موافقاً لمفاده، و عليه فلا وجه لما ذكر من ثبوت الرأي للأعلم، فإنّه لا رأي له أصلًا، بل يمضي على

طبق الاحتمال و يجري على ما هو مقتضى حكم العقل من الاحتياط.

______________________________

(1) في ص 8 16.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، ص: 299

..........

______________________________

و بعبارة اخرى البطلان الذي يعتقده الأعلم إنّما هو بطلان الدليل؛ بمعنى عدم صلاحيّته للاستناد في مقام الفتوى لا بطلان مضمونه و كونه مخالفاً للواقع، و الرأي الذي يمنع عن الرجوع إلى الغير إنّما هو الرأي بالإضافة إلى الحكم الشرعي و الاعتقاد بالنسبة إليه، و لو من طريق أمارة أو أصل، و الذي يكون ثابتاً في الاحتياطات الوجوبيّة المفروضة هو الأوّل دون الثاني، و عليه فيبقى ما اشتهر من جواز الرجوع إلى غير الأعلم في مطلق الاحتياطات المطلقة على حاله من الصحّة و التماميّة، فافهم و اغتنم.

و قد وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق بيد العبد المفتاق إلى رحمة ربّه الغني: محمّد الموحّدي اللنكراني، الشهير بالفاضل ابن العلّامة الفقيه الفقيد آية اللّٰه المرحوم الفاضل اللنكراني قدّس سرّه القدوسي، و حشره اللّٰه مع من يحبّه و يتولّاه من النبيّ و الأئمّة المعصومين صلوات اللّٰه عليه و عليهم أجمعين و الرجاء من فضل اللّٰه و كرمه أن يكون مقبولًا عنده، و إن كان غير لائق للقبول، و أن يوفّقني لإتمام هذا الشرح، و إن كانت الموانع غير معدودة و المصائب الفردية و الاجتماعية، الدينيّة و الدنيويّة متعدّدة، و الرجاء من القرّاء أن ينظروا إليه بعين الإغماض، فإنّه ليس المعصوم إلّا من عصمه اللّٰه تعالى من الإفراد المعدودة المخصوصة.

و كان ذلك في يوم الجمعة الخامس و العشرين من شهر ربيع المولود من سنة 1394 من الهجرة النبويّة، على مهاجرها آلاف الثناء و التحيّة في بلدة «يزد» المعروفة بدار العبادة، و أنا

مقيم فيها بالإقامة المؤقّتة الإجباريّة، و لَعَلَّ اللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً إن شاء اللّٰه تعالى.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - الاجتهاد و التقليد، در يك جلد، دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم، قم - ايران، دوم، 1414 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.